كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم تحرّك المبادرات الداخلية والخارجية، الجمود المسيطر حول تشكيل الحكومة في لبنان، ولم تنفع اللقاءات التي عقدها رئيسا الجمهورية ميشال عون، والرئيس المكلّف سعد الحريري، وبلغت 18، في تحريك عملية التشكيل التي مازالت تراوح في المربع الأول، بالرغم من اقتراحات طُرحت من هذا الوسيط وذاك، لتليين المواقف، وتقديم التنازلات من شريكي التأليف، عون والحريري، ليظهر بأن المسألة ليست داخلية فقط، بل لها ارتباط بمصالح خارجية، وأن السعودية التي لها نفوذ سياسي في لبنان، وصاحبة كلمة فيه منذ اتفاق الطائف الذي أنتجته، لا تريد الحريري رئيساً للحكومة، كما لا ترغب أن تقوم بأي مسعى لحل الأزمة اللبنانية، يستفيد منه «حزب الله».
انكفاء السعودية
تتريث السعودية في الاندفاع نحو المساعدة في تشكيل الحكومة، بل هي في حالة انكفاء سياسي عن لبنان، إلى جانب الانكفاء المالي والاقتصادي. فـ«مملكة الخير» لم تعد تقدم المكرمات كما كانت تفعل مع كل أزمة تواجهها بلاد الأرز، لا بل هي سحبت –قبل سنوات– مكرمة للجيش اللبناني بثلاثة مليارات دولار، وأخرى لقوى الأمن الداخلي بمليار دولار، بعد أن تبيّن للرياض بأن لبنان ليس في قبضتها، بل في قبضة «حزب الله» ومن خلفه إيران.
فحليف السعودية الأساسي في لبنان، «تيار المستقبل» برئاسة سعد الحريري، بات ضعيفاً أمام إمساك «حزب الله» وحلفائه بالسلطة، بعد وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، بمساهمة من الحريري، الذي أقام تسوية مع «التيار الوطني الحر» برئاسة جبران باسيل، إثر خسارة حلفاء السعودية للأكثرية النيابية من خلال قانون انتخاب نسبي، مرّره الحريري.
تلك التطورات، جعلت علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي الخامنئي، يعتز من بيروت في 4 تشرين الثاني 2018، بأن لبنان، بات أحد أربع دول عربية لإيران نفوذ فيها، وهذا ما أغضب الرياض ففرضت على الحريري الاستقالة، وقررت منذ ذلك الوقت، بأن تعاقب السلطة في لبنان، باعتبارها حليفة إيران، فيما عملت تركيا على تعزيز حضورها السياسي في بلاد الأرز، عبر حلفاء مرتبطين بها في الطائفة السّنّية، لاسيما في الشمال. كما لم تغب قطر عن دورها المستمر في لبنان منذ العدوان الإسرائيلي عام 2006، ومساهمتها الكبرى في إعادة إعمار ما هدمته الحرب، إضافة إلى مبادرتها في إنهاء «الحرب الأهلية الباردة» بين اللبنانيين التي ظهرت إثر اغتيال رفيق الحريري، فاستضافت الدوحة مؤتمر حوار بين القوى السياسية اللبنانية في أيار 2008، أسفر عن اتفاق أنهى أزمة سياسية ودستورية حملت معها توترات عسكرية وأمنية ونذرَ فتنةٍ مذهبية وطائفية.
إن الانكفاء السعودي عن لبنان، بدأ منذ سنوات، مما أفسح المجال أمام دول أخرى لملء الفراغ، كفرنسا التي تتصدى اليوم لمهمة إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية–السياسية وهي التي استضافت في العام 2007 «مؤتمر سان كلو» الذي جمع الأطراف اللبنانية للبحث في عقد سياسي جديد، بعد الانسحاب السوري في نيسان 2005.
سين–سين
بعد سنوات من التناغم السوري السعودي في حكم لبنان، بدأت سياسات المملكة تتناقض مع الواقع السياسي في لبنان منذ «حرب تموز» عام 2006، حيث اتخذ المسؤولون في الرياض موقفاً معادياً للمقاومة ضد إسرائيل بتحميل «حزب الله» مسؤولية الحرب واتهامه بالمغامرة بعد خطف جنود إسرائيليين. لكن مع صمود المقاومة وفشل مشروع «الشرق الأوسط الكبير» للرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وتقدم قطر نحو سوريا ولبنان، قررت السعودية أن تعيد وصل ما انقطع مع سوريا، التي وصف رئيسها بشار الأسد، قادة المملكة بـ«أشباه رجال» بسبب مواقفهم المتخاذلة خلال حرب 2006، فأتى الملك عبدالله بن عبد العزيز إلى دمشق، وسبق ذلك لقاء جمعه بالرئيس الأسد في قمة الكويت عام 2009، فأعاد هذا اللقاء ما اصطلح الرئيس نبيه برّي على تسميته بالـ«سين–سين»، فعاد الاستقرار إلى لبنان، وعقدت مصالحات بين الأسد وقيادات لبنانية من أبرزها سعد الحريري ووليد جنبلاط، وهو ما أتاح بعودة وريث «الحريرية السياسية» إلى رئاسة الحكومة، بعد انتخابات نيابية، حصل فيها فريق «14 آذار» على الأكثرية النيابية، كما حصل في عام 2005 عبر تحالف انتخابي مع «الثنائي الشيعي» (حركة «أمل» و«حزب الله»).
