كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم يبق موظف من الفئة الأولى في لبنان بمنصبه، مثل حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة الذي تولى منصبه عام 1993، بقرار من الرئيس رفيق الحريري، بعد أن كان يدير له أمواله كموظف في شركاته، وقد انتدبه إلى مؤسسة «ميريل لينش» التي تتعاطى في البورصة وتداول العملات، فارضاً إياه على رئيس الجمهورية إلياس الهراوي، رغم مارونية المنصب، باعتبار أن سلامة يمكنه ضبط سعر صرف الليرة أمام الدولار بعد أن وصل حينه إلى حدود الثلاثة آلاف ليرة.
خط أحمر
تحت عنوان، وقف تدهور النقد الوطني، الذي كان بدأ في عهد الرئيس أمين الجميّل، في ثمانينيات القرن الماضي، ولم يتوقف بعد اتفاق الطائف، وصل سلامة إلى حاكمية مصرف لبنان، الذي تأسس في عهد الرئيس فؤاد شهاب، وتوالى عليه أربعة حكام قبل سلامة، هم: فيليب تقلا، الياس سركيس، ميشال الخوري وإدمون نعيم، وقد أمضى كل منهم ست سنوات أو أكثر.
ففي السابق، كان الحاكم –وهو موظف من خارج الملاك– يُعيّن مع كل رئيس جمهورية ويبقى حتى انتهاء ولايته المحددة في قانون النقد والتسليف، ومعه نواب الحاكم والمجلس المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، وتنتدب الحكومة مدير عام وزارة المال كمفوّض لها في مصرف لبنان، الذي تقع عليه مراقبة أعماله، فكان نواب الحاكم وغيرهم من الموظفين يتبدلون، إلا سلامة الذي لازال حاكماً لمصرف لبنان منذ 28 سنة، وقد لا يضاهيه في ذلك سوى رئيس مجلس النواب نبيه برّي.
فقد تمتع سلامة بغطاء سياسي، أمّنه له الرئيس رفيق الحريري، وهو الذي كان ينفذ له سياسته النقدية، ويؤمن له السيولة للخزينة عبر سندات بفوائد عالية، أدت إلى تراكم الدين العام وخدمته. كذلك لم يغب الغطاء الطائفي من بكركي لحاكم المصرف المركزي، لأنه منصب ماروني، وهذا ما عبّر عنه البطريرك بشارة الراعي مؤخراً، بعد اندلاع الأزمة المالية، وخروج المواطنين إلى الشارع، فطالب بعضهم باستقالة سلامة وإسقاطه، إلا أن البطريركية المارونية اعتبرته خطاً أحمر، كما الرئيس فؤاد السنيورة بالنسبة لـ«دار الفتوى»، وفق ما صرّح مفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان، بل إن الغطاء نفسه يكاد ينطبق على أي موظف أو مسؤول فاسد تابع لهذه الطائفة أو تلك… وهكذا استمدّ سلامة قوته من السلطة السياسية ورجال دين والمصارف التي تناغم معها، وأمّن لها مصالحها.
تثبيت سعر صرف الليرة
منذ تسلّمه حاكمية مصرف لبنان، عمل سلامة وفق سياسة نقدية تقوم على تثبيت سعر صرف الليرة، فقرّر أن يعوّم السوق بالدولار كعملة أجنبية تحل محل الوطنية، وسانده بذلك وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة، الذي كان ينوب عن وزير المال الأصيل رفيق الحريري. وبدأ سلامة استخدام الفوائد العالية لجذب «العملة الصعبة» كما تسمى شعبياً، أي الدولار وغيره، فلجأ إلى سندات الخزينة بفائدة وصلت إلى 42.5 بالمئة، فاستفاد رجال المال والأعمال من هذا التدبير، الذي بدأ تأثيره إيجاباً على سعر صرف الليرة، بعد أن أصبح الطلب على الدولار قليلاً، إذ ارتفع الاحتياط بالعملات الأجنبية، ووصل إلى حدود 174 مليار دولار.
