الحكومة تقترح بطاقة تمويلية للأسر الأكثر فقراً .. وكرة النار في ملعب مجلس النواب
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بعد تراجع الاحتياط الالزامي في «مصرف لبنان» إلى حوالي 16 مليار دولار، وهو ما تبقى من أموال المودعين، لم يعد أمام الحكومة اللبنانية من مفرّ سوى اللجوء إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية، مثل المحروقات والأدوية والمواد الغذائية، التي تكلّف الخزانة سنوياً نحو 5.4 مليار دولار، ويذهب جزء كبير منها إلى التجار والمهرّبين بينما يزداد المواطن اللبناني فقراً، حتى باتت نسبة الفقراء تقدر بحوالي 70 بالمئة من السكان بعد أن كانت 55 بالمئة، وفقاً لتقرير صادر عن «الأسكوا» قبل حوالي سنة.
وأمام حتمية رفع الدعم عن المواد الأساسيّة الذي سيولّد تلقائياً ارتفاعاً كبيراً في أسعار السلع والخدمات، يجري تسويق مشروع البطاقة التمويليّة بوصفها أداة إنقاذية للأسر الفقيرة، وسط تشكيك البعض بقدرة الدولة على تحميل تلك البطاقة بما يكفي لتمويل معيشة الفقراء وتنقّلاتهم.
حياة رغيدة
رفع الدعم بات ممراً إجبارياً على الحكومة في لبنان، سواء الحالية المستقيلة، أو التي ستشكّل، إن شكّلت. فوفق وصفة «صندوق النقد الدولي» يعتبر رفع الدعم علاجاً ضرورياً لاقتصاد لبنان ودولته المفلسة، التي تمضي على مسار الفشل مثل فنزويلا والصومال وغيرهما، بعد أن كان لبنان بلداً يحتذى بمتوسط دخل الفرد، في فترات متعددة، على الرغم من الأزمات الداخلية والحروب الأهلية والاعتداءات الإسرائيلية التي عصفت به.
ففي خضم تلك الأزمات، كان الحد الأدنى للأجور في لبنان 450 دولاراً شهرياً، وهو رقم جيد جداً عالمياً لكنه لم يكن يكفي لتوفير أساسيات العيش في بلاد الأرز بسبب الغلاء الفاحش، التي جعلت لبنان يصنّف في المرتبة الرابعة عربياً.
ولولا غلاء المعيشة، لكانت ظروف الشعب اللبناني أفضل بكثير، لاسيما وأنه يوفر للمواطنين التعليم الرسمي شبه المجاني، وكذلك الاستشفاء والطبابة لفئات واسعة من الشعب، إذ بلغ عدد المستفيدين من الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة وصناديق التعاضد، نحو 65 بالمئة من اللبنانيين، وكان بإمكان الحكومات المتعاقبة، أن تضمن صحياً كل الشعب اللبناني، حيث كان العمل يجري على إصدار البطاقة الصحية الموحدة، بالإضافة إلى الضمان الصحي الاختياري، لكن ما جرى، بأن مَن تولوا السلطة نهبوا الخزينة العامة، بالتواطؤ مع مصرف لبنان، الذي لم يضبط نفقات الدولة وكان يستدين لها من المصارف بفوائد عالية، فحققت البنوك أرباحاً هائلة من خلال تسليفها أموال المودعين إلى الدولة التي كانت تهدر المال في الإنفاق العبثي على الكهرباء ورواتب الموظفين وخدمة الدين العام، مقابل شح الإيرادات، باستثناء ما كان يضخّه المغتربون من مبالغ تقدر بنحو 8 مليار دولار سنوياً.
أما الانهيار المالي الذي بدأت نذره بالظهور قبل سنوات، فكان يتم تمويهه بتصريحات وشعارات كاذبة من قبيل أن «الليرة بألف خير»، إلى أن وقع المحظور وانكشفت الكارثة، فأدرك اللبناني بأن عليه أن يدفع فاتورة الرغد الذي كان يعيشه غالياً، وذلك من ودائعه التي طارت، ثمّ في معيشته وأمنه الاجتماعي بعد أن اعتاد لعقود على العيش برفاهية والتنعم بقروض المصارف والفوائد المرتفعة على الودائع.
