محمد العزير
يثير إعلان تخصيص شهر نيسان الحالي للاحتفاء بالتراث العربي الأميركي من قبل وزارة الخارجية الأميركية حنين الكثير من العرب الأميركيين، خصوصاً الذين عايشوا أيام الصعود المؤسسي للجالية والاعتراف الرسمي بها على أعلى المستويات، ويرفع منسوب الـ«نوستالجيا» إلى تلك الأيام التي سبقت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية عام 2001، حين كانت الحواضر العربية الأميركية ولاسيما مدينة ديربورن مقصد المرشحين للرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب والمناصب الإقليمية والمحلية الراغبين في خطب ود أسرع المجموعات الاثنية نمواً في حينه من حيث العدد والنفوذ.
يجدد هذا الإعلان، الأمل باستعادة هوية شاملة تستنقذ العرب الأميركيين من شرذمة رجال الكهنوت وبدائية الرموز المصرة على ربط مصير مهاجرين يسعون للعيش بكرامة وحرية مع أبنائهم وأحفادهم ببدائية السياسات المذهبية والفتنوية والعدمية في الوطن الأم، طمعاً في صورة مع زعيم أو تعصباً لفئة أو حزب أو تيار. من نافل القول إن عودة السياسة إلى البيت الأبيض على يد إدارة الرئيس جوزيف بايدن (مهما كانت الملاحظات على أدائها) بعد السنوات الأربع العجاف للرئيس الأحمق السابق دونالد ترامب وفريقه العنصري، يشجع المعنيين على التفاؤل بإمكانية استعادة شيء من السياسة إلى المجتمع العربي الأميركي انطلاقاً من استعادة الهوية التي منحت هذا المجتمع حضوره الحيوي قبل صدمة 11 سبتمبر، ولعل في تغيير التعامل الرسمي الذي بدأ في التعبير عن نفسه تدريجياً نقطة انطلاق مناسبة، على المهتمين والمعنيين التقاطها لتغيير المسار الانحداري بين المستنقعات الكهنوتية والبدائية، وعلى المتمرسين والرواد الذين صنعوا تلك الهوية وذلك الحضور، جذب الجيل الجديد الذي أثبت كفاءته وانتماءه وحيويته ليكون العمود الفقري للكيان الجديد.
وحتى لا تأخذ الـ«نوستالجيا» الموضوع إلى أفق عاطفي بحت أو تحيله إلى أحلام هلامية، لا بد من التذكير السريع بالتاريخ الحديث للهوية العربية الأميركية واهمية استعادتها في هذا التوقيت المفصلي.
بعد إرهاصات مبكرة لرواد العمل العام من مهاجري ما بعد الحرب العالمية الثانية والذين استفادوا من الحاجة الهائلة لليد العاملة في السوق الأميركي المتنامي، جاءت هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران (يونيو) 1967، لتحبط كل الرهانات الاغترابية على الخطابات والعنتريات التي أوصلت العرب إلى الهزيمة المهينة، لكنها ومع انطلاق العمل الفدائي وطبيعته الشعبية وجاذبيته النخبوية، أطلقت في أوساط الشباب العربي في أميركا الذي شعر بإهانة شخصية عميقة جراء الهزيمة، ديناميةً جديدة بدأت في الجامعات وامتدت إلى المؤسسات الدينية والاجتماعية التي كانت في طور التشكيل الأولي كجماعة إثنية في مجتمع يقوم على هذا النمط. وسرعان ما أثارت هذه الدينامية انتباه أبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين الذين كانوا منخرطين في العمل السياسي والحزبي دون وجود رابط بينهم يعتد به.
في مجتمع يتألف من هويات إثنية ذوات عوامل مشتركة في أوطانها الأم وثقافتها وتراثها ولغتها، كانت المهمة الأبرز أمام الرواد اجتراح هوية جامعة قادرة على توفير الحضور لمن أراد دون قوالب الأيديولوجية أو التبعية القطرية أو الولاء الديني أو المذهبي.
من السهل الآن، بنظرة إلى الخلف، القول إن الهوية العربية الأميركية كانت الجواب التلقائي على ذلك، وهي أصبحت كذلك بالفعل، لكن دون ذلك كانت عقبات وتحديات وتقاليد لا بد من تجاوزها خصوصاً وأن الخلاف على تعريف «العرب» كان في ذروته بعد التجربتين الناصرية والبعثية القسريتين، وفي ظل وجود كتل سكانية وازنة بين المهاجرين تتعرض لمؤثرات قوى ومرجعيات لا تميز بين الانتماء العربي كهوية إنسانية وبين العروبة كمشروع سياسي، وتعتبر أن وجودها في الغرب فرصة لإعلان انتمائها الأصغر (بعض الكلدان العراقيين والمسيحيين اللبنانيين والسوريين والأقباط المصريين وحتى بعض الشيعة اللبنانيين).