هذا التثبيت لسعر صرف الليرة، كان يواجه برفض من بعض القوى السياسية وخبراء المال والاقتصاد، إذ دعا المعارضون إلى تحرير سعر الصرف لتشجيع المودعين وأصحاب الأموال على الاستثمار في الاقتصاد المنتج، وتغيير النهج الاقتصادي الريعي المعتمَد من قبل «الحريرية السياسية» التي ركّزت على القطاع المصرفي والخدمات والسياحة، فازدهر العمل بالعقارات التي ارتفعت أسعارها، على حساب المواطن اللبناني الذي لم يعد قادراً على شراء منزل أو أرض، بعد أن تدفقت أموال من دول عربية وأجنبية لشراء العقارات في لبنان، في ظل أزمات مالية وعقارية عصفت بالعديد من دول العالم كالولايات المتحدة والإمارات، وتحديداً دبي، فكان لبنان هو الجهة الجاذبة للاستثمار بالرغم من انقساماته الداخلية وأزماته السياسية والصراعات العسكرية.
الهندسات المالية
السياسة النقدية التي اتّبعها سلامة، رهنت لبنان لدين متفاقم غالبيته من المصارف اللبنانية، وقد بدأ ذلك يؤثر على موازنته منذ العام 1997، حين ظهرت أول أزمة اقتصادية في لبنان ما بعد الحرب الأهلية، إذ لم يعد بمقدور الحكومة آنذاك الإيفاء بتعهداتها المالية، مع استحقاق الدين وخدمته، فذهب الرئيس رفيق الحريري إلى واشنطن وعقد مؤتمراً لـ«أصدقاء لبنان»، فلم يحصل على الدعم المطلوب، وتمّ توجيهه مجدداً إلى الداخل، ليستعين بالمصارف اللبنانية ويطلب منها إيداع أربعة مليارات دولار بفائدة صفر بالمئة، لكي يحافظ على الاستقرار النقدي، في ظل تصاعد المعارضة لأدائه المالي والاقتصادي
وقد حاول الرئيس إميل لحود بعد انتخابه رئيساً للجمهورية، أن يغيّر في سياسة الحريري المالية، فأتى بسليم الحص رئيساً للحكومة مع وزير المالية جورج قرم، وهما على نقيض من نهج الحريري، الذي شجّع على الخصخصة، فباتت مؤسسات منتجة ورابحة للدولة، بيد شركات خاصة كالاتصالات قبل أن يستعيدها الرئيس لحود للدولة رغماً عن إرادة الحريري.
لكن مع عودة الحريري الأب إلى السراي بعد انتخابات العام 2000، عادت عقلية الاستدانة عبر عقد مؤتمري باريس–1 و2، غير أن ذلك لم يؤدِّ إلا إلى تراكم الدين العام وتباطؤ الاقتصاد، وهو ما حصل مع وريثه سعد الحريري، الذي واصل السير على نهج والده في الاقتراض، وتحديداً من مصارف الداخل عبر البنك المركزي من خلال إغراء المصارف بفوائد عالية، لتقديم المبالغ المطلوبة للدولة بغية تسيير شؤونها ودفع رواتب موظفيها.
إلا أن السيولة لدى المصارف أخذت تجف، لسوء إدارة الاستثمارات، ما دفع حاكم مصرف لبنان إلى وضع هندسات مالية لحماية مصالح المصارف لاسيما المملوكة أو المرتبطة بأركان السلطة، مثل «بنك البحر المتوسط» الذي يملكه الحريري نفسه، فجاءت الهندسات لصالح البنوك على حساب المودعين الذين استنزفت أموالهم من قبل المصارف في أعمال خارجية خاسرة، أو في تمويل الدولة اللبنانية.