وقد بدا حينها أن السعودية لا ترغب بخسارة لبنان، كموقع نفوذ لها. فهي بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر عام 1970، وتوقيع خلفه أنور السادات، الصلح مع العدو الإسرائيلي، أرادت أن تكون صاحبة نفوذ في لبنان الذي كان لسوريا الحضور الأقوى فيه عسكرياً وسياسياً، فارتأت أن تنسّق مع دمشق في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي أيّد اتفاق الطائف، وكُلّف برعاية تنفيذه من قبل السعودية وأميركا، بعد إنهاء تمرّد العماد ميشال عون عليه بدعم من النظام العراقي برئاسة صدام حسين.
ولا شك أن التحالف السوري–السعودي انعكس إيجاباً على لبنان، لاسيما في مرحلة التسعينيات وصولاً إلى اغتيال الحريري الذي غير المعادلات الداخلية والإقليمية.
الباب مغلق أمام الحريري
السعودية التي ينتظر منها الجميع أن تتقدم بإتّجاه الإفراج عن الحل في لبنان، هي في الحقيقة عبّرت عن موقفها من خلال إعلان الملك سلمان من على منبر الأمم المتحدة في أيلول الماضي، أن المملكة لن تساعد لبنان طالما أن «حزب الله» يخرّب فيه، وفق وصف العاهل السعودي. فكان هذا خطاً أحمر، بوجه من يريد أن يشكّل حكومة، مفاده أن السعودية لن ترضى عن أية حكومة يكون «حزب الله» ممثلاً فيها، وهو يتلاقى مع ما تعلنه واشنطن أيضاً.
وبعد أن كانت كلّاً من السعودية وأميركا، تغضان النظر عن مشاركة «حزب الله» مباشرة، أو عبر شخصيات مستقلة يسميها هو من الطائفة الشيعية، منذ العام 2005. تقف مشكلة مشاركة «حزب الله» في الحكم عائقاً أساسياً أما تشكيل حكومة جديدة في لبنان.
وفي هذا الإطار، يؤكّد الرئيس المكلّف، بأنه يريد تشكيلة وزراء غير حزبيين واختصاصيين، فيهرب من معضلة تمثيل «حزب الله»، لكن هذه الصيغة غير الواقعية، لم تمر من بعبدا، لأنه تبيّن أنها تضمّ أسماء لها ولاءات سياسية وحزبية معروفة دون أخرى، وإن لم تكن شخصيات منتمية رسمياً إلى أحزاب معينة.
وأمام رفض مقاربة الحريري، اقترح الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله تشكبل حكومة تكنو–سياسية تضم 20 أو 22 أو 24 وزيراً، وأيّده في ذلك رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، وقبله الرئيس نبيه برّي الذي تبنى تشكيل حكومة من 24 وزيراً، موزعة على ثلاث ثمانيات دون ثلث معطل فيها لأحد، غير أن هذا الطرح، اصطدم بتجاهل من السعودية التي لم تعطِ رأيها في المقترح، وقد حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في اتصال بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أن يحصل على جواب منه، حول معضلة تشكيل الحكومة في لبنان، فكان الاتفاق على «أن تكون حكومة صاحبة صلاحيات»، وهو ما فسّره البعض، بأنها لا تُحرّك من قبل «حزب الله»، وهذه هي العقبة الأساسية.
بذلك، لم يفتح الاتصال الفرنسي–السعودي، أبواب المملكة الموصدة في وجه الحريري الذي يجوب العالم دون أن يسمح له بزيارة الرياض التي لم تعد تثق به بعد تجاربه الفاشلة، حيث يوصف هناك بأنه «ضعيف» ويقدم التنازلات لـ«حزب الله» دون أثمان، وهذا كان من أسباب احتجازه في المملكة وإجباره على الاستقالة قبل نحو عامين ونصف العام.
ولا شك أن احتجاز الحريري وإهانته في السعودية، أضعفته أمام جمهوره في لبنان لاسيما في الطائفة السّنّية، ففقد بذلك الصفة التي ورثها عن أبيه بأنه الممثل الأول للسعودية في لبنان. وانعكس ذلك على أعماله التجارية، فتمّت تصفية أملاكه وشركاته وأبرزها «سعودي–أوجيه»، لسد ديون عليه تبلغ نحو 15 مليار ريال سعودي.
ويبدو أن ولي العهد السعودي، لا يرغب بأن يعطي فرصة جديدة لسعد، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان بن عبدالله آل سعود عندما سُئل في حديث تلفزيوني مؤخراً، عن دعم السعودية للحريري، فكان جوابه أن المملكة تؤيد كل مَن يعمل لإصلاح الوضع، دون ذكر الحريري، الذي ما زال يعول على لقاء مرتقب بين الرئيس الفرنسي والعاهل السعودي وولي عهده، في منتصف نيسان الجاري، حيث سيزور ماكرون المملكة علّه يفتح الأبواب الموصدة بوجه الحريري، الذي سبق وأنجده ماكرون، وفك أسره من أيدي محمد بن سلمان.
الحكومة معلّقة
بات واضحاً أن ولادة الحكومة في لبنان معلّقة إلى أجل غير مسمّى. على الأقل، إلى أن تظهر السعودية ليونة تجاه الأزمة، وهي التي يؤرّقها السؤال: كيف يمكن إخراج لبنان من الفلك الإيراني وإنهاء سيطرة «حزب الله» وحلفائه على السلطة. فالمملكة، قالتها بالفم الملآن إنها لن تمد يد العون إلى لبنان طالما أن «حزب الله» ممسك بزمام الأمور فيه.
السعودية حددت شروطها، وهي أن تكون الحكومة العتيدة خاليةً من نفوذ «حزب الله»، وأن الحريري غير مرغوب به حالياً، وستبقى أبواب المملكة مغلقة بوجهه إلى أن يستعيد ثقة أهل الحكم في الرياض.
Leave a Reply