وليد مرمر – لندن
«كان عمري سبع سنوات عندما شاركتُ للمرة الأولى في تظاهرة تضامنية مع المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد مرت قرب مدرستي وهي المقاصد، وذلك بعد صدور قرار من سلطات الاستعمار الفرنسي بإعدامها. وعندما وصلتُ مع المسيرة إلى ساحة الشهداء، لم أعرف بعدها كيف أعود إلى منزلي».
تلك كانت الخطوة الأولى في رحلة السبعين عاماً التي سطر خلالها الراحل أنيس النقاش تاريخاً حافلاً في المجالين النضالي والفكري لم يتح جمعهما إلا لقلة قليلة.
وبين السبع والسبعين، تدرج أنيس النقاش في ميادين المجد حتى جمعه من أطرافه. فكان طوداً لا ينحني في ساح الوغى ونجماً لا يخبو في فضاءات الشهادة فإنّ «مَن سأل الله الشهادة بصدق بَلَّغَه مَنَازِل الشهداء وإِن مَات عَلَى فِراشه». كما في الحديث.
أنيس النقاش يشبه من رافقوه وتأثر بهم، وتأثروا به. رجال من طينة خليل الوزير (أبو جهاد) وعماد مغنية وكارلوس والدكتور وديع حداد وفتحي الشقاقي وقاسم سليماني وغيرهم من الرجالات الذين عاشوا وماتوا في سبيل قضايا شعوبهم وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
توفي النقاش، يوم الإثنين 22 شباط (فبراير) الجاري، إثر إصابته بفيروس كورونا ودخوله إلى العناية المركّزة في أحد مستشفيات دمشق.
منظمة التحرير وبداية النضال
هو «مازن» في حركة «فتح»، تيمناً بالشهيد مازن أبو غزالة الذي استشهد عام 1967.
وهو خالد في «عملية فيينا» عام 1975.
في عام 1964 انضم سراً إلى حركة «فتح وعمره وقتئذ لم يتجاوز 15 سنة، وأسس جماعة «خليّة المقاصد» في مدرسته. ثم شارك بفعالية في الحركات المطلبية اللبنانية. وبعد خمس سنوات –أي في العام 1969– شارك بإضراب عن الطعام احتجاجاً على صمت الحكومة اللبنانية والدول العربية على هجوم الكوماندوس الإسرائيلي على مطار بيروت. وقد تم نقله حينها إلى المستشفى لتلقي لعلاج.
وفي حرب عام 1973 انضم إلى المجموعات الأولى التي أطلقت الصواريخ على المستوطنات الصهيونية.
شارك في عمليات عسكرية عدة من خلال «فتح» ولكن ربما لم تلبِّ المنظمة طموحاته النضالية بحكم توجهاتها السياسية وتوازناتها الداخلية، فانتقل إلى «الجبهة الشعبية» التي كانت تمثل التيار الماركسي النضالي والذي يؤمن فقط بالعمل المسلح كطريق وحيد لتحرير الأرض وذلك بالتزامن مع اجتياح 1978. ثم قام بتشكيل مجموعات قتالية في كفرشوبا وبنت جبيل (أحد الأعضاء كان الشهيد عماد مغنية) وقاد خلايا سرية ونفذ عمليات أمنية وعسكرية على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. كما قام أنيس النقاش بطبع وتوزيع منشورات سرية للدعوة إلى المقاومة الشعبية. لذا فهو يعتبر من أوائل الذين أطلقوا المقاومة المسلحة ضد إسرائيل.
وكدأب الرجال العظماء، كان أنيس النقاش مسَدَّداً دائماً في خياراته، فلذلك آثر أن لا يشترك في الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت عام 1975 لاقتناعه بأن الوجهة والبوصلة دائماً هي القدس وأية حرب جانبية إنما هي حرب عبثية لا جدوى منها. ولقد تناول هذا الموضوع مصرّحاً: «في ذلك الوقت کانت الحرب الأهلية اللبنانية في ذروتها، لكنني لم أشارك فيها. حينذاك کان الهدوء يسود جنوب لبنان. وكان ذلك بسبب الحرب الأهلية التي شغلت اللبنانيين. خططت لنفسي لأركز كفاحي وحربي في الجنوب. شكلت هناك مجموعةً مع بعض الإخوة، وبمجرد أن هدأت الحرب الأهلية اللبنانية، توجهت مجموعتنا إلى الجنوب واتخذت إجراءات ضد إسرائيل».
التقى النقاش بالإمام موسى الصدر مرتين وقام بإنشاء معسكرات تدريب للعديد من الجماعات الماركسية واليسارية والقومية في معسكرات التدريب في جنوب لبنان.
