وسام شرف الدين
لا للاغتيال. لا للاتهام. لا للتخوين. لا للعمالة. لا للتطبيع.
بداية، لا بدّ من التنويه بأني شخصياً لا أتبنّى بالضرورة مواقف لقمان سليم، بل إني ضد اختزال المقاومة العربية بأي حال من الأحوال، سواء كانت إسلامية أو وطنية، ولاسيما وأننا مازلنا نرزح تحت مشاريع الاستعمار التي قامت منذ أكثر من ١٠٠ عام في منطقتنا. إنما أنا هنا أقوم بواجبي الإنساني والوطني في الدفاع عن حق كل إنسان في التعبير عن الرأي وإن كان مخالفاً لرأيي. كما أدين الإعلام الاغتيالي.
لم يستغرب ويستنكر الكثير من اللبنانيين اغتيال ناشر وناشط ومفكر لبناني بقدر ما استغربوا واستنكروا سرعة نشر الخبر عبر وسائل الإعلام «الممولة خليجياً»، كما استنكروا توجيه أصابع الاتهام إلى «حزب الله». وكأن الإعلام «المموّل خليجياً» هو الممثل عن الشهيد لقمان والناطق باسمه.
ثمّة ازدواجية في المعايير الأخلاقية في لبنان. فمن يسمي الجهات الإعلامية بالـ«ممولة خليجياً»، لا يسمي الجهات الإعلامية «الممولة إيرانياً» بنفس التسمية. ومن يسمي من تتلاقى رؤيته الإصلاحية للبلد مع بعض الرؤى الأميركية بـ«العميل الأميركي»، لا يسمي من تتلاقى رؤيته مع الرؤى الروسية أو الإيرانية بـ«العميل الروسي» أو «العميل الإيراني». ومن يسمي اغتيال أبو مهدي المهندس أو جمال خاشقجي بـ«الجريمة الإرهابية والأخلاقية» لا يسمي اغتيال سمير قصير ولقمان سليم بـ«الجريمة الإرهابية والأخلاقية». والعكس صحيح في كل ما ورد أعلاه طبعاً.
لماذا هذه الازدواجية التي تحول الإعلام إلى أبواق بروباغاندا، والآراء إلى أسلحة ومشانق؟ هل أصبحت الموضوعية في بلادنا من المنقرِضات التي لا رجعة لها؟ إن فقدان الموضوعية تماماً في بلد ما، هو نذير شؤم، ونذير مستقبل مظلم.
«دار الجديد» التي أسسها لقمان سليم لتكون «دار حرة مستقلة وطليعية»، واتهمها أحد الكتاب في مقالة بالعدد الماضي من جريدة «صدى الوطن» بأنها أُسّست بتمويل من السفير الأميركي جيفري فيلتمان «لتشويه سمعة حزب الله»… فلننظر ما هي الكتب التي نشرتها بـ«الأموال الأميركية» و«لتشويه سمعة حزب الله»!
«أرى ما أريد» لمحمود درويش، «تاريخ الحسين» و«مشاهد وقصص من أيام النبوة» و«دستور العرب القومي» للشيخ عبد الله العلايلي، و«مدينة السياسة» للرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، ومئات الكتب الرائعة الأخرى لأبدع الكتاب من أمثال أحمد بيضون وعزة شرارة بيضون ونسرين ملك وجورج قرم وطه حسين ويوسف بزي وسليم بركات وحامد بن عقيل وفادي أبو خليل وحسان الزين وسيف الرحبي وحسن الترابي وجهاد الزين وزاهي وهبي وأحمد الكاتب وحسين مردان، وغيرهم العشرات.
هل هذا هو المشروع الأميركي لتشويه سمعة «حزب الله» يا سيدي الكاتب؟ أنا لا أرى إلا كتب توعية وتنوير وتثقيف. فإذا كانت هذه هي الأموال الأميركية، فأنا أول الشاكرين، وخاصة في دولة المحاصصة والمافيات التي لا دعم فيها ولا اعتناء بالثقافة والنشر والقلم والكتاب. شكراً أميركا إذا كان هذا مشروعك في لبنان، وتباً للوطنية إذا كانت تسمّي الكتاب والثقافة عمالة ومشروع خيانة.
