محمد العزير
في لحظة تحول سياسي مصيري في أميركا بعد التخلص من الرئيس العنصري دونالد ترامب، والاحتمالات التي تواجه العرب الأميركيين، خصوصاً في ولاية ميشيغن –المهمة جداً في انتخابات الرئاسة– وعشية موسم الانتخابات المحلية في الولاية، لاسيما في مدينة ديربورن التي ستختار رئيس بلدية جديد، حظوظ العرب الأميركيين فيه وازنة للمرة الأولى في تاريخ المدينة التي تعتبر معقل العرب في الولايات المتحدة، فاجأ رجل الأعمال العربي الأميركي، حديث النعمة، بدائي التفكير (م. ص) الجالية اليمنية بالدعوة إلى التظاهر.
سبب المفاجأة أنه ليس في تاريخ التاجر، المصر على لقب دكتور وهو صيدلاني، أية لهفة وطنية على ما يجري في اليمن الذي كان سعيداً ولا في لبنان الذي كان أخضر.
آخر ما يتذكره العرب الأميركيون عن الصيدلاني الذي توسعت تجارته لتشمل البقالة والعقارات بسرعة تثير الشبهات، أنه مع بداية انتشار وباء العصر كورونا، كان يبيع الكمامة الواحدة للعرب الأميركيين من كل الأقطار بما فيها لبنان واليمن والعراق بـ12 دولاراً للكمامة الواحدة، من فرط حرصه على صحة الجالية. لم يكن ذلك مفاجئاً. كانت المفاجأة في سبب ومكان التظاهرة. اختار التاجر الفذ مقر صحيفة «صدى الوطن» مقصداً للتظاهر واختار لمظاهرته عنواناً مثيراً: «الاحتجاج على عنصرية اللبنانيين من أبناء الجالية ضد اليمنيين منها»، واختار منبت التمييز المزعوم في الصحيفة العربية الأوسع انتشاراً في أميركا (صدى الوطن) والتي تترهب لقضية فلسطين، أحياناً إلى درجة المبالغة، وتقصّد ناشرها الزميل أسامة السبلاني، الذي تلقى على وسائل التواصل الاجتماعي كيلاً كبيراً من الشتائم القُطرية والمذهبية والشخصية التي لا تليق إلا بمجرم حرب ممن يعيثون فساداً في أرض العرب برضى وتأييد الصيدلاني المتدين.
توضيحان لا بد منهما:
الأول والأهم هو حقيقة وجود تمييز وتباغض بين العرب الأميركيين، لكن ذلك لا يقتصر على الأساس القطري فقط بل يشمل كل ما يمكن أن يكون مختلفاً بين الناس من الدين إلى المذهب إلى بلد المنشأ، ولا يستثني أبناء البلد الواحد حيث تضاف إلى تلك الأسباب العوامل المناطقية والعائلية، وتلعب طبيعة النظام والاقتصاد الأميركيين دوراً في ذلك إلى درجة تثير التنافر بين أبناء البلدة الواحدة على أساس الأسبقية في الهجرة وهذه أمور موثقة ومعروفة أكاديمياً ولا تقتصر على العرب وإنما تشمل كل المهاجرين بمن فيهم المهاجرين الأوائل من شمال أوروبا.
التوضيح الثاني هو أن غاية هذا المقال ليست الدفاع عن «صدى الوطن» التي تحمل هموم الجالية على طريقتها لأربعة عقود، فوجودها واستمرارها كفيلان بذلك، ولا الدفاع عن الزميل أسامة السبلاني صاحب الباع الطويل في الإعلام والسجال ولا يحتاج إلى من يدافع عنه.
بعد مفاجأة الدعوة الخنفشارية ومفاجأة مضمونها، لم تكن المفاجأة الثالثة أقل شأناً. سبب الدعوة على ما ادعى «الدكتور» (م. ص) مقال نشرته «صدى الوطن»… قبل أربع سنوات! أكرر المقال منشور قبل أربع سنوات، بقلم الزميل حسن خليفة الذي كتبه بشجاعة ولم يعد يعمل في الصحيفة منذ مدة.
أما كبرى المفاجآت فهي موضوع المقال نفسه. إذ يطرح المقال المنشور في القسم الإنكليزي من الصحيفة بتاريخ الثامن من تموز (يوليو) 2017، تحت عنوان «اليمنيون يشعرون بالتهميش بينما أشقاؤهم اللبنانيون يزدادون زخماً» مسألة النظرة المتبادلة بين أبناء الجالية من منطلق طرح قضية الغبن المعنوي اللاحق باليمنيين، وهو بالتالي طرح مطلوب ومشكور ودعوة للتنبه إلى مكمن من الخلل في العلاقة الداخلية في مجتمع يتعرض لضغوط هائلة من محيطه.
