الحريري يتمسك بالتكليف رغم الخلاف مع عون
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
حصل ما كان متوقعاً. لم يتفق رئيس الجمهورية ميشال عون، والرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة، سعد الحريري، على صيغة حكومية، تكون ميثاقية ومتوازنة، كما يريدها عون، ومن أصحاب الاختصاص وغير الحزبيين كما قدّمها الحريري إلى رئيس الجمهورية في 9 كانون الأول الماضي.
فبعد لقاءات عديدة خلال 18 زيارة إلى بعبدا، ظل الرئيسان متمسّكين بشروطهما، واضعين اللبنانيين أمام مرحلة شديدة الخطورة على السلم الأهلي، مع تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية في ظل انحدار الليرة أمام الدولار والارتفاع الجنوني لأسعار السلع، بما فيها المواد الأساسية مثل الخبز والمحروقات والدواء، والتي باتت مهددة بفقدان الدعم الحكومي.
والأسوأ بالنسبة للمواقف المتناقضة التي انتهى إليها اجتماع عون والحريري، أنها تأتي وسط انسداد أفق الحل للأزمة، بعدما تعطّلت المبادرات الداخلية والخارجية على حد سواء، مما وسّع من حالة الإحباط واليأس عند الشعب اللبناني، الذي بات يعيش في البلد الأكثر تعاسة في العالم، مهدداً بأمنه وغذائه وصحته.
عون لا يريد الحريري
لفهم الخلاف القائم بين عون والحريري، لا بد من العودة إلى «التسوية الرئاسية» التي أوصلت الجنرال إلى قصر بعبدا مقابل التعاون مع زعيم تيار «المستقبل» كرئيس للحكومة طيلة عهده. غير أن هذه التسوية بدأت تترنّح منذ احتجاز الحريري في السعودية وإجباره على تقديم استقالته من الرياض في 4 تشرين الثاني 2018، في خطوة عبرت عن عدم الرضا السعودي عن التسوية التي جعلت السلطة ومؤسسات الدولة تحت سيطرة «حزب الله» وحلفائه.
هذا الوضع أغضب القيادة في المملكة، فنزعت الثقة من الحريري ولم تعتبره مرشحها، وسمحت بتصفية شركاته ومؤسساته، ووضعها في المزاد العلني مع عقاراته، لتسديد ديونه التي غرق فيها، وبلغت حوالي 15 مليار دولار، في حين أن ممتلكاته لا تفي سوى 5 أو 6 مليار دولار منها، ولم يعد للحريري أي ارتباط تجاري أو اقتصادي أو استثماري في السعودية، كما فقد الحريري الدور الذي ورثه عن والده، بأنه رجل السعودية الأول في لبنان، فلم يعد بإمكانه استثمار علاقته مع المملكة، كما كان في السابق، وهذا ما أضعف موقفه السياسي في لبنان، بالرغم من محاولاته إظهار نفسه بأنه مازال يملك أوراق قوة في علاقاته العربية والإقليمية والدولية.
وقد ظهر ذلك في زياراته المكوكية إلى كل من تركيا ومصر والإمارات المتحدة وفرنسا وغيرها. لكن هذه الزيارات لم تفتح له الطريق إلى الرياض، التي أعلنت أنها تنتظر حكومة لا وجود فيها لـ«حزب الله» الذي تتهمه بأنه هو المسؤول عن خراب لبنان، وأنه شريك في أعمال حربية تستهدف أراضي المملكة.
وبعد استقالة الحريري الثانية تحت ضغط الحراك الشعبي في خريف 2019، سقطت التسوية الرئاسية بشكل نهائي، وهو ما شجّع عون على التخلي عن الشراكة في الحكم مع الحريري الذي فرض ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة، دون تأييد من «تكتل لبنان القوي» برئاسة جبران باسيل، ولا «حزب الله» الذي عاد وساير الرئيس نبيه برّي، في تكليف الحريري وجمع الأصوات النيابية اللازمة لتسميته، رغم عدم رضا عون، الذي وجه رسالةً قبل الاستشارات النيابية، حذّر فيها من إعادة الحريري إلى رئاسة الحكومة، باعتبار أن ذلك لن يؤدي إلى تحقيق إصلاح فعلي، وأن الحريري لا يؤتمن على تحمل المسؤولية، كما قال باسيل.
وقد ظهرت حملة «عونية» تدعو الرئيس المكلف للاعتذار عن التأليف، بعد أن قدّم تشكيلة حكومية سمح لنفسه فيها بأن يسمي الوزراء المسيحيين من دون مشاورة رئيس الجمهورية، ولا أخذ رأي الكتلة المسيحية الأكبر، لأنه يرفض الاجتماع مع باسيل، المتهم بأنه وراء التعطيل، بينما يرفع الأخير شعار «استعادة حقوق المسيحيين»، والرئيس «المسيحي القوي» الذي سلب منه اتفاق الطائف الكثير من الصلاحيات لكن عون يحاول من خلال توقيعه على مراسيم الحكومة، التي تصدر وفق الدستور بالتفاهم والتعاون بينه وبين الرئيس المكلّف، أن يكون شريكاً فاعلاً وقوياً في التأليف، وهو ما يرفضه الحريري مدعوماً من نادي رؤساء الحكومات السابقين، الذين يتهمون عون بالتعدي على صلاحيات رئيس الوزراء، إذ أعلن الحريري بأن رئيس الجمهورية حاول فرض مرشحين عليه، وأرسل له استمارة لملئها، تتضمن توزيع الحقائب والأسماء وفق الطوائف والمذاهب، فرفضها. في المقابل، قال قصر بعبدا إن الرئيس قدم آلية منهجية لتأليف الحكومة وفق مبادئ واضحة.
