كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يقترب لبنان بخطى حثيثة إلى النموذج الفنزويلي وربما إلى الصومالي، في مستويات المجاعة والفقر التي يمرّ بها نتيجة الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية الخانقة، بسبب التدهور السريع لسعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي، وانخفاض القدرة الشرائية لدى المواطنين بأكثر من 700 بالمئة، وفق آخر الإحصاءات التي رفعت من نسبة الفقر إلى نحو 70 بالمئة، بعد أن كان قبل أشهر قليلة نحو 55 بالمئة، وفق تقرير لوكالة «الإسكوا» حذّر من أن لبنان يتّجه نحو فقدان «الأمن الغذائي»، مع انحسار القدرة على استيراد المواد الأساسية ورفع الدعم المحتوم عن السلع الضرورية كالطحين والدواء والمحروقات.
ويأتي ذلك بينما تظل البلاد من دون حكومة، وسط إصرار الرئيس المكلف سعد الحريري على تشكيل حكومة وفق مقاييسه، ورفض رئيس الجمهورية ميشال عون لها.
في القعر
الوصول إلى القعر بات أمراً واقعاً في لبنان، إذ أن الهيكل السياسي يعاني من أزمة وجودية، والدولة فيه إلى زوال، كما وصف الوضع وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان، الذي ألقى باللوم على الطبقة السياسية الفاسدة، متهماً إياها بإيصال اللبنانيين إلى الوضع الكارثي الذي هم فيه اليوم.
وقد حاولت باريس مدّ يد العون إلى لبنان عبر مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكن القوى السياسية لم تستمع لنصائحه، وظلّ كل طرف يعمل وفق مصالحه الفئوية ومكاسبه الخاصة، دون الانتباه إلى أن الشارع الذي انتفض مراراً ضد السلطة بات على وشك الانفجار، لاسيما في حال عجزت الدولة خلال الأشهر القليلة القادمة –كما هو متوقعاً– عن مواصلة الدعم للسلع الأساسية وعلى رأسها المحروقات.
وإذا كان الحراك الشعبي مشرذماً ومن دون قيادة أو برنامج موحد، فإن عموم اللبنانيين باتوا يدركون تماماً أنهم بحاجة إلى من ينقذهم من نظامهم الفاشل الذي تمسك به قوى سياسية وحزبية، استأثرت بالسلطة منذ عقود وتقاسمت مغانمها، فهدرت المال العام وأمعنت في الاستدانة من المصارف تحت شعار الإنماء والإعمار، دون أن توفر أبسط الخدمات والبنى التحتية لمنظومة اقتصادية. وعلى أساس المحاصصة، استأثر كل حزب وطرف سياسي، بصناديق تمويل خاصة به، كـ«مجلس الجنوب» لحركة «أمل»، و«صندوق المهجرين» للحزب «التقدمي الاشتراكي»، ومجلس الإنماء والإعمار لتيار «المستقبل»، أما الهاتف الخليوي فكان من حصة آل ميقاتي وآل دلول بالتعاون مع شركات أجنبية، وكذلك النفط الذي توزّع أيضاً على جنبلاط بالشراكة مع آل البساتنة وآل رحمة وغيرهم، وفي بواخر إنتاج الكهرباء، كان فيها نصيب لسمير ضومط نائب رئيس تيار «المستقبل»، كما وجّهت أصابع الاتهام نحو «التيار الوطني الحر» ورئيسه جبران باسيل، من قبل خصومه. أما النفايات، فحصلت شركة «سوكلين» لميسرة سكر على أعلى سعر لطن النفايات، والذي بلغ نحو 135 دولاراً. بل أن السعر المبالغ فيه الذي كانت تستوفيه «سوكلين»، ينطبق أيضاً على مشغلي الخليوي، وشركات الخدمات لمؤسسة كهرباء لبنان، إضافة إلى العديد من المؤسسات التي حصلت فيها أعمال فساد وهدر، كمشاريع طرقات وأبنية، كانت تلزّم لجهاد العرب، الذي يدين بالولاء لآل الحريري. وهناك فاسدون كثر في السلطة شاركوا في الصفقات المشبوهة أو سكتوا عنها مقابل رشوات وتنفيعات.
النموذج اليوناني إلى الفنزويلي
الهدر والفساد وسوء الإدارة والتخطيط، عناصر شكلت وصفة لنتيجة محتومة، وهي إفلاس خزينة الدولة التي كانت تتموّل من الرسوم والضرائب غير الكافية لسد العجز في الموازنة وتلبية طموحات النظام السياسي والسلطة الحاكمة، فكان اللجوء إلى الاستدانة التي راكمت الديون متجاوزة 85 مليار دولار مع خدمة فوائد وصلت العام الماضي إلى نحو سبعة مليارات دولار سنوياً، وهي إلى ارتفاع مع عجز الدولة عن دفع ديونها المستحقة.
