وليد مرمر – لندن
ألغت السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، مواعيدها ليوم الثلاثاء الماضي من دون سابق إنذار، مبلغة المعنيين أن أمراً طارئاً قد استجد وأنها ستعيد جدولة مواعيدها ليوم آخر. أما قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي، كينيث ماكنزي، فقد خول قيادة الأساطيل والجيوش لنوابه واستقل طائرته من فلوريدا إلى لبنان لأمر جلل يتسم بالخطورة! هكذا التقت السفيرة مع الجنرال الأميركي في بلدة «غزة» البقاعية للإشراف معاً على أمر بالغ الأهمية، وهو… حفر بئر ارتوازي في البلدة!
رئيس اتحاد بلديات السهل ورئيس بلدية غزة، محمد المجذوب، تحدث عن «زيارة مفاجئة» للمسؤولَين الرفيعين استمرت عشرين دقيقة اطلعا خلالها على مشروع حفر بئر ارتوازي يعمل على الطاقة الشمسية ممول من الوكالة الأميركية للتنمية. وقال المجذوب إنه لم يكن على علم بتلك الزيارة إلا عندما حطت الطوافة العسكرية وسط إجراءات أمنية مشددة. وكانت السفيرة قد اصطحبت الجنرال القادم من «ولاية الشمس» بعراضة عسكرية ومروحيتين حطتا على الأرض فيما حلقت أربع طائرات في سماء المنطقة، هذا فضلاً عن مئات العناصر من القوى العسكرية والجيش اللبناني –معظمهم من الضباط– عملوا على تأمين الحماية للسفيرة والجنرال، فيما تم احتجاز مئات المواطنين في سياراتهم بعد قطع الطرق، كما ومُنع المصورون والصحفيون من مواكبة الحدث على عكس ما ينبغي في فعاليات من هذا النوع. وقد تمت الزيارة من دون التنسيق مع وزارة الخارجية أو أي من نواب المنطقة أو حتى البلديات المحلية وبشكل مغاير للقواعد الدبلوماسية!
اللافت، هو الصمت التام لأصحاب «السيادة» حيث لم يصدر أي تصريح «سيادي» ينتقد دور السفيرة وتدخلها في الشاردة والواردة في السياسة الداخلية. ويقول المراقبون إن لزيارة ماكينزي الميدانية دلالة خاصة وذلك بعد أن ضمت واشنطن ملفّ إسرائيل الشهر الماضي إلى «المنطقة الوسطى» في الجيش الأميركي التي يرأسها ماكنزي بعدما كانت في خانة منطقة أوروبا، ذلك فضلاً عن رغبة واشنطن بمراقبة المعابر الحدودية بين سوريا ولبنان خصوصاً بعد الادعاءات المتكررة لتل أبيب بتهريب الصواريخ الدقيقة من سوريا إلى «حزب الله» في لبنان. ومعروف عن الجنرال ماكينزي، عداؤه العلني للمقاومة والتحريض عليها، وهو قد زار لبنان خمس مرات لم يلتقِ خلالها أي مسؤول سياسي أو اقتصادي أو إعلامي ما عدا ضباط في الجيش اللبناني.
أما تحركات السفيرة شيا فإنما تذكرنا بتحركات السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، قبيل اندلاع الأزمة السورية وزيارته لمدينة حماه دعماً للتظاهرات التي أوصلت إلى إشعال فتيل حرب لم تنته بعد.
وعلى ذكر السفير فورد، فلقد أعطى يوم الثلاثاء الماضي وفي الذكرى العاشرة للأزمة السورية، حديثا لصحيفة «الشرق الأوسط» انتقد فيه سياسة الولايات المتحدة في سوريا في مراجعة سياسية تعودنا عليها من الكثير من المسؤولين ولكن فقط بعد فقدان مواقعهم المؤثرة. فقد قال فورد: «عندما أستعيد اليوم ما جرى، أجد أننا كنا نلهث باستمرار لمحاولة اللحاق بتطورات الأحداث في سوريا. والأهم من ذلك، أننا لم ندرك أنه بحلول عام 2012 تحول الأمر إلى حرب حقيقية». وتابع السفير السابق: «لم يستجب الأميركيون بعدما تدخل الطيران الروسي على نحو مباشر في الحرب السورية في أيلول 2015، وتوقع الرئيس باراك أوباما أن الروس بذلك سيسقطون في مستنقع شبيه بما واجهه الأميركيون في فيتنام. لكن ما ينبغي الانتباه إليه هنا، أنه في فيتنام، كان الاتحاد السوفياتي والصين يبعثان بمزيد من الإمدادات والأسلحة إلى فيتنام الشمالية كرد على كل تصعيد أميركي، ولكن لم تدرك واشنطن، من ناحيتها، أنه من دون التصعيد من جانب المعارضة السورية، لن يكون هناك مستنقع في انتظار روسيا».