قام هذا الرجل المخضرم، حامل شهادة الفلسفة من جامعة السوربون في باريس، الذي آثر أن يعود إلى لبنان عام 1988 ويخدم وطنه على أن يحيا في عاصمة الحضارة والحرية، باريس. آثر أن يترك شوارع الحي اللاتيني الجميلة في منطقة السوربون، ليعود إلى تلك المزرعة العشوائية التي تسمى لبنان، المختطف منذ الحرب الأهلية من قبل أمراء الميليشيات ومافيات الطوائف، الذي عندما ينتخب الناس فيه، فإنه يصوت أكثرهم بناء على دين آبائهم أو«تكليفهم الشرعي» أو يبيعون أصواتهم لمن يدفع أكثر.
لم يترك لقمان لبنان كما فعلتُ أنا، و12 مليون مهاجر انتشروا في أصقاع الأرض. فمن هجروا بلاد الأرز هم أكثر بأربعة أضعاف ممن بقوا فيه. الوطن الذي غدا أشبه بالغابة، يموت فيه المريض على باب المستشفى، وتنقطع عنه الكهرباء في أقسى أيام الشتاء برداً وأشد أيام الصيف حراً، وتباع مرافق الدولة فيه بسوق النخاسة كل يوم مائة مرة. كلا… آثر لقمان أن يعود ويجاهد ثقافياً، وأن يكون حراً، لا بوقاً للأحزاب والمافيات الحاكمة، فدفع ثمن الحرية دماً، كما هي السنة التاريخية للحرية.
عاد وعمل ليلاً ونهاراً لإضاءة الشموع الثقافية في ليل لبنان المظلم. فكل كتاب أصدرته «دار الجديد» هو شمعة أضاءها لقمان في عتمة شعب أغلبه لا يبصر لأنه لا يقرأ.
كان زواجه أيضاً في خدمة الثقافة في لبنان، فزوجته الألمانية، مونيكا بورغمان وهي مخرجة وثائقية، قامت معه بإنتاج فيلمين وثائقيين، أحدهما عن مجزرة صبرا وشاتيلا، والآخر حول سجن تدمر في سوريا حيث تعرض سجناء لبنانيون للتعذيب والاختفاء.
هل التثقيف حول صبرا وشاتيلا وحول تعذيب السجناء اللبنانيين مشروع أميركي إسرائيلي يا سيدي الكاتب؟ هل هذا هو مشروع فيلتمان في لبنان؟
هذا الرجل الذي لا يملك إيجار غرفة ليجعلها مكتباً، قام بتحويل منزل عائلته إلى مساحة ثقافية فريدة من نوعها، كانت تقام فيها معارض صور وعروض أفلام وحوارات مع فنانين ومخرجين، ولقيت مؤسسته دعماً من سويسرا وألمانيا، وليست هناك وثائق تشير إلى أية مساعدات من أميركا، رغم أنها تكون مشكورة على ذلك، كما «رحب بمساعداتها» السيد حسن نصرالله بعد انفجار المرفأ.
هل هذه الغرفة هي مدى الدعم المادي للسفارة الأميركية؟ ألم تستطع الحركة الصهيونية ان توفر أقل من 200 دولار شهرياً، أي 2,400 دولار سنوياً حتى يستطيع لقمان استئجار مكتب أو قاعة لنشاطه؟
في 2008، أسس جمعية «هيّا بنا» من أجل مواطنية جامعة» معدداً بين أهدافها «الدفاع عن قيم المواطنة والتسامح والتعدد والديمقراطية وحقوق الإنسان».
إن اتهام «حزب الله» باغتيال لقمان بلا دليل، خطأ وبهتان، ولكنه لا يأتي من فراغ. إن اغتيال لقمان ليس حادثاً مستقلاً، فلقد بدأ اتهام مناصري «حزب الله» مراراً له بأنه من «شيعة السفارة»، أي من الناشطين الشيعة الذين ينسقون مع السفارة الأميركية في بيروت، وهوجم مراراً على أنه «خائن وعميل» منذ أن بدأ يتكلم في ما لا يطابق بالضرورة، الأجندة الإعلامية والسياسية للحزب في لبنان، وهو القوة الفعلية الحاكمة سياسياً وعسكرياً اليوم.
