وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
بعد أيام من المحاولات الحثيثة، تمكّن الفنيون العاملون في قناة السويس من تعويم السفينة «أڤرغرين» التي كانت في رحلة من الصين نحو ميناء روتردام في هولندا، وجنحت يوم الجمعة 23 آذار (مارس) المنصرم، متسببة بأزمة عالمية نظراً للأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها القناة المصرية.
سرعة الإنجاز تمت بجهود مصرية خالصة تقريباً، ما خلا مساعدة بسيطة من قاطرتين إحداهما هولندية والأخرى إيطالية ساعدتا في الجزء الأخير من عملية القطر، التي كانت قد شارفت على بلوغ خواتيمها قبل تدخل القاطرتين لتسريع العملية لا أكثر، فتم فتح القناة وسحب السفينة من دون تفريغ حمولتها البالغة 224 ألف طن.
خسائر بالمليارات
ما حصل مع السفينة «أڤرغرين» التابعة لشركة «أڤرغيڤن» في قناة السويس ليس حادثة غريبة أو جديدة، ولطالما تكرّر وقوع مثل هذه الحوادث على مدى السنوات الماضية، لكن الضجة الإعلامية التي أُثيرت هذه المرة، كان سببها طول مدة إغلاق القناة بسبب ضخامة السفينة والحمولة الكبيرة التي كانت على متنها، والذي تسبب بدوره بتأخير عبور السفن التجارية، التي قدر عددها بـ369 سفينة، وكانت محملة بآلاف الأطنان من البضائع.
وقد قدرت الخسائر الناجمة عن التأخير بالمليارات، واضطر عدد من تلك السفن إلى تغيير مساره وسلوك طريق رأس الرجاء الصالح الذي يعني زيادة المسافة 6 آلاف كلم، ما حدا ببعض الشركات إلى التفكير باعتماد خيارات أخرى لنقل بضائعها كالطائرات والقطارات، تفادياً لحوادث مماثلة.
اللواء بحري محمود متولي، وهو أحد الذين شاركوا في عملية تعويم السفينة الجانحة، وفي حديث إلى «صدى الوطن» يستبعد أن يكون الحادث مدبراً، ويستبعد أيضاً أي تورط لإسرائيل في الأمر كما تداول بعض المواقع والمحللين، ويعتبر أنه حادث تقني بحت يمكن أن يقع في أي وقت، وقد شهد بنفسه عشرات الحوادث المشابهة طيلة فترة عمله في البحرية المصرية على مدى ثلاثين عاماً.
ويشير اللواء متولي إلى أن عوامل ثلاثة قد يكون أحدها السبب في الحادث: أولها الظروف المناخية السيئة، وثانيها حدوث خطأ فني أو عيب حصل في السفينة، وثالثها فقد يكون خطأ بشرياً، ويمكن أن تجتمع هذه الأسباب الثلاثة معاً.
في هذا السياق كان موقع «بزنس إنسايدر» قد أعاد نشر وثيقة أميركية قديمة تتحدث عن نية الولايات المتحدة شق قناة بديلة لقناة السويس في صحراء النقب مروراً بالبحر الميت إلى البحر المتوسط وذلك لتعزيز مكانة إسرائيل الدولية على حساب مصر والاقتصاد المصري.
وهنا يذهب بعض المحللين إلى الربط بين ما حدث من تدمير لمرفأ بيروت –الذي عاد إلى العمل في جزء كبير منه على خلاف المتوقع– وحادثة السفينة «أڤرغرين»، لكشف المعادلة التي تسعى إسرائيل إلى تكريسها: مرفأ حيفا بدلاً من مرفأ بيروت، وقناة إسرائيلية بدلاً من القناة المصرية بسبب تعثر وصعوبة الملاحة فيها. وما التركيز الإعلامي على جنوح «أڤرغرين» سوى لطرح الحاجة إلى بديل لقناة السويس، وذلك وفقاً لأصحاب النظرية التي تعتبر أن الحادث كان بفعل فاعل وليس عن طريق الخطأ.