لا اعتذار ولا استقالة
وفي ظل هذا الوضع المتأزّم، ودعوة عون إلى إخلاء الطريق لتشكيل حكومة جديدة، فإن الحريري يرفض الاعتذار بل ذهب إلى ربط تنحيه باستقالة الرئيس عون وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، غير أن هذا الاقتراح جوبه برفض سياسي ودستوري. وفي الوقت نفسه طرح رئيس الجمهورية فكرة تعويم الحكومة المستقيلة برئاسة حسان دياب، لجهة تسيير شؤون المواطنين وإعادة تحريك عجلة المؤسسات، مثل إقرار الموازنة. إلا أن دياب لم يقبل هذا الاقتراح، واعتبره إطالة لعمر الأزمة، عدا عن أنه سيضعه وحكومته في موقف لا يحسد عليه في مواجهة المواطنين، لاسيما عند اتخاذ قرارات غير شعبية كرفع الدعم عن المواد الأساسية مثل المحروقات والدواء والطحين، والتي بدأت تفقد الدعم تدريجياً، وقد تضاعفت أسعارها خلال الأشهر الأخيرة.
كما أن دياب الذي لا يتمتع بغطاء سنّي، وهو ليس بوارد إغضاب طائفته التي وقفت معه، في رفض استدعائه للتحقيق على خلفية تفجير مرفأ بيروت، وزاره الحريري متضامناً، فلا يرغب أن يذهب «فرق عملة» في صراعات سياسية هو بغنى عنها.
وسبق لدياب أن وجّه رسالة دعا فيها إلى أنه سيعتكف عن تصريف الأعمال للحث على تشكيل الحكومة. ورغم أن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، طالبه بأن يفعّل حكومته بالحدود التي يسمح بها الدستور، منعاً لتفاقم الأزمات، إلا أن دياب لم يتجاوب معه ولا مع رئيس الجمهورية الذي يريد الضغط على الحريري ودفعه للاعتذار.
قلق أمني
يتمسك الحريري بالتشكيلة الوزارية التي يرفضها رئيس الجمهورية، وقد وصل اللقاء الأخير بينهما إلى توتر كبير وانتهى إلى تبادل الاتهامات في مشهد يشي باستبعاد أي لقاء قريب بينهما خاصة مع تعطّل مبادرات التسوية الداخلية، التي كان آخرها دعوة رئيس «التقدمي الاشتراكي»، وليد جنبلاط، إلى التنازل من الجميع، مبدياً دعمه لحكومة من 20 وزيراً، وهو مطلب لرئيس الجمهورية الذي يقترح حكومة من 20 أو 22 وزيراً. لكن الحريري يصرّ على حكومة من 18 وزيراً لا يكون فيها «الثلث الضامن» لأي طرف سياسي، دون أن يبدي أية نية للتخلي عن التكليف الذي قد يستمر به –ربما– حتى نهاية العهد.
ولا يخفى على أحد أن الأزمة السياسية والاقتصادية القائمة في لبنان، أصبحت في مرحلة حرجة للغاية. إذ أن القلق من هشاشة الوضع الأمني يزداد يوماً بعد يوم، لاسيما بعد تحذير وزير الداخلية محمد فهمي من توسع مظاهر الانفلات الأمني وارتفاع معدلات الجريمة، واصفاً الوضع بـ«الهش» الذي قد ينهار كلياً مع أي حادث أمني كبير مثل اغتيال أو تفجير. وهو ما نبّه منه أيضاً وزير الداخلية السابق مروان شربل، الذي جرى التداول باسمه كوزير للداخلية، في إطار وساطة قام بها مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، بأن تكون وزارة الداخلية لشخصية مارونية غير استفزازية من حصة رئيس الجمهورية.
وتزداد المخاوف من الخطر الأمني، مع ظهور حوادث عنف متفرقة، ذات طابع فردي لكنها بأبعاد سياسية، في ظل التعبئة المتبادلة بالاتهامات بين القوى السياسية، حيث كان للسيد نصرالله كلام تحذيري عندما قال إن هناك جهات في لبنان والخارج تسعى إلى إشعال حرب أهلية.
نصرالله حذر بوضوح من أن الحزب لن يبقى صامتاً إزاء الأزمة، مطالباً الجيش بتأدية واجبه بمنع قطع الطرقات، وحاكم مصرف لبنان بالتدخل لحماية الليرة، ورافضاً «شيطنة» «حزب الله»، وتحميله مسؤولية هذا الانهيار.
وقد رفع نصرالله الصوت حتى باتجاه الحلفاء، الذين ساهموا في بقاء حاكم مصرف لبنان –رياض سلامة– في منصبه، تحت ذريعة الاستقرار النقدي، لكن وصول سعر صرف الليرة أمام الدولار إلى حدود 15 ألف ليرة، كافٍ لتندلع ثورة اجتماعية، وتكمن الخطورة في أن تتحول المطالب الاجتماعية والاقتصادية–المالية، إلى سياسية تستهدف سلاح المقاومة، علماً بأن قطع الطرقات هو نموذج للاصطدام بالمقاومة وجمهورها، لاسيما على طريق الجنوب.
في الواقع، كل شيء في لبنان يعاني من الانهيار السياسي والدستوري والمالي والاقتصادي والاجتماعي والصحي. وهذه الأوضاع السوداوية تنذر كلها بأن الوضع يتّجه نحو الانفجار بوجه حكومة مستقيلة وقوى سياسية تتقاذف المسؤوليات فيما بينها، ولا تتوانى عن قطع الطرقات أمام المواطنين اليائسين.
Leave a Reply