وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
بعد مرور عشر سنوات من الحرب عليها، لا تزال سوريا صامدة في وجه الحصار الاقتصادي والتدمير الممنهج، الذي جرى التركيز عليه بهدف خنق الشعب السوري، والضغط عليه لتأليبه على السلطة. إرهاب اقتصادي موصوف تناغم مع الإرهاب العسكري، وبينما استطاعت دمشق تطويق الأزمة إلا أنها لاتزال بعيدة عن تجاوزها، وهي التي تعاني بشدة من تبعاتها بالنظر إلى الضائقة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها الشعب السوري بسبب غلاء الأسعار الفاحش وانهيار الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي، حتى بات أكثر من 90 بالمئة من الشعب السوري يرزح تحت خط الفقر.
فمنذ بداية الأزمة السورية عام 2011 سارعت دول عربية عديدة إلى قطع علاقاتها مع دمشق ولاسيما الدول الخليجية، بالتوازي مع إقرار عقوبات غربية وتحديداً أميركية عليها، وصولاً إلى قانون قيصر الذي ترك بصماته السود على المجتمع السوري بمختلف شرائحه، وبالذات في ظل جائحة كورونا. كل القطاعات طالتها العقوبات، بدءاً من النفط الذي حُرمت منه سوريا ويستمر تهريبه نحو بعض دول الجوار بغطاء أميركي، مروراً بقطاعي الزراعة والصناعة اللذين تأثرا بنحو كبير، ومن منا لا يذكر مصانع حلب التي نُهبت عن بكرة أبيها ونُقلت معداتها كاملة إلى تركيا.
أصل الأزمة
وسط تلك الهجمة الشرسة كان لزاماً على سوريا أن تعتمد استراتيجية خاصة تمكنها من الصمود، استراتيجية قائمة على السعي إلى الاكتفاء الذاتي إضافة إلى مساعدة الحلفاء، في مواجهة حرب مركبة غير تقليدية.
الباحث المتخصص في الدراسات الاستراتيجية والجيوسياسية، الدكتور حسن أحمد حسن، يشرح في هذه العجالة بعضاً من ملامح تلك الاستراتيجية، فيشير إلى أنه لا يمكن الفصل بين كل ما حصل في المنطقة من أحداث و«صقيع عربي» وبين ما كان يخطَّط للمنطقة بما فيها سوريا، وما يحدث اليوم، والذي سبق أن تناوله شمعون بيريز الصادر عام 1993 عن «الشرق الأوسط الجديد»، مؤكداً أن مجريات الواقع تكاد تكون تطبيقاً أميناً له وتنفيذاً لـ«خارطة حدود الدم» التي تحدثت عنها مجلة قيادة الأركان العسكرية الأميركية عام 2006، ومفادها أنه لا يمكن بقاء الدول على ما هي عليه اليوم، ولا بد من إعادة تقسيمها طائفياً وإثنياً وعرقياً. هذا عدا عن كلام وزير خارجية الولايات المتحدة السابقة كوندوليزا رايس التي وصفت دماء أطفال لبنان في عدوان تموز عام 2006 بأنها دماء «مخاض ولادة شرق أوسط جديد»، لكنه بقي شرقاً عربياً وخابت آمالهم، وفقاً لحسن.
ويضيف أن كل ما حصل في الدول العربية الشقيقة كان مقدمة وتوطئة وتمهيداً للوصول إلى واسطة العقد، سوريا، وكل ذلك من أجل إرغام القيادة السورية على تغيير رؤيتها لحقوق الفلسطينيين ودعم المقاومة.
يعود الدكتور حسن بالذاكرة إلى الوراء أيام بداية «الثورة المزعومة» فيعتبر أنها من الأساس قامت على الكذب والدجل ومحاولة كي الوعي وتعميم مصطلحات مغلوطة. ويتساءل ساخراً حول «سلمية الثورة»، وكيف قُتل أفراد وعناصر الجيش والشرطة السوريون؟ ألم يقتلوا بالرصاص منذ الأيام الأولى؟ وللمزيد من التضليل، عمّموا كذبة الانشقاقات عن الجيش، فساق مثالاً، ادعاء «المعارضة» بانشقاق اللواء محمد الرفاعي ليظهر لاحقاً بنفسه ويؤكد أنه محال على التقاعد منذ عام 2001 وينفي الأمر جملة وتفصيلاً.