لا مجال للمقارنة
يشدد متولي على أن الحقيقة بعيدة كل البعد عن هذا التوجه، ويميّز بين حادث تفجير مرفأ بيروت وحادث السويس، ذلك أن الأول غير مسبوق ويحدث للمرة الأولى، فيما الثاني يتكرر بين فترة وأخرى بسبب عوامل متعددة، إلا أن ما يميز هذا الحادث هو أنه استغرق وقتاً أطول بكثير من المعتاد، بخلاف الحوادث السابقة، التي لم يكن الأمر يستغرق فيها لإرجاع السفينة الى المجرى الملاحي أكثر من ساعات معدودة.
ويجزم اللواء متولي بأن الولايات المتحدة لو كانت فعلاً تريد إغلاق القناة وعرقلة العمل فيها لفعلت ذلك بسهولة، ولديها الكثير من الأساليب التي تمكنها من ذلك بعيداً عن التسبب بخسارة سفينة ثمنها يبلغ مئتي مليون دولار ومحملة بما قيمته نحو ملياري دولار من البضائع.
لا شبهة حول تورط إسرائيلي
أما بالنسبة إلى التحقيق الذي باشرت السلطات المصرية بإجرائه، فيقول اللواء محمود متولي إن إجراء التحقيق أمر طبيعي، بل هو واجب عند وقوع أي حادث بحري مشابه. وككل السفن، لسفينة «أڤرغرين»، صندوق أسود مثل الذي تحمله الطائرات، وهناك أيضاً وثائق السفينة وسجلاتها وشهادات الموجودين في مركز قيادتها (البريدج) إضافة إلى التسجيلات الصوتية مع مركز الحركة في القناة ونظام حركة السفن «في تي أس» وصور الأقمار الاصطناعية، مؤكداً أن كل هذه الوثائق وغيرها تجري دراستها من قبل لجنة متخصصة تضم ممثلاً عن الشركة المالكة للوقوف على أسباب الحادث.
كما يلفت متولي إلى أن المسؤولية تقع على عاتق ربان السفينة وحده، أما المرشدون فدورهم استشاري فقط، والربان هو صاحب القرار النهائي ويتحمل مسؤوليته، ومن هنا، ثمة استحالة –وفقاً لمتولي– بأن ينحو التحقيق باتجاه فرضية التورط الإسرائيلي، لأنه ليس هناك ما يوحي بأي شيء من هذا القبيل، فلو كان الأمر كذلك لاقتِيد قبطان السفينة وكل أفراد طاقمها إلى مكان مجهول للتحقيق معهم في قضية أمن قومي، فيما الواقع غير ذلك تماماً، والتحقيق يجري على متن السفينة نفسها وهو تقني بحت.
إنجاز مهم
أما من الناحية التقنية والعملانية، يعتبر متولي أن كلمة إنجاز هي كلمة صغيرة قياساً لما حصل، بل هو يرقى ليكون إعجازاً، وبعض الشركات التي كانت قد عاينت وضع السفينة قالت إن تعويمها يحتاج إلى أسابيع، لكن المصريين استطاعوا فعل ذلك في غضون أيام قليلة، وهم فخورون بقدراتهم.
الذين قالوا باستحالة الحل قبل أسابيع، كانوا يستندون إلى الحسابات النمطية والتقليدية، بحسب متولي، لكن المصريين الذين يملكون العلم ولديهم الكفاءات وقد استخدموها فعلاً، واجهوا هذه المرة حالة من أعقد الحالات، ما استدعى ابتكار حلول «من خارج الصندوق». وهذا ما حدث بالفعل، كانت عملية فنية مركبة ومعقدة، هي أقرب ما تكون إلى «خلطة سحرية أنجزها المصريون ستُدرّس في عمليات الإنقاذ البحري على مستوى العالم». وأهمية الإنجاز لا تكمن في المدة الزمنية القصيرة، على أهميتها، بل في النجاح والالتفاف على مسألة تخفيف الحمولة، أي إلى السيناريو الثالث.
التحقيق
مستشار هيئة قناة السويس، سيد شعيشع، كشف لإحدى القنوات الفضائية أن التحقيق سيتضمن ما إذا كان قائد السفينة قد استجاب لتعليمات هيئة القناة قبل جنوح السفينة، وذكر أن التحقيق يجري حول المعدات التي تمتلكها السفينة، وهل استخدمها القبطان قبل جنوحها.