علاقته بمغنية
التقى أنيس النقاش بـ«عماد مغنية»، منذ صغره وساهم في تدريبه العسكري. واستمرت علاقتهما بعد ذلك حيث كانا يلتقيان دائماً في بيروت وطهران ودمشق حيث تم اغتيال مغنية الذي يقول عنه النقاش: «جاء إليّ عام 1975 عندما كان صغيراً جداً وكنت عضواً في «فتح»، وأخبرني بأنه شاب مؤمن ويريد أن يتعلم الأمور العسكرية ليقاوم إسرائيل، لكنه لم يرد أن يكون عضواً في «فتح». وقال: هل يمكنك أن تعلمني دون أن أكون عضواً في «فتح»؟ فقلت له لم لا! سأدربك وسأدرب كل من يريد محاربة إسرائيل. وفي ذلك الوقت لاحظت أن هذا الفتى البالغ من العمر 16 عاماً كان جاداً جداً. أراد البعض فقط تعلم الرماية، ولکن ظل الشهيد عماد مغنية يسألني الأسئلة ويكتب الملاحظات، وأدركت أن هذا الشاب لديه مستقبل مهم». وفي حوار آخر قال النقاش مشيراً إلى مغنية: «إذا طلب مني أحد أن أبذل حياتي كلها لأزيد ساعة على حياته، فلن أفعل ذلك من أجل أي شخص سوى عماد»!
عملية فيينا
شارك النقاش في احتجاز رهائن وزراء مجموعة «أوبك» النفطية عام 1975 التي يقال إنها جاءت رداً على «اتفاقية فصل القوات الثانية» بين مصر والکيان الصهيوني المسماة «اتفاقية سيناء 2»، والتي بموجبها قدَّمت مصر تنازلات لإسرائيل مقابل استعادة جزء من شبه جزيرة سيناء. وقيل أيضاً إنها جاءت رداً على مؤازرة شاه إيران لإسرائيل في حربها على العرب عام 1967، وكان قائد العملية الثائر الأممي الشهير الفنزويلي الأصل كارلوس. ويُنقل أيضاً أن أنيس النقاش تدخل خلال العملية لمنع قتل أي من الوزراء المشاركين.
العلاقة بالجمهورية الإسلامية
كما كان أنيس النقاش مُسَدّداً في خياره بعدم الاشتراك بالحرب الأهلية اللبنانية، فقد اتخذ خياراً صائباً آخر، بالوقوف إلى جانب الثورة الإسلامية في إيران منذ اللحظات الأولى لانتصارها، وثبوته على هذا الخيار خلال حرب الثماني سنوات مع العراق.
كان هذا الخيار سهلاً وتلقائياً لأنيس النقاش، وهو العروبي السني الذي سريعا ما تولى دور عراب ومنسق العلاقات الإيرانية–الفلسطينية من أجل توحيد المواقف وتعزيز التعاون في شتى المجالات بين الطرفين.
كان أنيس النقاش قد قام بتدريب بعض الشباب الإيرانيين قبل الثورة في لبنان، وقد قال عن ذلك: «كنت مسؤولاً عن علاقة الفلسطينيين بالإيرانيين. جميع المقاتلين الذين کانوا يأتون من إيران جاؤوا إلى معسكر تدريب في جنوب بيروت يسمى «مخيم الدامور»، حيث كان الحاج عماد حاضراً أيضاً على طريق خلدة–بيروت. وكان هناك مخيم آخر في مدينة صور جاء إليه كثير من الإيرانيين وخاصةً من تنظيمات جلال الدين فارسي ومحمد منتظري، وقد أتوا للتدرب علی الأسلحة والقتال والمتفجرات. كانت فتح منفتحةً جداً في اتصالاتها؛ أي کانت تساعد كل من کان يأتي…».
محاولة اغتيال بختيار
وسنوات السجن
كانت محاولة اغتيال شهبور بختيار آخر رئيس وزراءإيراني في عهد الشاه محمد رضا بهلوي من أكثر عمليات أنيس النقاش شهرة بعد عملية فيينا. وقد خطط لها بنفسه وانتقل إلى باريس لتنفيدها عام 1980 وعاونه فيها إيرانيان وفلسطيني ولبناني لكن العملية فشلت وتمكنت السلطات الفرنسية من إلقاء القبض عليه بعد أن أصيب بالرصاص، ثم حُكم عليه بالسجن المؤبد قبل أن يتم إطلاق سراحه في العام 1990. وفي السجن نفذ أنيس النقاش ثلاثة إضرابات عن الطعام امتد أحدها لفترة 130 يوماً. كما كانت تلك الفترة سبباً لتفرغه للمطالعة والتثقف (يقرأ بثلاث لغات) وقد انتهى إلى تحضير دراسته للدكتوراه حول البنك اللاربوي في الإسلام باللغة الفرنسية.