يستشهد حسن أيضاً بحادثة استهداف مجمع البحوث العلمية في جمرايا، حيث كانت مجموعات الإرهابيين ترصد وتصور أماكن سقوط الصواريخ قبل وصولها إلى أهدافها، وكيف أن الهجوم ترافق يومذاك مع هجوم واسع على دمشق من سبعة محاور، ما يؤكد التنسيق العالي بين الإرهابيين ومشغّليهم. أيضاً يتساءل الدكتور حسن عن مبرر استهداف أنظمة الدفاع الجوي منذ بداية ما سُمّي بالحراك السلمي.
استراتيجية الصمود
الخطوط العريضة لاستراتيجية الصمود السورية تقوم على اتضاح الصورة لدى القيادة ومصارحة الشعب في صورة ما يحصل بوضوح منذ الأيام الأولى للأزمة، بحسب حسن، حيث ظهر الرئيس السوري بشار الأسد متحدثاً إلى الشعب عمّا كان يُخطَّط للبلاد.
يعتبر حسن أن الحراك لو كان شعبياً وحقيقياً لما استطاع الجيش الصمود، فأي جيش في العالم لا يمكنه أن يواجه إرادة شعب بأكمله، الجيش كان محتضناً من الشعب، والتفاف الجيش والشعب حول قيادة الرئيس الأسد كان العامل الأساس في ذلك الصمود.
وبشأن ظهور ملامح الانتصار على الإرهاب واستدارة بعض الدول لتحسين العلاقة مع سوريا وإعادتها إلى «الجامعة العربية»، يلفت الدكتور حسن إلى أن هذه الدعوات جاءت بعد إبرام اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل ما يطرح علامات استفهام كبيرة مشككاً في النيات التي تقف وراء هذه الدعوة، مؤكداً أنها «ليست بدافع ذاتي بل هي تنفيذ لأوامر المشغلين لأنهم باتوا على يقين من فشلهم في إخضاع سوريا عسكرياً واقتصادياً، وها هم يحاولون اليوم الحصول بالسياسة على ما عجزوا عنه بالعسكر والاقتصاد». وأضاف «هذه الدعوة هي بمنزلة مفصل من مفاصل الحرب المستمرة على سوريا ومحور المقاومة كله».
يشيد حسن بموقف الحليف الروسي في الأزمة السورية الذي يعتبره مهماً وضرورياً وحاسماً، لكن الشكر قبل الجميع يجب أن يكون لـ«حزب الله»، بوصفهم «شركاء في الدم والانتصار».
ويوضح أن الروس كانوا يعتقدون أن النظام سيسقط بعد عدة أسابيع، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان يمنّي نفسه بالصلاة في المسجد الأموي في أول شهر رمضان، لكن قوة سوريا وثباتها دفعا باتجاه البناء والتعويل على صمودها، فكان أول فيتو روسي–صيني مشترك في مجلس الأمن.
ويؤكد الدكتور حسن أن التدخل الروسي كان مهماً جداً وفاعلاً وقد جاء في الوقت المناسب، لكنه في الوقت عينه، يؤكد أنه حصل بعد أربع سنوات ونصف من صمود الجيش العربي السوري مدعوماً بالحليفين الاستراتيجيين، إيران و«حزب الله». فما قدمه الحليف الروسي لا يستهان به، لكن روسيا تبقى دولة عظمى لها استراتيجيتها ومصالحها وتحالفاتها ومصالحها التي تسير وفقاً لها، ولكنها مع كل ذلك ملزمة بأن تسير وفق السيادة السورية، ومهما نسجت من تحالفات هي ملزمة باحترام السيادة السورية و«إن كان بعض أصدقائها يتصرفون بنحو مغاير».
ويلفت حسن إلى أن سوريا هي بوابة روسيا إلى المسرح الدولي وسبيلها للقضاء على نظام الأحادية القطبية وإعادة رسم التوازنات الإقليمية والدولية.