وقد بدأت نذر هذه الأزمة تظهر منذ سنوات، قبل أن تنفجر في العامين الأخيرين، بعد أن استفادت المصارف من أموال المغتربين والسوريين الذين نقلوها إلى لبنان، للاستفادة من الفوائد العالية للمصارف التي ترسملت –بدورها– من تلك الأموال، وأيقنت أن الدولة لم تعد قادرة على الإيفاء بتسديد خدمة الدين، فقام أصحاب المصارف بنقل أموالهم إلى الخارج، وهذا ما اعترف به سلامة، مطالباً إياها بإعادة نسبة من تلك الأموال التي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، منذ العام 2017.
وقد حدث ذلك قبل انفجار الشارع بسنتين، لكن سلامة سكت عن الأمر، وراح يعلن بأن «الليرة بألف خير»، في مسعى لطمأنة المودعين على أموالهم في المصارف التي أقدمت على رفع فوائدها لإغراء المزيد من رؤوس الأموال، قبل أن تبيّن أن تلك الفوائد لم تكن سوى فخّ وقع فيه آلاف المودعين الصغار والكبار الذين لما قرروا سحب أموالهم، تفاجأوا بتدابير «الكابيتال كونترول» غير القانونية، وأصبحت ودائعهم في مهب الريح.
محاكمة سلامة
قبل ظل اشتداد الأزمة المالية، التي يتحمل سلامة جزءاً كبيراً منها بسبب إخفائه الحقيقة عن اللبنانيين، حذر وزير المال السابق علي حسن خليل من أن الدولة تتّجه إلى «هيكلة دَينها»، لكنه سرعان ما تراجع عن تصريحاته التي دقت ناقوس الخطر لدى كبار المتمولين فسارعوا إلى تهريب أموالهم إلى الخارج، ومنهم سلامه نفسه الذي تبين أنه نقل مئات ملايين الدولارات إلى سويسرا.
وفي هذا الإطار، طلب القضاء السويسري من القضاء اللبناني التعاون معه، لمعرفة كيف، ومن أين وصل مبلغ 400 مليون دولار لسلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريانا الحايك إلى مصارف سويسرية. وقد حرّكت هذه الدعوى، النيابة العامة التمييزية في لبنان، فاستدعى القاضي غسان عويدات سلامة واستمع إليه، فكان ردّه، بأنه سيذهب إلى القضاء السويسري، للإدلاء بما لديه ودحض «الأكاذيب» بحقه، زاعماً بأنها مفبركة وتستهدفه شخصياً كما دور المصرف المركزي الذي يتعرّض لهجوم، وهو الذي حمى الليرة في ظل أزمات كبرى مرّت على لبنان كالاعتداءات الإسرائيلية واغتيال رفيق الحريري.
يرى سلامة بأن الحملة عليه سياسية، ومرتبطة برئاسة الجمهورية، غامزاً من قناة رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره السياسي، الذي كان يرغب باستبداله، لكن التسوية الرئاسية أوقفت ذلك لتمسك الحريري به. ولكن مع سقوط التسوية، وقرب العهد من انتهاء ولايته، قرّر عون المضي قدماً بالإصلاح المالي، عبر تشكيل لجنة تدقيق جنائية، وقد تمّ التعاقد مع شركة «ألفاريز أند مارسال» للقيام بالمهمة، لكنها جوبهت بـ«السرية المصرفية»، بعد أن رفض سلامة تزويدها بالمعلومات، خشية أن تُكشف «مغارة الأربعين حرامي». وبناء عليه، تقدّم محامون بإخبار أمام القضاء اللبناني بحق سلامة، فحققت معه القاضية غادة عون، دون أن توقفه لاستكمال التحقيق معه، وذلك بالتزامن مع كشف النائب فابيان مورينا عن تحويل 2.2 مليار دولار من لبنان منذ العام 2016، دون استبعاد أن يكون سلامة من بينهم، وهو ما دفع القضاء إلى التحرّك للكشف عن المعلومات في ظل مطالبة شعبية باستعادة المال المنهوب.
فهل وقع سلامة في شباك القضاء السويسري وانتهى دوره، فيفضح شركاءه؟…
Leave a Reply