كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بدأ مَن يسمّون أنفسهم «سياديون»، يطلقون على البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي لقب «بطريرك الاستقلال الثالث»، إثر دعوته لعقد مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، لتثبيت الكيان اللبناني، وتحريره من «الاحتلال الإيراني» المتمثّل بـ«حزب الله» الذي يتهمه سيد بكركي بالهيمنة على الدولة ومؤسساتها ومصادرة قرارها مطالباً بألا يكون سلاح إلا في عهدة الجيش اللبناني والقوى الأمنية.
الاستقلال الأول
أما «الاستقلال الثالث» المزعوم، الذي يخوض غماره هذه الأيام، البطريرك الراعي، فيأتي في سياق تاريخي لمسيحيي لبنان عموماً والموارنة خصوصاً، فهم يعتبرون أن البطريرك إلياس الحويك هو صانع استقلال لبنان الأول عبر إنشاء «دولة لبنان الكبير» بقرار من مؤتمر فرساي. فكانت ولادة لبنان الكبير بإعلان من الجنرال غورو الذي كان حاكماً فرنسياً للبنان، بعد أن ضمّ إليه الأقضية الأربعة وبيروت التي كانت خارج الحدود الإدارية لمتصرفية جبل لبنان.
المسلمون قبلوا بـ«لبنان الكبير» وطناً لهم، وتخلوا عن مطلب الوحدة مع محيطهم في سوريا الطبيعية، كما كانت تسمى، رغم انعقاد أكثر من مؤتمر سوري شارك فيه لبنانيون وسوريون للحفاظ على وحدة «بلاد الشام» دون جدوى، فنشأت «دولة لبنان الكبير»، تحت الوصاية الفرنسية حتى العام 1943، وسقوط فرنسا بقبضة النازيين فانقلبت الموازين في المشرق العربي لصالح النفوذ البريطاني، فأسقط الإنكليز عبر حلفائهم في لبنان الرئيس إميل إدّه المسمى من الفرنسيين، لصالح بشارة الخوري الذي دعمه المندوب البريطاني الجنرال سبيرز، فحصلت تظاهرات شعبية وسُجن رجال السلطة من الكتلة الدستورية، بمن فيهم الخوري بعد انتخابه رئيساً للجمهورية إلى جانب وزراء ونواب في قلعة راشيا، لأيام عدة، قبل أن تسلم فرنسا باستقلال لبنان، «الأول».
الحرب الأهلية
حصل لبنان على استقلاله رسمياً، وقام فيه نظام سياسي–طائفي بعد توافق بشارة الخوري ورياض الصلح، على ما سُمي بـ«ميثاق العيش المشترك» بين المسلمين والمسيحيين. وتم اعتماد المادة 95 من الدستور كحالة طائفية دُعمت بعُرف في توزيع السلطات، إلا أن هذه الصيغة التي بنيت على تسوية، لم تبنِ دولة مؤسسات قط، رغم ترديد تلك العبارة في خطابات القسم لرؤساء الجمهورية، والبيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة.
فلبنان المستقل حديثاً، لم يحسم مسألة الهوية، وظل ساحة صراع للآخرين، رغم أن الحياد كان دائماً مطروحاً مع التحاق أطراف في السلطة أو خارجها بمحاور إقليمية ودولية. ثم حصل اغتصاب فلسطين من قبل العدو الإسرائيلي عام 1948، ليطرح سؤالاً مركزياً على أركان النظام اللبناني، أين موقع لبنان من الصراع مع الكيان الصهيوني الذي سرعان ما تجلت أطماعه في الأراضي اللبنانية بعد أن هجّر إليها نحو 200 ألف نازح فلسطيني.
والنزوح الفلسطيني تحول بعد نحو عشرين عاماً، إلى الكفاح المسلّح، بعد أن احتلّت إسرائيل الضفة الغربية بما فيها القدس وغزة في حرب 1967، فشكّل السلاح الفلسطيني، أزمة داخلية بين مؤيّد ورافض له، فانقسم اللبنانيون حوله، وبدأ الكلام عن تنظيمه الذي ظهر في اتفاق القاهرة، في وقت طالبت قوى سياسية بنزع السلاح الفلسطيني، وإعلان حياد لبنان، ونشر قوات دولية عند الحدود مع فلسطين المحتلة، وكان أشد المطالبين بهذا الخيار، العميد ريمون إدّه، رئيس حزب الكتلة الوطنية، إلا أن الأحداث تسارعت ووقعت أعمال عسكرية، وبدأت عمليات تسليح في صفوف الأحزاب الانعزالية، إلى أن وقعت الحرب الأهلية التي اختلطت فيها المطالب السياسية المتعلقة بتطوير النظام، إلى أخرى نقابية تتعلّق بقضايا حياتية ومعيشية واقتصادية، قبل أن تستعر الحرب بتدخلات خارجية، كان العامل الإسرائيلي حاضراً أساسياً فيها، قبل دخول العنصر السوري عليها.
