لم تتوقف بركات المقاومة الفلسطينية المسلحة على الأراضي المحتلة فحسب، بل عبرت أصداؤها البحار والمحيطات لتغمرنا بنعيمها السمح هنا في الولايات المتحدة، وفي منطقة ديترويت على وجه الخصوص، لترمّم الشروخ الطائفية والمذهبية التي قوّضت وحدة الجاليات العربية في أعقاب ما يسمى «الربيع العربي».
لقد أثبتت عملية «سيف القدس»، بأن فلسطين هي البوصلة التي لا بديل لها، والمنارة التي لا غنى عنها، مهما تنوعت مشاربنا وجذورنا، ومهما تعددت همومنا ومصائبنا، وذلك على الرغم من الآثار الكارثية للاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة لمدة 11 يوماً.
في الأيام القليلة الماضية، تكاتف العرب والمسلمون في منطقة ديترويت، لأول مرة منذ سنوات طويلة، في تظاهرات جامعة عنوانها الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني ومدينة القدس ومسجدها الأقصى. وقد شهدت «عاصمة العرب الأميركيين» مسيرة حاشدة ضمت ما يزيد عن عشرة آلاف متظاهر من مختلف الأعراق والإثنيات والأديان، وقفوا جميعهم وقفة رجل واحد لدعم فلسطين وشعبها الأبي، والتنديد بسياسات الفصل العنصري التي تنتهجها الدولة العبرية منذ عشرات السنين، غير آبهة بمبادئ حقوق الإنسان أو أدبيات المجتمع الدولي.
كما نجحت الفعاليات العربية في تشكيل «لوبي» عربي لحث الإدارة الأميركية على وقف العدوان الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين، وكانت أولى ثمار تلك الجهود تراجع «لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي» عن الموافقة على مدّ إسرائيل بأسلحة فتّاكة تزيد قيمتها عن 735 مليون دولار.
ولسنا نبالغ إذا قلنا بأن الحراك العربي الأميركي (مع الضغوط الشعبية في جميع أنحاء العالم) حقق مبتغاه المنشود في فضح إسرائيل وإجبارها على قبول وقف إطلاق النار، وانصياعها لهدنة بدون شروط مسبقة، مساء الخميس الماضي.
لقد فضح المؤتمر الصحفي الذي عقده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأربعاء المنصرم، مزاعم النخبة السياسية والعسكرية حول التقنيات المتطورة للقبة الحديدية في دولة الاحتلال، كما كشف عن زيف الادعاءات التي كانوا يصدّرونها إلى كل دول العالم منذ حربهم الأخيرة على غزة عام 2014، بعدما ثبت بأن فاعلية قبتهم المزعومة لا تزيد عن 40 بالمئة.
بالتأكيد، لقد هدمت عملية «سيف القدس» أسطورة القبة الحديدية، وزدات من هيبة «قبة الصخرة»!
ولم ينجح «بيبي» بإخفاء ارتباكه وخوفه في مؤتمره الصحفي الأخير، رغم محاولاته البائسة بالاستنجاد بأنظمة التطبيع العربية، في مصر والإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وحتى بالسلطة الفلسطينية نفسها، إذ حاول مراراً وتكراراً التأكيد بأن هزيمة إسرائيل أمام «حماس»، تعني هزيمة جميع الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط.
لقد كان تصريح نتنياهو الآنف الذكر، كلمة حق يُراد بها باطل، إذ توهم –مخطئاً– بأن «أنظمة العار» قادرة على ترويض قطاع غزة بالنيابة عن الإسرائيليين، وكانت النتيجة أن المقاومة مرغت أنف الدولة العبرية وأنوف «أصدقائها» العرب بالتراب.
وكان مصيباً رئيس تحرير صحيفة «هآرتس» العبرية، ألوف بِنّ، عندما وصف غارات إسرائيل على قطاع غزة، بأنها «أفشل وأحمق حرب تشنها تل أبيب، بالمقارنة مع حرب لبنان الثانية، وحروب غزة السابقة»، وبأنها فضحت «الفشل العسكري في استعدادات الجيش الإسرائيلي، وكذلك الفشل الدبلوماسي لحكومة مشوشة ومشلولة».
وليس من المستبعد أن يكون نتنياهو قد أخذ بنصيحة بِنّ، الذي طالبه بوقف الحرب على غزة فوراً، بدلاً من البحث عن انتصار وهمي، ورمي الكرة في ملعب الرئيس الأميركي جو بايدن لتحقيق إنجاز –ولو كان صغيراً– من خلال الدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار، وهو ما حصل بالفعل.
لقد حفظت الهدنة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية ماء وجه نتنياهو، وغطت سوءة الكيان الإسرائيلي. وفي المقلب الآخر، أثبتت بأن «العين تقاوم المخرز»، وكنست إلى سلة المهملات أقوال المرجّفين والمتخاذلين. ولعل هذه الحقيقة هي ما يفسر انطلاق الاحتفالات العفوية في مدن فلسطين وقراها مع بدء سريان وقف إطلاق النار.. لقد أدرك الفلسطينيون بأن مقاومتهم دحرت آلة الحرب الإسرائيلية.
بعد 11 يوماً من الحرب الغاشمة على القطاع المحاصر، رفع الفلسطينيون الأعلام الفلسطينية وأعلام «حركة المقاومة الإسلامية» (حماس) ورايات باقي الفصائل، وترددت التكبيرات عبر المساجد، مع ترديد هتافات تشيد بالمقاومة وتحيي صمود الشعب الفلسطيني بالمسجد الأقصى والقدس وحي الشيخ جراح بالبلدة القديمة.
أما الإسرائيليون فقد انكفأوا على أنفسهم، ووقفوا أمام المرآة بلا رتوش، وها هو الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي ينتقد الدولة العبرية، وهي في عزّ الهزيمة، غير مبالٍ بجراحها العميقة، ويقول «من السخف النظر إلى إسرائيل على أنها دولة ديمقراطية».
ويلفت ليفي بأن إلصاق التهم بالمتطرفين اليمينيين لتبرير التجاوزات الإسرائيلية هو مجرد محاولة هزيلة لتخويف الناس، مؤكداً بأن سياسات الفصل العنصري تطبق بشكل ممنهج في إسرائيل منذ العام 1948.
والأهم في كلام ليفي، أنه من المستحيل الفصل بين إسرائيل «الطيبة» والاحتلال «الخبيث»، إذ هما وجهان لعملة واحدة، فهذه الخديعة لم تنطلِ على الفلسطينيين الذي تمسكوا بخيار «المقاومة»، بالرغم من الجهود الدولية المضنية لجرهم إلى طاولات المفاوضات في أوسلو وكامب ديفيد.
ودور العرب لم ينتهِ أيضاً، إذ لا بد لنا من الوقوف أمام المرآة، لكي نتأكد –لمرة إضافية– بأن المقاومة هي سبيلنا الأوحد إلى الوحدة والتحرر. وعلى جالياتنا العربية الأميركية أن تفهم –بدورها– هذا الدرس المستفاد، وتؤمن بأن وحدتنا وتماسك صفوفنا هو طريقنا الوحيد لتحقيق وجودنا وحماية حقوقنا المدنية والدستورية في الولايات المتحدة، وأن النعرات الطائفية والمناطقية لن تزيدنا إلا ضعفاً وتفسخاً!
«صدى الوطن»
Leave a Reply