لقد شارك إبراهيم الأمين بجريدته «الأخبار»، في اغتيال لقمان عبر إعلامه التحريضي المفعم بنظريات المؤامرة وبالتهم الجاهزة، وتدارك كاتب مقال «اغتيال لقمان ليس حكيماً» أن يفوته من هذه الجريمة شيء، فألقى عليه وابلاً من الرصاص الإعلامي، فهنيئاً لك «هذا الركام»، كما قالت أخته الكاتبة والناشرة والأديبة، رشا الأمير.
لقد بدأت عملية اغتيال لقمان في كانون الأول (ديسمبر) 2019، حين تجمع عدد من الأشخاص أمام منزله في حارة حريك، مرددين عبارات تخوين، وألصقوا شعارات على جدران المنزل كتب عليها «لقمان سليم الخائن والعميل»، و«حزب الله شرف الأمة»، و«المجد لكاتم الصوت». وعلى الأثر، نشر سليم بياناً اتهم فيه من أسماهم بـ«خفافيش الظلمة» بالقيام بذلك، وحمّل الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله وحليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري مسؤولية ما جرى و«ما قد يجري» له ولعائلته ومنزله. لم تبد هذه المعلومات مهمة لصاحب مقال «اغتيال لقمان ليس حكيماً» بقدر ما نُشر في «ويكيليكس».
كل ما جاء في «ويكيليكس» بخصوص لقمان، من محاولته تشكيل قوى شيعية معارضة ومستقلة والقيام بالإصلاح السياسي ومحاولة كسب تأييد الدبلوماسية العالمية لمشروعه الثقافي والوطني والسياسي، إذا صح، فإنه من شاهد على إخلاص ذلك الرجل في أهدافه وتفانيه في رؤيته للدولة المدنية في لبنان.
من الطبيعي جداً أن يطلب الدعم الخارجي لتطبيق أهدافه المعلنة –بل هو موقف عزّ وفخر لرجل لا يطلب نفعاً شخصياً ولا ينام الليل وهو يكافح من أجل ما يعتقده أنه إنقاذ للبنان من عصر الظلام. كما أن هذا هو الحال مع جهات لبنانية عديدة تحصل على دعم معنوي ودبلوماسي وسياسي، بل ومادي، من قوى إقليمية مختلفة، فلماذا هو حلال لهم وحرام على غيرهم، ما دام أنه في خدمة الوطن، كلّ بمنظوره؟… هذا عدا عن أن ما جاء في «ويكيليكس» هو نقل كلام فلان وعلتان، ولا يؤسس لأية حقيقة.
لمّا ينته التحقيق لاتهام أحد بعد، ونحن ضد إلقاء التهم جزافاً، ولكن أن يحاول كتّاب المنفى، مثل صاحبنا في العدد السابق، الذين لم يتوفّر لهم نصيب من المحاصصة الطائفية للبقاء في وطن الظلام، فنُفوا من بلدهم قسراً وقهراً، أن يكونوا أبواقاً لجلاديهم، في مسرحية ساخرة لمتلازمة ستوكهولم، فهو ليس إلا اغتيال معنوي لأحد رموز الثقافة في لبنان. ولأن الإجهاز على بدنه لم يزده إلا عظمة، فقرروا قتله مرة أخرى بالجريمة الجاهزة الرخيصة، وهي جريمة العمالة… هذا اعتداء مدان على الثقافة وعلى عقول جميع المثقفين وأحلامهم في الوطن العربي وفي العالم. وأخيراً أقول:
في بلادنا،
وسائل القتل جميعها مشرّعة
يقتلون الكتاب والنبراس والقلم
يقتلون الحبر والأوراق
يقتلون الفكرة لمّا تلد
ويقتلون القيم
في بلادنا
دولة هي أقرب للمزرعة
يصاب الناشر فيها
برصاصات أربعة…
Leave a Reply