كمال العبدلي
يلاحظُ المتتَبِّع لديوان الشِعرِ العربي، انبراءَ المراثي في مختلف عصورِهِ الأدبية، بدءاً من العصرِ الجاهلي إلى يومنا المعاصِر، حيث مواجهة الحقيقة الماثلة بين مباهج الحياة وتأثيرها الباعث على الإنتشاءِ بمظاهرِ التمدّن واندماجهِ بالغرائزيّ وبين إيقاع الموت الفجائعيّ، وتلك معادلةٌ يصعبُ الوصول إلى التوافقِ بينهما من دون الغَورِ في طروحاتِ الفلاسفة الأقدمين والمحدثين على السواء، كما تميّز بالغزارة في هذا الجانب الموضوعيّ عن بقية منجز الشعر العالمي لأسباب تتعلّق بغزارةِ التحضّر التاريخيّ الإنسانيّ العربيّ المتواتر عبر العصور التي سبقت وحشيّةَ التنينِ الإمبريالي الماثل ومعاداته لنهضة الشعوب، أختصر المراثي من العصر الجاهلي بمقتطفات من مرثيات بنات عبد المطّلب الراقيات على التوالي:
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن سعيد بن المسيب إنّ عبدالمطلب لمّا حضرَتهُ الوفاة وعرفَ أنّه ميتٌ جمعَ بناتِه، وكنّ ستَّ نسوة، صفية وبرّة وعاتكة وأمَّ حكيم وأميمةَ وأروى، فقال لهنّ: ابكين عليَّ حتّى أسمعَ ما تقلنَ قبل أن أموت.
• رثاء صفية بنت عبدالمطلب لأبيها:
أرقتُ لصوتِ نائحةٍ بليلٍ
على رجُلٍ بقارعةِ الصعيدِ
ففاضتْ عند ذلكمْ دموعي
على خدّي كمنحدَرِ الفريدِ
على الفيّاض شيبةَ ذي المعالي
أبيك الخير وارثِ كلَّ جودِ
رفيعِ البيتِ أبلجَ ذي فضولٍ
وغيثِ الناسِ في الزمنِ الحَرودِ
فلو خلدَ امرؤٌ لقديمِ مجدٍ
ولكنْ لا سبيلَ إلى الخلودِ
• رثاء برة بنت عبدالمطلب لأبيها:
أعينيَّ جودا بدمعٍ درَرْ
على طيّبِ الخيم والمعتصَرْ
على ماجدِ الجدّ واري الزنادِ
جميلِ المُحيّا عظيمِ الخطَرْ
على شيبةِ الحمدِ ذي المكرُماتِ
وذي المجدِ والعزِّ والمُفتَخَرْ
– رثاء عاتكة بنت عبدالمطلب لأبيها:
أعينيَّ جودا ولا تبخلا
بدمعِكُما بعدَ نومِ الِنيامْ
على الجحفلِ الغَمرِ في النائباتِ
كريمِ المساعيْ وفيِّ الذِمامْ
على شيبةَ الحمدِ واري الزنادِ
وذي مَصدَقٍ بعدَ ثبتِ المَقامْ
• رثاء أم حكيم بنت عبدالمطلب لأبيها:
ألا يا عينُ جوديْ واستهِلّي
وبكّي ذا الندى والمكرُماتِ
ألا يا عينُ ويحَكِ أسعفينيْ
بدمعٍ من دموعٍ هاطلاتِ
وبكِّي خيرَ من ركِبَ المطايا
أباكِ الخير تيّارَ الفراتِ
طويلَ الباعِ شيبةَ ذا المَعاليْ
كريمَ الخيم محمودَ الهِباتِ
• رثاء أميمة بنت عبدالمطلب لأبيها:
ألا هلكَ الراعي العشيرةَ ذو الفقدِ
وساقي الحجيجَ والمُحامي عن المجدِ
ومَن يؤلّفُ الضيفَ الغريبَ بيوتَه
إذا ما سماءُ الناسِ تبخلُ بالرعدِ
فقد كانَ زيناً للعشيرةِ كلِّها
وكانَ حميداً حيثُ ما كانَ مِن حَمْدِ
• رثاء أروى بنت عبدالمطلب لأبيها:
بكتْ عينيْ وحُقَّ لها البكاءُ
على سمحٍ سجيّتُهُ الحَياءُ
على سَهل الخليقةِ أبطحيٍّ