دخل الجيش السوري إلى لبنان عام 1976، واجتاحت إسرائيل لبنان في 1978 و1982، فخرجت منظمة التحرير الفلسطينية بقوة آلة الحرب الصهيونية والتدخل العسكري الأميركي، إلا أن ذلك لم يمنع اللبنانيين من الاستمرار في القتال، بسبب ارتباط طرف لبناني هو «حزب الكتائب»، بالعدو الإسرائيلي، ومساعدته على احتلال لبنان، فبرزت ميليشيا «القوات اللبنانية» التي حاولت كسر التوازن في الجبل، إلا أن دمشق كانت لها بالمرصاد عبر منع «صهينة لبنان» فدعمت المقاومة الوطنية التي نشأت رداً على الاحتلال الإسرائيلي ومنعته من فرض «سلام وصلح» مع لبنان على غرار ما تم مع النظام المصري برئاسة أنور السادات عام 1978.
إذ تمكّن الوطنيون اللبنانيون بمقاومتهم العسكرية والسياسية، من إسقاط إفرازات الاحتلال الإسرائيلي، بتمزيق «اتفاق 17 أيار»، ومحاصرة عهد أمين الجميّل «الكتائبي»، المدعوم إسرائيلياً، ونجحت القوى الوطنية، في قلب المعادلات لصالحها، حتى توقفت الحرب بتدخل خارجي، فصدر اتفاق الطائف برعاية سعودية أوكلت لسوريا مهمة تطبيقه، عبر إيقاف القتال وحلّ الميليشيات وتوحيد المؤسسات وانتظام عملها، فتوحّد اللبنانيون من جديد وأسقطوا الحواجز فيما بينهم، بعد طي صفحة الحرب الأهلية.
ما بعد الطائف
ومع استعادة المؤسسات لدورها وحضورها، وفتح المعابر بين المناطق التي ظلت مقطعة لسنوات، استمرّت المقاومة في عملياتها، مع بروز دور أساسي لـ«حزب الله»، باتفاق إيراني–سوري، حيث سهّلت دمشق عبور السلاح للمقاومة، وأمّنت لها عمقاً استراتيجياً وصل إلى طهران، وكان من نتائج ذلك، الصمود بوجه عدوانين شنتهما إسرائيل في العامين 1993 و1996، ثمّ في تحرير الجنوب عام 2000، بطرد الجيش الإسرائيلي وحلفائه من ميليشيا العميل أنطوان لحد من الشريط الحدودي.
غير أن الانتصار المشهود للمقاومة سرعان ما فتح الباب لأصوات رافضة لمقاتلة إسرائيل، ومعارضة للوجود السوري في لبنان ودوره وكان رأس الحربة البطريرك الماروني السابق، نصرالله صفير، قبل أن ينضم إليه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي رفع شعاره الشهير متسائلاً عن مستقبل لبنان، «هانوي أم هونغ كونغ؟»
قاد صفير المطالبة بخروج القوات السورية من لبنان، التي كان ينظر إليها على أنها قوات احتلال، أما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي –جنبلاط– فاتهم دمشق باغتيال والده كمال جنبلاط، خلال الحرب الأهلية، مطالباً بالثأر من النظام السوري.
وقد تقاطعت مصالح صفير وجنبلاط مع الإدارة الأميركية لملف المنطقة، لاسيما بعد احتلال العراق عام 2003 وإسقاط نظام البعث فيه، وتبشير واشنطن بقرب سقوط توأمه في سوريا.