أما تركيا –بحسب حسن– فتبقى رأس حربة الناتو في المنطقة بغض النظر عن أي تحالف تقيمه هنا أو هناك، والنزعة العثمانية لا يخفيها إردوغان، وهو الذي تبجّح بارتداء لباس السلطان العثماني، ويحلم بإعادة أمجاد السلطنة الزائلة، لا بل ليس لديه مشكلة في إعادة المنطقة إلى العصور الجاهلية لينصّب نفسه سلطاناً عليها برمتها.
يرى حسن أن الرئيس التركي ينسّق مع روسيا من جهة، ومع أميركا من جهة أخرى، ظنّاً منه أنه ضرورة في المنطقة ولا يمكن لأحد الاستغناء عنه.
وعن إمكانية وقوع مواجهة عسكرية بين أنقرة ودمشق، يقول الخبير الاستراتيجي، إن سوريا تترك المجال للتفاهم السياسي والدبلوماسي، فيما تكمن مشكلة الدولة السورية في أنها مسرح عمليات، ومن المعروف أن مسرح العمليات دائماً خاسر، حتى عندما ينجز، وهم يراهنون على ذلك، بدليل سرقة المصانع السورية الممنهجة التي قامت بها تركيا من خلال أدواتها.
يتابع حسن بالقول إن القوات التركية هي قوات احتلال، وسيحين وقت خروجها عاجلاً أو آجلاً، وليس من الحكمة اليوم الاصطدام المباشر لأن سوريا تولي أهمية كبيرة لسلامة المواطن السوري سواء كان مدنياً أم عسكرياً.
فيما يتعلق بالوجود الإيراني على الأراضي السورية، يعتبر الدكتور حسن أنه شأن سوري سيادي داخلي، وإيران لم تأتِ غازية وروسيا أيضاً، ومن حق أي دولة أن تطلب المساعدة من أصدقائها بحسب القانون الدولي، والعلاقات الإيرانية السورية متجذرة وعميقة وراسخة عمودياً وأفقياً، سواء أرغبت إسرائيل ومن يدور في فلكها بذلك أو لم يرغبوا.
إلى أين؟
في ما يتعلق بعمل اللجنة الدستورية المتعثر، يلفت حسن إلى الاختلاف الحاصل داخل فريق المعارضة نفسه، والذي يتألف من عدة اجنحة متناحرة فيما بينها حيث يتبع كل منها منصة خارجية يسير وفقاً لإملاءات الدول الراعية، ويتبادلون أبشع الاتهامات، لذلك هناك استحالة في إنجاز ما يجب إنجازه قبل أن يُجمِع ممثلو تلك المنصات على رؤية موحدة، مذكّراً باعتراف وزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم حين قال إن بلاده أنفقت نحو 137 مليار دولار على المعارضة السورية.
في المقابل، ثمة تقديرات بحثية تشير إلى أن الخسائر الاقتصادية التي لحقت بسوريا خلال عشر سنوات من الحرب قد بلغت أكثر من 530 مليار دولار، أما خسائر القطاع الصناعي وحده تجاوزت المئة مليار دولار.
فهل يمكن للأزمة الاقتصادية الخانقة أن تجر دمشق إلى تطبيع العلاقات مع تل أبيب، قبل استرجاع الحقوق، لاسيما في ضوء ما تسرّب منذ أيام عن مفاوضات سرية تجري بين الطرفين؟
يجيب د. حسن بأن الحكومة السورية أصدرت بياناً رسمياً بهذا الخصوص ونفت الأمر جملة وتفصيلاً، وأكد أنه ليس لدى دمشق ما تخفيه بل هي تفتخر بتحالفاتها وتعلنها على الملأ وتجاهر بعدائها لاسرائيل وبحقها في مقاومتها وهذه من الثوابت.
ويختم الدكتور بالقول: إن انهيار الأحادية القطبية بات أمراً قاطعاً وقد ظهرت آثاره في غير مكان والفضل في ذلك هو لمحور المقاومة مجتمعاً. وليس لأصحاب الرؤوس الحامية سوى مراكمة خيباتهم وإعادة حساباتهم. فزمن مصادرة الإرادات قد ولّى… وسيأتي زمن المقاومة من بيروت إلى دمشق وبغداد وصولاً إلى صنعاء.
Leave a Reply