كريمِ الخيمِ نيّتُهُ العَلاءُ
على الفيّاضِ شيبةَ ذي المعاليْ
أبيكِ الخيرِ ليسَ له كِفاءُ
إنّ هذه المراثي قيلت قبل أكثر من 1450 عاماً، حتى إذا تواصلنا معها سنقف أمام مراثي الخنساء لأخيها صخر، واسمها تماضر بنت عمرو المولودة بنجد عام 575 م والمتوفاة عام 645 م وإنما لقِّبت بالخنساء لارتفاع أرنبتَي أنفها ومن مراثيها:
قذى بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّارُ
أمْ ذرَّفتْ أخلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ
كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ
فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ ولهتْ
وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ استارُ
تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عمرتْ
لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ
تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحُقَّ لهَا
إذْ رابهَا الدَّهرُ أنَّ الدَّهرَ ضرَّارُ
وإذا تقصّينا المراحلَ اللاحقةَ للشعر العربي تنبري أمامنا مرثية الشريف الرضيّ لأمِّهِ:
أبكيكِ لو نقعَ الغليلَ بكائي
وأقولُ لو ذهبَ المقالُ بدائي
وأعوذُ بالصبرِ الجميلِ تعزِّياً
لو كانَ بالصبرِ الجميلِ عزائي
طَوراً تكاثرُني الدموعُ وتارةً
آوي إلى أكرومتي وحيائي
كم عَبرةٍ موّهتُها بأناملي
وسَتَرتُها مُتجَمِّلاً برِدائي
أبدي التجلُّدَ للعدوِّ ولو درى
بتَملمُلي لقد اشتفى أعدائي
فارقتُ فيكِ تماسُكي وتجمُّلي
ونسيتُ فيكِ تعزُّزي وإبائي
كم زفرةٍ ضعُفتْ فصارتْ أنّةً
تمتَمتُها بتنفُّسِ الصعداءِ
لَهفان أنزو في حبائلِ كُربةٍ
ملَكَتْ عليَّ جلادتي وغنائي
قد كنتُ آمُلُ أن أكونَ لكِ الفِدا
ممّا ألَمَّ، فكنتِ أنتِ فدائي
وتَفرُّقُ البعَداءِ بعد مودّةٍ
صعبٌ فكيفَ تفرُّقُ القُرَباءِ؟
رُزءانِ يزدادانِ طولَ تجدُّدٍ
أبَدَ الزمانِ، فناؤها وبقائي
آوي إلى برْدِ الظِلالِ كأنّني
لِتحَرُّقي آوي إلى الرمضاءِ
وأهُبُّ من طيبِ المنامِ تفزُّعاً
فزَعَ اللديغِ نبا عن الإغفاءِ
لهفي على القومِ الألى غادرتُهُمْ
وعليهمو طبقٌ من البيداءِ
مُتَوسّدين على الخدودِ كأنّما
كَرَعوا على ظمَاٍ من الصهباءِ
صُوَرٌ ضننتُ على العيونِ بِلحظِها
أمسيتُ أوقرُها من البوغاءِ
ونَواظرٌ كحلَ الترابُ جفونَها
قد كنتُ أحرسُها من الأقذاءِ
قرُبَتْ ضرائحُهُمْ على زُوّارِها
ونأوا عن الطِلابِ أيَّ تناءِ
لو كانَ يُبلغُكِ الصفيحُ رسائلي
أو كانَ يُسمعُكِ الترابُ ندائي
لَسمِعتِ طولَ تأوُّهي وتفجُّعي
وعلِمتِ حُسنَ رعايتي ووفائي
كانَ ارتكاضي في حَشاكِ مُسبِّباً
ركضَ الغليلِ عليكِ في أحشائي
كما حفل الشعر العربي بالمراثي الحسينية وكان الأشهر بها هم الشعراء دعبل الخزاعي والكميت والسيد الحميري وغيرهم.