رفع الدعم
في ظل الكارثة الاقتصادية التي يعيشها لبنان، وأزماته السياسية والدستورية وانحلال مؤسساته، يرى البعض أن رفع الدعم عن المواد الأساسية، بات واقعاً لا يحتمل التأجيل أو المماطلة، غير أن رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب، لازال يمانع المضي في هذا المسار بمفرده.
فبعد أن «حمل كرة النار» بترؤس الحكومة في ظل الانهيار، يخشى دياب أن «يحترق» هذه المرة بنيران الشارع في حال إقدامه على خطوة رفع الدعم من دون غطاء سياسي من مجلس النواب، في حين أن حاكم «مصرف لبنان»، رياض سلامة، كان قد أبلغ المسؤولين بأنه لم يعد بإمكان البنك المركزي تأمين الدعم لاستيراد السلع الأساسية.
ويتهيب دياب محقاً من تبعات خطيرة قد تنجم عن رفع الدعم في وقت بلغ فيه الحد الأدنى للأجور نحو 50 دولاراً شهرياً، قياساً إلى سعر صرف الليرة في السوق السوداء عند 12,500 للدولار الواحد، ما يعني تراجع القدرة الشرائية للمواطن إلى درجة الحرمان من سلع وخدمات أساسية في حياته قبل الأزمة.
تقترح الحكومة رفع الدعم، مقابل توزيع بطاقة تمويلية وليست تموينية، فيصرف مبلغ شهري للمواطنين الأكثر فقراً. لكن اعتماد البطاقة التمويلية، يتطلب تأمين مصادر تمويلها، وهي غير متوفرة حالياً، لاسيما مع إعلان مصرف لبنان عن عدم مساسه بالاحتياطي الإلزامي.
وتبلغ تكاليف البطاقة المقترحة نحو مليارين و253 مليون دولار سيتم توزيعها على حوالي 750 ألف عائلة من الأسر الأكثر فقراً، وفق إحصاءات وزارة الشؤون الاجتماعية، بحيث تبلغ حصة العائلة المكونة من أربعة أفراد نحو 137 دولاراً تصرف لهم من البنوك وفق سعر الدولار بالسوق السوداء، وليس السعر الرسمي 1,507 ليرة، أو السعر المعتمد في المصارف عند 3,900 ليرة.
مصير الأسعار
تفادياً لأي فشل في الخطة، يشترط الرئيس دياب، أن يتم تمويل البطاقة من الاحتياطي الإلزامي وإلا فإن السير فيها سيكون أشبه بالسير بحقل ألغام، لاسيما بعد أن سُدّت بوجه لبنان سبل التمويل الخارجي، ومنها قطر التي زارها دياب، وتمنى على أميرها المساهمة في دعم البطاقة التمويلية.
غير أن قطر التي لم تتوان قط عن مساعدة لبنان –خاصة بإعادة الإعمار بعد العدوان الإسرائيلي صيف 2006، وبحلحلة محنته السياسية في ولادة اتفاق الدوحة– أبدت هذه المرة تردداً واضحاً حيال مطلب دياب الذي لم تعطه جواباً سلبياً وأبقت طلبه قيد الدرس.
لكن دياب الذي لا يمتلك ترف الوقت، فقد سارع إلى تقديم خطة الحكومة لرفع الدعم التي ستشمل تخفيض دعم المحروقات من 90 بالمئة إلى 15 بالمئة، والأدوية إلى 50 بالمئة، والمواد الغذائية 100 بالمئة، ما عدا القمح الذي يؤثر على سعر رغيف الخبز.
ولا شك أنه مع رفع الدعم ستحلق الأسعار عالياً، إذ يتوقع أن يصبح سعر صفيحة البنزين نحو 150 ألف ليرة، وهذا الارتفاع وحده سيكون كفيلاً برفع تكاليف سلع وخدمات عديدة أخرى، فيتحول كل لبناني تقريباً إلى مواطن فقير، إلا قلة قليلة من أصحاب الثروات، وسط انعدام كلي للطبقة الوسطى التي ستكون قد فقدت قدرتها الشرائية بشكل كبير، لن تعوضه حتى البطاقة التمويلية المقدرة بحوالي 1.3 مليون ليرة للأسرة الواحدة.