الحرب السورية
مرة أخرى لم تحد بوصلة أنيس النقاش عن هدفها فقام بتأييد ودعم الدولة السورية حاضنة المقاومة وعمقها الإستراتيجي في حربها ضد المجموعات المسلحة المدعومة من الخارج وقد ساهم سياسياً وإعلامياً بمؤازرة الشعب السوري في حربه للقضاء على الفوضى والإرهاب. ولقد كان أنيس النقاش يعتبر التكفيريين جيشاً متقدما للعدو الصهيوني وبالتالي فإن مواجهتهم لا تقل أهمية عن مواجهة إسرائيل بل هي قد أصبحت مقدمة لا غنى عنها لهذه المواجهة.
قراءة في فكر النقاش
بعد أن قضى زهرة شبابه في خدمة قضايا النضال الوطني والإقليمي بل والأممي، لم يختر أنيس النقاش الراحة والتقاعد، بل انبرى ليتصدى للعمل السياسي والإعلامي وذلك عبر «شبكة الأمان للبحوث والدراسات الإستراتيجية» التي أسسها وعبر المقابلات العديدة التى كان يجريها على شاشات التلفزة وعبر برامج أعدها قد يكون أشهرها برنامج «أسرار الصراع». وكان أنيس النقاش معروفاً بعمق آرائه السياسية و دقة تحليلاته الإستراتيجية. وكان لديه مشروعاً متكاملاً أصَّل وقعَّدَ له في كتابه «الكونفدرالية المشرقية». ولقد كان دؤوباً في محاولته إشراك الجامعات والنخب ومراكز الدراسات لتنفيذ هذا المشروع.
تأخد مسألة «الهوية» حيزاً مهماً في فكر النقاش. هوية المشرق السياسية والاستراتيجية التي اضمحلت وضاعت لصالح الهويات المذهبية والإثنية الضيقة. وبحسب رؤية النقاش فإن «الايديولوجيات والديانات في منطقتنا وفي العالم تحولت إلى هويات في حين أنها في جوهرها وحركتها التاريخية لم تكن إلا سياسات وبرامجاً وافكارا، ولم تكن صراعاً على الهويات». والإسلام برأي أنيس النقاش هو «فعل أسلمة وليس حملاً لهوية، بل إن حمل الهوية يأتي بعد الأسلمة. فاليوم يدور القتال بين أصحاب الهويات المختلفة مع غياب تام لأصل أسلمتهم ونصرانيتهم أو تنصرهم و من دون فهم دقيق لسبب تشيعهم أو تسننهم، الكل وارث لهوية، والندرة تمارس فعل التدين».
والكونفدرالية المشرقية التي بشر بها أنيس النقاش «هي مشروع سياسي اجتماعي اقتصادي إنساني بامتياز، هكذا سنعرفه وهكذا سنقدمه وهكذا سندافع عنه ونصارع بالسياسات من أجله لكي يسود».
ولقد تجاوز النقاش «فخ» القومية العربية وانطلق إلى آفاق «الكونفدرالية المشرقية» فهي «تتجاوز العرب لأنها تجمع ما هو عربي مع ما هو غير عربي».
فمعضلة الهوية في فكر النقاش حتى بمعناها الحداثي قد تكون عائقاً أمام توحيد الرؤى الإستراتيجية للشعوب. وبعدما كانت الهوية الدينية أو المذهبية تكشف عن منظومة اعتقاد وسلوكيات ومنهج اجتماعي وسياسي، إذ بها تصبح إرثاً «جينياً» يتم توارثه بطريقة ميكانيكية عقيمة لا خيار أمام حاملها! وهكذا يصرح أنيس النقاش: «إن الهويات ومشاريع الهويات قد تكون نتيجة بحث أركيولوجي لتطور هوية المنطقة، وقد تحمل الغث والثمين، وتالياً يصار إلى تبني هوية جامعة ما، تحاكي أحلامنا المفقودة وآمالنا غير المستوفاة، أو تكون هناك هوية وحدة اللغة، أو وحدة الدين، أو وحدة المذهب. وهذه كلها هويات إسقاطية وراثية لم تعد تشكل في عالمنا الحديث معنى للتماهي في المصالح، أو تفتح آفاقاً للمستقبل بمعايير التنمية البشرية والإنسانية والتعاون الدولي والإقليمي. ناهيك عن مخاطر تقسيم الناس على أساس ديني أو مذهبي بعد أن تحولت الهوية الدينية والمذهبية إلى هويات موروثة غير واعية لجوهر الرسالات، فتحولت من هويات مدفوعة بالرسالات، أي بالمشاريع السياسية والفكرية والعقائدية والقيم الإنسانية إلى مشاريع صراع هويات موروثة بدون جوهرها، هي أقرب إلى صراع العشائر والقبائل منها إلى صراع السياسات».
