محمد العزير
مع أداء جوزيف بايدن، يوم الأربعاء في العشرين من كانون الثاني (يناير) الحالي، اليمين الدستورية لمباشرة مهامه الرئاسية ليكون الساكن رقم 46 في البيت الأبيض، وبشيء من التفاؤل وقليل من الثقة، يمكن القول إن الديمقراطية في أميركا نجت من أكبر تحدٍ يواجهها منذ حقبة المكارثية في خمسينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من الفارق الكبير بين حجم الخطر المحدود نسبياً (الذي مثلته ظاهرة السيناتور الجمهوري جون مكارثي)، والخطر الأشمل الذي تمثّل في محاولة الانقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي قادها بغباء، الرئيس الخاسر دونالد ترامب، وتوجتها الهجمة الميليشياوية المنظمة على مقر الكونغرس أثناء التصديق على فوز بايدن، أثبت النظام الديمقراطي الأميركي أنه قادر على البقاء والاستمرار، بفضل النصوص الصريحة دستوراً وقانوناً، وبفضل الممارسة السياسية المترسخة لقرابة قرنين ونصف القرن من الزمن.
واشنطن العاصمة التي وصل إليها بايدن قبل يوم من تنصيبه على متن طائرة خاصة، لأن سلفه المهزوم ترامب لم يلتزم بعرف إرسال طائرة رئاسية تقل الرئيس المنتخب، لم تكن «عاصمة» الديمقراطية في العالم في يوم الانتقال السلمي للسلطة الذي حصل 45 مرة منذ الاستقلال، والذي تتباهى به رسمياً وشعبياً بصرف النظر عن الفائز والخاسر، ليس فقط بسبب الإجراءات التي فرضها وباء «كوفيد–19»، وإنما أولاً بسبب الجو الأمني الذي خلفته «غزوة» أنصار ترامب من القوميين البيض المتعصبين والنازيين الجدد والميليشيات اليمنية التي وفر لها ترامب خلال سنوات إدارته الأربع أفضل الظروف لتنتعش وتخرج إلى العلن بشعاراتها العنصرية ومواقفها الفاشية واستعراضاتها المسلحة التي جعلت من اقتحام مبنى الكونغرس أمراً قابلاً للتنفيذ بإشارة من ترامب وعائلته والمهووسين من معاونيه (وبعضهم مدان قضائياً في قضايا فساد وتآمر وتهرب ضريبي). تحولت المدينة منذ مصادقة الكونغرس على نتائج الانتخابات في السادس من الشهر الحالي، إلى منطقة عسكرية مقفلة ينتشر على طرقاتها وحول مقراتها الحكومية 25 ألف عسكري من الحرس الوطني والقوات المسلحة فضلاً عن آلاف عناصر الشرطة المحلية والمؤسسات الأمنية الفدرالية.
لم تتعود واشنطن في أحلك الأيام التي مرت على أميركا ان تكون أسيرة التدابير الأمنية، وأن تقوم في وسطها «منطقة خضراء» تيمناً بوسط بغداد الذي تم عزله وتحصينه بعد الاحتلال الأميركي للعراق. ارتفعت السياجات الحديدية المتوجة بأسلاك شائكة إلى جانب حواجز الإسمنت المسلح، وفرض منع التجول فيها براً، ومنعت الملاحة في نهر «پوتوميك» ومنع الطيران في مجالها الجوي. ومع ذلك وقف بايدن إلى جانب أول امرأة، وأول ملونة تتولى منصب نيابة الرئاسة، كامالا هاريس، والرؤساء السابقين بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما وزوجاتهم، أمام جمهور محدود من الرسميين والمدعوين ليتمم طقس أداء القسم ويثبت لأميركا أولاً أن الديمقراطية فيها، بخير.
لكن هل الديمقراطية فعلاً بخير؟ صحيح أنها ربحت جولة صاخبة وتفادت عودة متأخرة إلى حرب أهلية يبدو أن شياطينها «البيض» لم يقتنعوا حتى الآن بانهم خسروها منذ 157 سنة وبأن التاريخ لا يعود إلى الوراء مهما اعترضه من مطبات، لكن حماقة ونرجسية الرئيس المهزوم ترامب الذي رفض حضور حفل التنصيب وأقام لنفسه، على مقربة من ساحة المعركة التي دعا أنصاره وشذاذ الأفاق إليها، احتفالاً رسمياً حاول قصارى جهده، دون جدوى، أن يكون حاشداً ليغطي على الاحتفال الأهم، لا تبشران بالخير خصوصاً وأنه ينتظر محاكمته الدستورية أمام مجلس الشيوخ قريباً جداً، ويواجه المرحلة الجديدة من حياته العامة وهو شبه معزول حتى من معظم أركان الحزب الجمهوري الذي وفر له طوال أربع سنوات غطاء شاملاً لكل مساوئه وترهاته ومخالفاته خوفاً من شعبيته بين المحافظين والتي تلقت هي أيضاً صفعة قوية بعد «غزوة» الكونغرس.