وأضاف مستشار هيئة قناة السويس أن السفينة إذا رفضت الاستجابة للتحقيقات وتوفير كل المعلومات، ستتحول إلى قضية مدنية، وسيتم التحفظ على السفينة بمحتوياتها، وأن هذا الأمر قد يستغرق عامين.
وكان خبراء قد صعدوا على متن سفينة الحاويات الضخمة التي استمرت عالقة لنحو أسبوع في قناة السويس. وسط تساؤلات حول الحادث الذي هز صناعة الشحن العالمية وأدى الى انسداد أهم الممرات المائية الأكثر حيوية في العالم. وقد رست السفينة «أڤرغرين» في البحيرات المرة الكبرى وهي مساحة شاسعة من المياه في منتصف الطريق بين الطرف الشمالي والجنوبي للقناة بعد أن نجحت فرق الإنقاذ في تحريرها عقب ظهر الإثنين الماضي.
التعويضات
بالنسبة إلى الحديث عن تعويضات يتوجب على مصر دفعها للشركات المالكة للسفن بسبب الإغلاق الذي حصل، يقول الدكتور محمد علي إبراهيم، الخبير في شؤون الملاحة البحرية، إن عقود مرور السفن من القناة لا تتضمن أية مسؤولية على القناة، بل إن المسؤولية تقع دائماً على عاتق قبطان السفينة وعلى الشركة المالكة لها، وبالتالي فإن هيئة قناة السويس غير مسؤولة أو مطالبة بدفع أي تعويضات، والدليل على ذلك أن الشركة المالكة اعتذرت عن التسبب بالتعطيل الذي حصل، واستقدمت معدات للمشاركة في التعويم، لأنها تعي مسؤوليتها في الموضوع، وقد بدأ بعض مالكي السفن فعلاً بمقاضاة الشركة المالكة للسفينة.
وفي هذا الإطار، تحدث الإعلام الغربي بدوره عن أن السفينة «أڤرغرين» نفسها ممنوعة من دخول بعض الموانئ العالمية، ولاسيما الألمانية، فقد سبق أن تعرضت لحادث مماثل في ميناء هامبورغ عام 2019، كما جرى تداول حديث عن انقطاع التيار الكهربائي على متن السفينة وأيضاً عن إجهاد الطاقم من جملة الأسباب التي يمكن أن تكون وراء ما حصل. هيئة قناة السويس بدأت بالتحقيق وفقاً لقواعد المنظمة البحرية العالمية وبالتالي لا يمكن الجزم بالأسباب وإلقاء المسؤولية على عاتق أحد قبل انتهاء التحقيق.
وقد أعلن الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، التي تشرف على الممر المائي الدولي، أن السفينة «أڤرغرين» متحفظ عليها إلى حين انتهاء التحقيق في أسباب جنوحها ومراجعة صلاحيتها الفنية، ورجح بأن يستمر التحقيق الذي تجريه لجنة خبراء لنحو أسبوع.
قناة السويس
هي ممر مائي اصطناعي اكتملت أعمال إنشائه عام 1869، يفصل بين آسيا وإفريقيا ويصل البحر الأحمر جنوباً بالبحر الأبيض المتوسط شمالاً. وتمر القناة بعدد من البحيرات ضمن الأراضي المصرية بين مدينة بور سعيد في الشمال ومدينة السويس جنوباً، وتحيطها دلتا نهر النيل غرباً وشبه جزيرة سيناء العليا شرقاً.
وما حصل لسفية «أڤرغرين» أعطى صورة حقيقية عن الأهمية العالية التي تمتلكها قناة السويس بالنسبة إلى العالم كله، حيث يمر عبرها ما يصل إلى 12 بالمئة من حجم التجارة العالمية، ولكن ما حصل يؤكد أيضاً على أن القناة التي أممها الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر، تواجه منافسة شرسة مع المشاريع الإقليمية المطروحة، لذلك لا بد من السعي إلى تطويرها لكي تحافظ على مكانتها كشريان حيوي للتجارة العالمية وقوة استراتيجية لحماية الأمن القومي المصري.
Leave a Reply