إن لبّ المشكلة في مجتماعاتنا، كما يقول العلامة الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، ليست في الدين، بل في اللادين. وقبله قال جبران خليل جبران «ويل لأمة كثرت فيها مذاهبها وقل فيها الدين». وعن هذا كتب أنيس النقاش: «ثم تكون الصراعات على الهويات الدينية والمذهبية هي المقدمات الحتمية لخسارة الدين وجوهره أولاً وقبل كل شيء كما حصل في أوروبا على أثر الحروب الدينية التي أدت بها إلى علمانية إما كارهة وطاردة للدين والتدين، وإما في أحسن حالاتها متعايشة معه بنوع من التعايش مع الفولكلور اللطيف على شرط أن لا يتدخل بالقرارات والسياسات المهمة. نعم، قُتل الدين من خلال الحروب الدينية في أوروبا من فرط تعصب المتدينين لمذاهبهم. فمات الدين حينها وانتصرت العَلمانية».
إن انتصار الهوية المذهبية الضيقة على الدين هو أساس الصراع الداخلي في المنطقة. «إن الصراعات التي ظهرت في بلادنا فرقت الناس عبر الهويات، في حين أن توجهاتهم السياسية ومصالحهم الإقتصادية كان يجب أن توحدهم حول أهداف ومشاريع واحدة. هو صراع العصبية بالمعنى الخلدوني لوصف العصبيات. وهكذا فقدت المذاهب الفكرية سبب وجوهر وجودها لتصبح هويات عشائرية قبلية قائمة على العصبية العمياء. إنه صراع رُهاب الهويات فيما بينها وليس صراع الإستراتيجيات المحددة الأهداف والمصالح».
ويضيف أنيس النقاش: «إن الطامة الكبرى هي عندما يتحول المخيال الجمعي إلى وعي مقدس للجغرافيا السياسية المتداولة وكأنها قدر لا يرد، أو عوائق لا تُزال ولا تُتجاوزُ ولا تُمحى، فتشن لها الحروب ويتقاتل عليها البشر في الخفة والرشاقة ذاتها التي يغني فيها لعلم البلاد، وترسم فيها خرائط الأوطان في المدرارس وعلى طاولات المعاهد الدراسية».
والحل بنظر النقاش هو في إحياء «المشرقية»، معتبراً «الكونفدرالية المشرقية هي تمرد على الموروث في الوعي الجمعي لصراعات شعوب وقبائل وعشائر وأديان ومذاهب المنطقة».
وفي الحروب الناعمة التي تشن على المنطقة يرى أنيس النقاش أنه يجب التصدي لمفاعيل هذه الحرب عبر الوعي والجهوزية. «هناك في استراتيجيات الصراع الدولي من يفتعل الأحداث للتأثير على الأفكار، ومن يستعمل الأفكار لخلق الأحداث، وهناك من يرصد ديناميكيات التفاعل الإجتماعي والتأثر في خلفيات الوعي الجمعي من خلال السيطرة على وسائل الإعلام، والتحكم بأدوات التحليل، والضغط الخفي من خلال التدخل بالأحداث، وتالياً بناء الصور النمطية المطلوبة… ومن ثم يتحكم بالنتائج وبالسلوكيات غبّ الطلب. وهكذا تُدار الصراعات والحروب من خلف الستار، وكل يظن أنه فاعل فيها. في حين أن الجميع مفعول به».
ويسهم أنيس النقاش في شرح دينامية الفوضى الخلاقة لتقسيم المشرق إلى دويلات وكانتونات متنافرة ومتناحرة، متسائلاً «هل واجهنا مثل هذه المخططات بمخططات مماثلة معاكسة تجمع كل هذه الأمور؟ هل تحركنا على مستوى السياسات وعلى مستوى الأفكار والإعلام والحراك الشعبي والعمل العسكري بطريقة مؤثرة إقليمياً عابرة للحدود، ديالكتيكية في العلاقة بين مكونات الاستراتيجيات السياسية الدولية والإقليمية المحلية؟ هل عالجنا أمراضنا لكي لا نكون أدوات طيّعة بيد الذين يخططون لـ«الفوضى الخلاقة»؟ أم أننا نرقص على وقع موسيقى الأعداء وننفذ ما يرسمونه لنا؟».
Leave a Reply