وكان الجواب، الذي حاز على الأغلبية دون الحصول على الاجماع، هو استظلال قضية فلسطين كقضية حق في مواجهة مجتمع أوسع يؤيد إسرائيل بالمطلق، واعتماد التراث العربي كمحرك للهوية الجديدة. جمع هذا الإطار الشامل نخباً سياسية ومدنية ودينية مختلفة، وسهّل التفاعل المؤسسي بين رواد العمل العربي الأميركي الأوائل من عضو مجلس الشيوخ من ولاية داكوتا الجنوبية جيمس أبو رزق إلى الناشط السياسي الديمقراطي الموهوب جيمس زغبي، المحامي الفلسطيني عابدين جبارة، الناشط الطلابي الفلسطيني خليل جهشان، راعي الأبرشية الارثوذكسية في أميركا الشمالية المطران فيليب صليبا، مؤسس المركز الإسلامي في أميركا الإمام محمد جواد الشري، رئيس المسجد الإسلامي الأميركي الإمام حسين خروب، الناشط في حركة السلام داني يونس ورفيقه مؤسس المركز العربي للخدمات الاقتصادية والاجتماعية (أكسس) إسماعيل أحمد، من ضمن عشرات آخرين تنادوا للعمل الجماعي وإن كان على مستويات مختلفة من الالتزام.
ابتعد التيار العربي الأميركي الذي انطلق من خلال هذا الاطار عن القضايا الخلافية المستوردة من الوطن الأم، واندفع نحو العمل المؤسسي على المستوى الوطني ليملأ فراغاً هائلاً على الساحات السياسية والإعلامية والحقوقية التواقة إلى سماع أي صوت عربي أميركي يواجه الصوت الصهيوني الذي يثير الخوف في قلوب السياسيين والإعلاميين ويتلطى خلف قضايا إثنية محقة ليجيّر التضامن لإسرائيل في كل مجال، لكن الأثر الأهم لذلك التيار كان استقطاب القوى العربية الأميركية الكامنة التي تفتحت في كل الولايات والمدن وفي طليعتها الشباب والطلاب والنقابيون، وانتشر العمل المؤسسي لتتحول اللجنة العربية الأميركية لمكافحة التمييز (ADC) إلى مرجعية نافذة ترفدها اتحادات الطلاب والمؤسسات الإقليمية والمحلية التي بدأت في تلبية الاحتياجات الاجتماعية والقانونية والإنسانية للمهاجرين الجدد.
وجاءت حرب تشرين (أكتوبر) 1973 لتعطي زخماً معنوياً كبيراً كان كافياً لتحصين العمل العربي الأميركي من شقاقات الوطن الأم الكبيرة وخصوصاً حرب لبنان الأهلية وحرب الخليج الأولى بين العراق وإيران وحروب الأخوة في اليمن وما أفرزته من قيح فئوي وطائفي ومذهبي.
تقتضي الموضوعية، الإشارة إلى أن آخر من اعترف بدور المؤسسات العربية الأميركية كان الحكومات العربية ممثلة بسفاراتها في واشنطن، لكن ثمن هذا الاعتراف كان باهظاً. فتحت العلاقة المستجدة بين المؤسسات والسفارات شهية البعض على التمويل والتمدد خارج الإطار الأصلي، ولأن الحكومات، كل الحكومات، ليست جمعيات خيرية وتريد أن تأخذ أكثر مما تعطي، فرضت العلاقات المستجدة على المؤسسات العربية الأميركية التماشي مع رغبات الإدارات الأميركية التي كانت تستثمر في الإسلام السياسي بعد تجربة «المجاهدين» في أفغانستان، والدخول القوي للدين في الميدان السياسي عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، فتنافست المؤسسات الوطنية العربية الأميركية على استعراض عضلاتها الإسلامية من خلال توفير منصات إسلامية سياسية في داخلها استنزفت الكثير من المقدرات قبل أن تهوي يد الإرهاب على العرب الأميركيين وتجبرهم على الانكفاء لترث العمل العام مؤسساتٌ دينية تحولت بالتدريج إلى كهنوت يتمتع بذهنية القرون الوسطى وإمكانات القرن الحادي والعشرين التقنية.
هذا درس ينبغي ألا ينساه المعنيون في رحلة استعادة الهوية المسروقة.
والآن بعد عقدين على الانكفاء، وبعد تجريب «مكارم» الكهنوت و«فضائل» السفارات والأنظمة، لا يحتاج الدفاع عن الهوية العربية الأميركية إلى الكثير. فقط لنتذكر أين كنا في الانتخابات الرئاسية عام 2000، وأين اصبحنا الآن.
الآن للصوت العربي الأميركي دور حاسم في ثلاث ولايات مهمة على الأقل (ميشيغن، أوهايو وبنسلفانيا) والهوية الواحدة لا تعني أبداً وحدانية الميول السياسية والحزبية، لكنها بالتأكيد ضرورية للدفاع عن قضايا العرب الأميركيين لأن تلك القضايا ليست حزبية ولا عقائدية بل وطنية وإنسانية قبل كل شيء، والعرب في أوطانهم بحاجة إلى ريادة من العرب في الانتشار ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
Leave a Reply