وإن كان هذا المبلغ كفيلاً بسد حاجات معينة إلا أنه بالتأكيد لن يعيد التوازن إلى القدرة الشرائية للمواطن، إلا بإعادة البحث في الحد الأدنى للأجور، وهو أمر مستبعد حالياً في ظل التدهور الاقتصادي المستمر وما يرافقه من إقفال مؤسسات وصرف عمال وموظفين يقدر عددهم بنحو 700 ألف شخص أضيفوا إلى العاطلين عن العمل.
ولإعادة القدرة الشرائية للبنانيين، مقارنة بما قبل الأزمة، تحتاج الدولة إلى زيادة الحد الأدنى للأجور إلى نحو 20 مليون ليرة شهرياً، أي أضعاف أضعاف ما هو عليه الآن، وهذا سيرفع التضخم إلى مستويات شبيهة بالنموذج الفنزويلي حيث أصبحت العملة لا تساوي قيمة الورق الذي تطبع عليه.
الكرة في مجلس النواب
كرة النار التي يحملها دياب ويخشى أن تنفجر بوجهه، رماها إلى حضن مجلس النواب من خلال مقترح الحكومة الذي يحتاج إلى موافقة السلطة التشريعية ليصبح قانوناً.
ومثل هذا القرار، ستكون له –بالتأكيد– تداعيات مفتوحة في الشارع الذي انتفض بوجه السلطة في 17 تشرين الأول عام 2019 بسبب إضافة رسم بسيط بقيمة ستة دولارات شهرياً مقابل استخدام تطبيق «الواتساب». فماذا سيحصل لو أن الدعم رُفع عن سلع أساسية بنسبة عالية جداً؟
الجواب –كما يخشى البعض– هو الفوضى الاجتماعية، ثمّ الأمنية، التي قد تتدحرج نحو فتنة يتم استغلالها سياسياً لتحقيق أهداف خارجية في لبنان، منها نزع سلاح المقاومة الذي لم يتوقف استهدافه منذ عقود، لاسيما وأن أطرافاً داخلية، تقوم بحملة منظمة سياسية وإعلامية وشعبية، لـ«شيطنة» «حزب الله» وتحميله مسؤولية انهيار الاقتصاد وإفقار الشعب وتجويعه، من خلال تسببه بمحاصرة لبنان وعزله دولياً وإقليمياً وعربياً. وبأن البحبوحة لن تعود إلا بتحييد لبنان عن الصراع مع إسرائيل.
كل لبناني فقير
إذا ما اتّخذ قرار رفع الدعم وأصبح قانوناً في مجلس النواب، فإن لبنان سيدخل في تصنيف الشعوب الأكثر فقراً. وإذا كان صندوق النقد الدولي قد منح لبنان قرضاً بقيمة 246 مليون دولار لمساعدة العائلات الأكثر فقراً، فإن هذا المبلغ لن يكفي سوى لأشهر، وبعد ذلك، سيضطر لبنان إلى الاقتراض مجدداً، لكنه قد لا يلقى من يساعده في المرة القادمة.
ورغم خطورة الموقف، تبقى القوى السياسية في لبنان، منشغلة بصراع المصالح تحضيراً للاستحقاقات القادمة، وعلى رأسها الانتخابات النيابية ورئاسة الجمهورية، وسط تعثر كل المبادرات والوساطات الخارجية، لاسيما المبادرة الفرنسية التي تواصل إرسال الموفدين إلى لبنان لدفع أركان الحكم إلى تشكيل حكومة إنقاذ وفق معايير محددة. وقد حضر وزير الخارجية الفرنسية –جان إيف لودريان– الأسبوع الماضي إلى بيروت بنفسه، لدفع مبادرة رئيسه إيمانويل ماكرون، وذلك بعد تلويح باريس بفرض عقوبات على سياسيين لبنانيين، وسيلحقه نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف، لاستطلاع الوضع، بعد زيارات لقيادات لبنانية إلى موسكو.
Leave a Reply