رفعت الولايات المتحدة الغطاء عن الدور السوري في لبنان، فصدر القرار 1559، ثم اغتيل الرئيس رفيق الحريري، فوقع زلزال سياسي كانت من تداعياته الأولى خروج القوات السورية من لبنان عام 2005، وقد تبين أن للبطريرك صفير دوراً فاعلاً في فرض هذا الانسحاب من خلال الجهود التي أطلقها منذ ما بعد تحرير الجنوب عام 2000، حيث كان سيد بكركي يمهّد لهذا الحدث دون أن يغفل الدعوة إلى حصر السلاح بالجيش اللبناني، نافياً أية ضرورة لاستمرار المقاومة وسلاحها وزاعماً أن القرارات الدولية كفيلة بلجم إسرائيل وحماية لبنان، وهو التفكير الذي كان يتشاركه صفير مع مسؤولين آخرين في الحكم، ممن راهنوا على مشروع السلام برعاية أميركية، قبل أن تخيب توقعاتهم بانتصارات المقاومة، التي حرصت على شكر سوريا لدعمها في مجابهة الاحتلال الإسرائيلي، بينما كان صفير وأعضاء تجمعه السياسي في «لقاء قرنة شهوان» يدعون لخروج القوات السورية ونزع سلاح المقاومة بتأييد من تيار الحريري وجنبلاط، فولدت قوى «14 آذار» عقب «لقاء البريستول» الذي اعتبر أن دم الحريري، حرر لبنان من الوصاية السورية، فيما خلع على صفير لقب «بطريرك الاستقلال الثاني» قبل أن يتنحى عن كرسيه مع اندلاع الربيع العربي واستهداف مسيحيي المشرق من قبل الجماعات الإرهابية فأُحرج صفير وأُخرج، دون أن يشكر المقاومة على دفاعها عن المسيحيين سواء في لبنان أو سوريا.
درب الراعي
الدرب الذي سار عليه صفير، يمشي عليه اليوم، خلفه الراعي، بعد مهادنة قسرية مع المقاومة استمرت لعدة سنوات.
إذ كان الراعي صاحب الدور الأساسي في النداء الذي صدر عام 2000، عن مجلس المطارنة الموارنة، بالدعوة إلى خروج القوات السورية من لبنان، وتسليم المقاومة لسلاحها بعد التحرير، كما ساهم عام 2005، بتجييش الشارع ضد السوريين بعد اغتيال الحريري. وها هو اليوم يمارس الدور الذي أنيط به، وهو الدعوة إلى «حياد لبنان»، الذي نودي به منذ عقود دون أن يبصر النور يوماً، لأنه في الواقع لا يوجد إجماع بين اللبنانيين حول مفهوم الحياد، الذي يرى فيه معظم اللبنانيين مجرد دعوة مبطنة لإقامة سلام مع إسرائيل والاعتراف بها، وهو أمر دونه حروب وصراعات داخلية.
ولتنفيذ فكرة الحياد، طرح الراعي إقامة مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، للبحث في وجود لبنان الدولة والدور. وحول هذا الطرح، انقسم اللبنانيون بين مؤيّد ومعارض، فظهر الداعمون لسيد بكركي وهم أحزاب «الكتائب» و«القوات اللبنانية» كأبرز الحاضرين في الصرح البطريركي، السبت الماضي، دعماً للراعي الذي لم يقدم جديداً في كلمته، التي جاءت متبعثرة، و«من كل وادٍ عصا»، كما يقال في المثل الشعبي.
غير أن من كل ما قاله الراعي يصب في هدف واحد، وهو نزع سلاح المقاومة وتحرير الدولة من نفوذ «حزب الله» المزعوم، وإن لم يعلن البطريرك ذلك مباشرة، لكن الجمهور الذي هتف لخطاب سيد بكركي كان أكثر فصاحة منه بتصويب الشعارات نحو «حزب الله» ووصفه بـ«الارهابي»، فضلاً عن الدعوة إلى خروج «الاحتلال الإيراني».
هكذا عبّر المحتشدون عن مضمون ما يريده الراعي، وهو تحرير لبنان من النفوذ الإيراني المتمثل بـ«حزب الله»، الذي لم ينكر قادته ارتباطهم الديني بالولي الفقيه، السيد علي خامنئي، وتلقي الدعم العسكري من طهران.
هكذا يدخل سيد بكركي المرتبط دينياً بسيد الفاتيكان، معركة يسميها أنصاره بـ«معركة الاستقلال الثالث»، وهي معركة موجهة ضد فئة أو طائفة محددة في لبنان، وهذا لا شك يهيئ الأرضية لصراع أهلي جديد وربما التدويل الذي يريده تحت الفصل السابع، وقد رفضه أمين عام «حزب الله»، السيد حسن نصرالله، وتجنب البطريرك المطالبة به خلال المرحلة الراهنة، بعد أن لمس معارضة واسعة له.
ولكن هل تتهيأ الظروف قريباً للعزف على هذا الوتر مجدداً، وهل من حدث قادم سيغير المزاج الداخلي المعكّر أصلاً في ظل الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي يعيشها اللبنانيون اليوم؟
إنها أسئلة لا يملك الراعي إلا جواباً واحداً عليها، وهو نزع سلاح المقاومة.
Leave a Reply