وعن مناطق الحكم الذاتي الكردية قال فورد: «والآن، يأمل الأميركيون في أن يُجبر نموذج إدارة الحكم الذاتي، الأسد على تقديم تنازلات. إلا أنه مع تركّز الحكم في أيدي مجموعة عرقية منفصلة وميليشيا وإدارة مستقلتين، لا يعي كثير من السوريين معنى اللامركزية أو الفدرالية، لكنهم يخشون من أن تسفر هذه التحركات إلى تقسيم بلدهم».
ثم أردف فورد: «وقع الأميركيون في خطأ الظن بأن الاتفاق بين وزراء الخارجية، أثناء اجتماعات «مجموعة أصدقاء سوريا»، يوازي الاتفاق حول الاستراتيجية والتكتيكات العسكرية في الحرب. وقد أخفقنا من جانبنا في حل مشكلة تعارض المصالح والأجندات الوطنية، والأفعال المتضاربة لأجهزة استخبارات الدول «الصديقة» لسوريا، التي أضرت بـ«الجيش السوري الحر»، وشكلت عوناً عسكرياً للأسد. أما الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الأميركيون، فهو عجزهم عن استيعاب كيف يفكر السوريون»!
إذن، وبعد عشر سنوات من حرب كونية ضروس شاركت فيها أكثر من مئة دولة على سوريا عبر دعم وتمويل وتسليح وإرسال الإرهابيين من جميع أصقاع الأرض، يعترف الأميركيون وبكل بساطة «آسفون! فلم نكن نعرف كيف يفكر السوريون»!
فهل تدعي السفيرة شيا من جانبها أنها تعرف كيف يفكر اللبنانيون خلال تنفيذها لأجندات بلادها في لبنان؟ وهل تتوهم أن بئراً هنا ومنحة دراسية هناك ستغيران من مزاج الشارع خصوصاً لدى الطائفة الشيعية مما سيؤدي إلى تغييرات بالتوازنات في الانتخابات القادمة؟ أم أنها ستسير في مخططها المشؤوم لزعزعة الأمن الاجتماعي والاقتصادي اللبناني عبر «قيصر» يتيح تنفيذ مخططات واشنطن التي تتقاطع دائماً مع المصالح الإسرائيلية في المنطقة.
مدير المركز الدولي للاعلام والدراسات الصحافي، رفيق نصر الله، إستغرب كيفية مشاركة مسؤول عسكري كبير بهذا المستوى في افتتاح بئر في منطقة البقاع الحساسة والقريبة من الحدود السورية إلا إذا كان يريد إرسال رسالة ما. وقال رفيق نصرالله إن الولايات المتحدة الأميركية وبعض القوى بما في ذلك كيان العدو وبعض الداخل اللبناني يراهنون على حصول شيء تُعد له العدة وذلك إما في السلسلة الشرقية أو في الجانب الجنوبي من سهل البقاع. وخلص رفيق نصرالله إلى «إن ما قامت به السفيرة الأميركية هي عراضة تشكل مقدمات وجرأة في التطاول على ما تمثله هذه المنطقة التي تعتبر إحدى خزانات المقاومة» داعياً إلى ضرورة إدانة السفيرة الأميركية، وإلى موقف رسمي وشعبي من هذه التحركات، إضافة إلى دور الإعلام الممانع في كشف حقائق الأمور. وختم الصحافي بالقول: «إن أدعياء السيادة لن نرى منهم إلا المزيد من الانكسار وانهيار الكرامة الوطنية أمام ما يجري لأنهم لن يجرأوا على التحدث عما قامت به السفيرة الأميركية لأنهم أتباع فقط».
إذن يبدو أنه وبعد انهزام المشروع الدولي–الخليجي أمام إرادة الشعب السوري، وانهيار آمال نظام آل سعود أمام المقاومة والجيش اللبنانيين بخلق دفرسوار داعشي–قاعدي في تلال القلمون على تخوم سهل البقاع بغية تصدير «الثورة» السورية إلى لبنان، ومن أجل تغيير ديموغرافي مذهبي لم يعد خافياً على أحد، لم يعد أمام هذه الدول ومن أجل تنفيذ مشاريعها إلا الضغط على سوريا ولبنان عبر «قيصرين» سوري ولبناني، أحدهما معلن والآخر غير معلن. ولكن وكما صرح السفير السابق فورد فإن واشنطن لم ولن تفهم كيف تفكر شعوب المنطقة. وفيما لو كانت زيارة الثنائي شيا–ماكنزي إلى سهل البقاع ذات طابع بحثي–أركيولوجي عن قطعة أثرية نادرة أم جثة جندي إسرائيلي منسية، أم كانت ذا منحى رصدي–استطلاعي لمنطقة في غاية الأهمية الاستراتيجية، فمن الواضح أيضاً أنه وبغياب موقف لبناني موحد من المتغيرات الإقليمية والدولية أو حكومة مسؤولة فإن لبنان سيصبح دولة «سائبة» تُمرر فيها ومن خلالها المشاريع المحلية والإقليمية، دون حسيب أو رقيب!
Leave a Reply