لا يحاول المقال تجميل الواقع ولا تبرير التمييز ويعطي للشباب اليمني مساحة كاملة لطرح وجهات نظره في الأمر بكل جدية وحرية.
الطامة الكبرى أن صاحب الدعوة الرعناء المتمسك بلقب الدكترة (م. ص)، والمفترض أنه يجيد اللغة الإنكليزية، بنى كل حملته على جملة وردت على لسان طالبة يمنية أميركية في المقال شبّهت شعور اليمني الذي يعيش في ديربورن (بين اللبنانيين) بشعور الأفريقي الأميركي الذي يعيش بين البيض في الولايات المتحدة. واعتبر صاحب الدعوة أن تلك إهانة من الصحيفة لليمنيين. الإهانة من وجهة نظره هي تشبيه اليمني بالأفريقي الأميركي. هذا الكلام في بيئة موبوءة بالحروب الأهلية والتحريض المذهبي والقبضة الخانقة لرجال الدين (وهو حال اللبناني واليمني والفلسطيني والسوري والعراقي وغيرهم من مكونات العرب الأميركيين) ينطوي على مسؤولية يبدو أن صاحب الدعوة لا يقدّرها.
لكن هذا الكلام الفتنوي قد يجد آذاناً صاغية لدى بعض المتهورين من الجهتين، وقد شهدنا أكثر من حالة بأطراف متعددة ولأسباب مختلفة من الاشتباك اليدوي في عيادة طبيب في «ديكس» بين عراقيين ويمنيين لأسباب مذهبية، إلى الحملات الشرسة بين شيعة عرب وبعض الكلدان العراقيين لمنع مشروع إقامة مسجد في مدينة سترلينغ هايتس، مروراً بزوبعة مرشح لعضوية المجلس التربوي في ديربورن خاض حملته، لا بالإقناع وإظهار الكفاءة، بل بتوسل الفتنة وادعاء المظلومية.
المطمئن في كل هذا المشهد أن الجالية في معظمها واعية وتعرف على الأقل الأرض التي تقف عليها، وتعرف أيضاً بعضها بعضاً وقادرة على التمييز بين من يطلب بحق وبين من ينتهز فرصة ليظهر مستعرضاً قدراته المالية التي لا يُعتد بها أصلاً أو ليحجز لنفسه مقعداً في الصفوف الأمامية في جالية كافحت وضحت وتعبت لتثبت حضورها وكان المكّون اليمني فيها أصيلاً على الدوام.
الذين يعرفون اليمنيين الأميركيين لأكثر من ثلاثة عقود، والذين عملوا معهم وتعاونوا معهم على المستويين الشخصي والمؤسسي (ولن أذكر أسماء اليمنيين الأميركيين من رواد العمل العام حتى لا يعتبرها البعض دعاية أو مجاملة) يعرفون أن صاحب الدعوة ينتمي إلى تيار عقائدي متدين ومزمن لم يعرف عنه يوماً مناصرة لأية قضية عربية، ولم يضرب حجراً من أجل فلسطين، بل كان مصدر التشكيك الدائم بكل من ناصر فلسطين، ولم يترك فرصة انتهازية إلّا واستثمر فيها من الحركة الاستقلالية ما بعد الاستعمار إلى «الربيع العربي» الذي جهد لحرفه عن مساره وتحويله إلى حروب أهلية. مشكلة هذا التيار الواسع الذي يعتبره كثيرون صنيعة المخابرات البريطانية أيام عزّها أنه لم يحقق أية شعبية في أي بلد عربي ولا في المغتربات.
يشبه هذا التيار الذي لا يجد بديلاً لعودة الخلافة العثمانية البائسة أي شيء، بطل رواية الأديب الإسباني الشهير ميغيل ثيربانتس، «دونكيشوت»، الفارس المسنّ الذي لم يجد غير طواحين الهواء ليبارزها ويقاتلها فقط لإثبات فروسيته. حبذا لو أن صاحب الدعوة يستثمر وقته وجهده وماله المستجد في مساعدة جاليته أولاً، أو مساعدة أهله في اليمن، أو تخصيص منحة دراسية للطلاب، بدلاً من أن يتوارى خلف أوهام صغيرة ليرى نفسه كبيراً. بالمناسبة بين اللبنانيين من العرب الأميركيين من كانوا ومن هم على شاكلة حديث النعمة هذا، مستعدين لإحراق بيتهم من أجل إشعال سيجارة.
Leave a Reply