وقد أهاجتني الكتابة عن المراثي أبياتٌ للشاعر ديك الجن أوردَها صديقي التربوي صباح راهي العبود في مدوّنته لمناسبة الفاجعة التي ألمّتْ به في رحيل زوجته ورفيقة دربهِ في الحياة، بحيث لم أشأ إلا أن عارضتُ داليّةَ الشاعر ديك الجن بهذه القصيدة:
أساكنَ لَحدِهِ ياليتَ لَحدي
لِما شهِدَ الفراقُ ضِرامَ وجدي
أجيبي إن قدرتِ على ندائي
فصَوتيْ من سُدى الأصداءِ ضدّي
أهيمُ حوالَيِ القبرِ الـ مُصِدّي
أهيمُ كطامحٍ يرجو لِردِّ
أهيمُ كباحثٍ وسطَ البوادي
عن الماءِ المُطَفّي حرْقَ كبْدي
أحنُّ إلى جِوارِ القبرِ أصغي
لعلّيْ أرتجي سمعاً لِحَرْدي
أحنُّ حنينَ راجٍ للمُحَيّا
شروقاً مثلما قد عِشتُ عهدي
أحنُّ إلى سنينِ العمرِ ودّاً
يبادلني بلا صمتٍ وصدِّ
أحنُّ حنينَ مشتاقٍ مكينٍ
لأجواءِ المودّةِ والمَخَدِّ
من النجفِ العريقِ زُفِفتِ لي إذْ
لِحِصنِ الكوفةِ الحمرا لِعضْدي
وهاهيَ قوّتي حزَناً تهاوت
بلا سندٍ هوَتْ إذْ كُنتِ سنْدي
وها عضُدي بلاكِ بلا دماءٍ
ولا نسْغٍ يحرِّكُهُ كَهَمْدِ
وما قد كانَ هَمْدٌ يعتريني
بقبْلِكِ، ليتهُ قد كانَ بَعدي
وما كانَ الحِمامُ سرى بخُلدي
أجيءُ إليكِ يمنعُني كسَدِّ
فأوّاهٌ لعُمري من فجيعٍ
يرى بعدَ العُلا حدْرَ التردّي
ضَواعُ الطيبِ منكِ مَشَدُّ إصري
يُعيدُ خُطايَ نحوكِ كالمشَدِّ
وأودّ أن أشيرَ هنا لأختم مقالتي المُقتضَبة، إلى مرثيّة للشاعرة اللبنانية لبنى شرارة بزي كنموذج للمراثي المعاصرة بعنوان «لذكراكَ.. ما زلتُ أحيا»:
كثيرةٌ هي الأشياءُ
التي تنقصُني في غيابِكَ
بدءاً من حياتي..
فأنا أشتاقُ
حديثاً من عينيكَ
يُحيطني بقصائدِ الغزلِ
مطلعُها ابتسامةٌ
كانت ترتسمُ على مُحيّاكَ
فتأخذُني إلى أقصَى مدنِ العشقِ
لأستقرَّ في مرفإ أحضانكَ الدافئة
ترسُو فيه مراكبُ لهفَتِي
ويسرقُني من نفسِي
لحنٌ كان يدندنُه قلبُكَ الصافي
فيتمايلُ قلبي
على إيقاعِه طرباً
ولمسةٌ من أنامِلك
كانت تحتضنُ أوجاعي حدَّ تلاشيها
وتهزمُ كآبتي ضحكةٌ
كانت تحاكي عصافيرَ الدّوحِ
فتوقظُ عينيّ الناعستينِ
لتعانقا ألقَ الحياةِ
وتُحيِيني
رشّةٌ من عطرٍ
كانت تستنشقُه منكَ رئتاي
ياسميناً
زرعته يدُ العِشرةِ على رصيفِ العمرِ
فَنَما لروحي.. ربيعاً
يتوالدُ من رحمِ الحزنِ
أشياءٌ كثيرةٌ تنقصُنِي
فأنا في غيابِك
قد فقدتُ نصفَ الحياةِ
لكنّي ما زلتُ أحيا النصفَ الآخرَ
لذكراك
بقوّةٍ وثباتٍ
فكلُّ ألوانِ الغيابِ قاتمةٌ
إلا..غياب النسيان
لتتعالى حرارةُ الوجد
مرفرفةً حولَ روحينا
فتملأ كلَّ اللحظاتِ
برحلةِ بهجةٍ دون انقطاع
تتدلّى من فوقنا عناقيدَ أعناب
وتُزهرُ الوردَ حقولاً أمام طريقنا
بلا انتهاء
Leave a Reply