هكذا تحوّل لبنان إلى دولة مثل اليونان، التي عجزت عن سداد ديونها، وخضعت لتوصيات الاتحاد الأوروبي لمساعدتها على الخروج من أزمتها. وإذا كان الحل السياسي في اليونان متاحاً لايزال الأمر يبدو بعيد المنال في لبنان الذي تخطى النموذج اليوناني، وأصبح اليوم يعيش النموذج الفنزويلي، وسط انهيار متسارع للعملة الوطنية حيث تجاوز سعر الدولار الواحد –الأسبوع الماضي– 15 ألف ليرة، منذراً بشلل اقتصادي تام بسبب سياسة دولرة الاقتصاد التي لجأت إليها «الحريرية السياسية» على مدار ثلاثة عقود، بإدارة حاكم «مصرف لبنان» رياض سلامة، عبر تثبيت سعر صرف الليرة عند 1,500 ليرة للدولار الواحد، والاعتماد على الاستدانة ورفع الفوائد لجذب الأموال إلى المصارف اللبنانية التي كدّست أرباحاً عالية تقدر بنحو 25 مليار دولار، على حساب المودعين الذين حرموا من مدخراتهم لسد خسائر المنظومة.
وإذ كانت الحكومات المتعاقبة تصرف الأموال على الرواتب وعجز الكهرباء وخدمة الدين التي كانت تشكل الجزء الأكبر من الموازنة، فإن «مصرف لبنان» لم يحرك ساكناً لضبط الإنفاق الحكومي، سواء عبر تحذير المسؤولين من أن أموال «مصرف لبنان» التي تنفقها هي أموال المودعين الذين تم إغراؤهم بفوائد عالية، إلى أن انكشفت اللعبة بإعلان عجز الدولة عن تسديد ديونها، عندما اقترح وزير المال السابق علي حسن خليل بإعادة جدولة الدين كاشفاً عن فشل الحكومة في الالتزام باستحقاقاتها المالية، فشعرت المصارف اللبنانية، الدائنة للدولة، بعبء الأزمة التي بدأت ملامحها عام 2017، مع بدء تهريب كميات ضخمة من الأموال إلى الخارج، وصولاً إلى امتناع حكومة حسان دياب عن دفع سندات «اليورو بوند»، وهو ما اعتبر بمثابة إعلان رسمي عن إفلاس الدولة.
تراكم الأزمات
تراكمت الأزمات على كاهل دولة المحاصصة حتى انفجر الشارع غضباً في 17 تشرين الأول 2019، قبل أن يخمد مجدداً دون أن يغير شيئاً على المسرح السياسي، حيث لازالت القوى الحاكمة منقسمة حول تشكيل الوزارة المتعثرة، بسبب الخلاف على الصلاحيات وطبيعة الشراكة في التأليف بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري وسط تباين في وجهات النظر حول عدد الوزراء وانتماءاتهم وتوزيع الحقائب وغير ذلك من الخلافات الطائفية المعهودة.
وقد بلغ الصدام بين الطرفين يوم الأربعاء الماضي، إلى حد مطالبة عون للحريري بالتنحي عن التكليف في حال لم يتفق معه على شكل الحكومة الجديدة، أما الحريري فرد بمطالبة عون بالاستقالة من رئاسة الجمهورية، قبل أن يزور بعبدا في اليوم التالي لتهدئة التوتر، متعهداً بزيارة لاحقة سيجريها يوم الاثنين المقبل للبت في مسألة التأليف.
ومازال الحريري يسعى منذ أربعة أشهر إلى تشكيل حكومة إنقاذ من اختصاصيين مستقلين يختارهم بنفسه وفق أطر المبادرة الفرنسية وتكون مهمتها وقف التدهور والولوج إلى الإصلاح المالي والاقتصادي.
ولم تتمكّن المساعي اللبنانية الداخلية حتى الآن من تقريب وجهات النظر بين الرئيسين عون والحريري، فقد أخفق كل من البطريرك بشارة الراعي، ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، و«حزب الله» في تدوير الزوايا، في وقت يخفت فيه الحماس الدولي حتى باتت المبادرة الفرنسية شبه معلقة على توافق اللبنانيين، رغم تأييدها من قبل الإدارة الأميركية وروسيا التي شجّعت الأطراف اللبنانية على الإسراع في تشكيل الحكومة، أما العرب فشبه منكفئين عن لبنان، وعلى رأسهم السعودية التي أعلنت عن رفضها لأية حكومة تضم «حزب الله» وهو أمر يصعب تحقيقه من قبل الحريري.
إلى الصوملة
وإذا لم يتمكن المسؤولون اللبنانيون من التوصل إلى تسوية للخروج من عنق الزجاجة، لا يخفى على أحد أن لبنان متّجه نحو الصوملة، أي الجوع والفقر المدقع، مع تزايد القلق من فقدان المواد الغذائية أساسية، التي إن وجدت اليوم، فإن أسعارها ليست بمتناول الأغلبية الساحقة من اللبنانيين الذين باتوا يتسابقون ويتشاجرون داخل المحلات التجارية للحصول على السلع المدعومة من الحكومة، والتي تدور حولها الشبهات، بين إخفائها أو تهريبها أو بيعها بغير سعرها المدعوم، بينما يشح وجود تلك المواد على أرفف المحلات، يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد أسبوع، وصولاً إلى اختفائها من المحلات، وهي التي في غالبيتها مستوردة.
أمام لبنان حوالي الشهرين –وربما ثلاثة في حال الترشيد– قبل فقدان القدرة نهائياً على توفير الدعم الحكومي للسلع الأساسية. وعندها سيدخل لبنان حتماً مرحلة الصوملة.
Leave a Reply