لا يزال ترامب محاطاً بالشخصيات التي مكنته من تحطيم الكثير من الأصول الديمقراطية وبوجوه إعلامية نافذة لا تجد في الفاشية غضاضة من منطلقات عنصرية بحتة. وقد يكون أسلم مخرج للنظام السياسي الأميركي أن يؤسس ترامب حزباً سياسياً جديداً كما ألمح إلى ذلك عشية مغادرته البيت الأبيض، خطوة كهذه ستسهل على مؤسسة الحزب الجمهوري، التي أذلّها ترامب وتذللت له طوال فترة ولايته، أن تتطهر منه ومن الشريحة الأكثر عنصرية في جمهور المحافظين لتعود إلى ممارسة اللعبة الديمقراطية الكلاسيكية، إلا أن خياراً كهذا سيعني خسارة الحزب على المدى المنظور على المستويين الفدرالي والإقليمي، مثلما خسر الحزب الديمقراطي جناحه العنصري الجنوبي بعد رئاسة ليندون جونسون الذي أقر قانون الحقوق المدنية.
الاحتمال الآخر هو بقاء ترامب في الحزب ليلعب دور صانع القيادات على أمل الترشح للرئاسة بعد أربع سنوات (إذا لم يصوت مجلس الشيوخ على ادانته ومنعه من الترشح لأي منصب حكومي). وسيكون على الجمهوريين في هذه الحال أن يحاصروا ترامب الذي فقد الكثير من نفوذه وأن يساهموا في إدانته وعزله، وهذا يبدو حتى الآن مستبعداً خصوصاً وأن الانتخابات النصفية المقبلة ستكون بعد أقل من سنتين وسيكون لترامب دور فاعل في المرحلة التمهيدية منها على الأقل.
في المقابل، ستكون أمام المؤسسة السياسية الأميركية بشقيها الديمقراطي والجمهوري، وبالتحديد ثقلها الأمني والبيروقراطي، فرصة حقيقية للتخلص من آخر أوهام الحرب الأهلية، ودفن أيديولوجيا التفوق الأبيض، وتطبيق القانون نصاً وروحاً، أي كما قال داعية الحقوق المدنية الشهير الذي احتفلت أميركا بيومه قبل أيام، الدكتور مارتن لوثر كينغ، في آخر خطاب له قبل اغتياله «كل ما نريده من أميركا أن تلتزم بما كتبته على الورق». وإلى حين اتضاح الصورة سيكون علينا انتظار أعمال إرهابية محلية… وهذه المرة سيكون هناك قانون يسمي الأشياء بأسمائها ويصنف العنصريين البيض كـ«إرهابيين» بلا تعليل ولا تبرير.
من السهل الآن تصور ترامب في رحلته الأخيرة على متن طائرة الرئاسة التي أقلته إلى منتجعه الفخم في فلوريدا، رجلاً مهزوماً وتحت الاتهام، منبوذاً ممن كانوا حتى أيام قليلة يسعون لإرضائه. لن يكون همه الأول مستقبله السياسي، الأرجح أنه سيكون مشغولاً بهمومه القانونية التي ستبدأ مع محاكمته الدستورية (التي لم يجد حتى الآن مكتب محاماة محترف يتوكل له فيها)، ولن تنتهي مع الدعاوى المرفوعة عليه في نيويورك وواشنطن وربما ولاية جورجيا، فضلاً عن دعاوى مدنية وجنائية تتعلق بمخالفته القانون لإسكات ضحاياه وبدعاوى اغتصاب كانت المحاكم تنتظر زوال الحصانة الرئاسية عنه لتباشر النظر فيها.
فهل ستكون ولاية ترامب بداية نهاية حقبة «الدلع» العنصري الأبيض في أميركا، أم بداية حركة شعبية (فاشية)، كما قال في خطاب الوداع. لننتظر.
Leave a Reply