وليد مرمر – لندن
لا شك أن التفاعل الواسع في كافة منصات السوشال الميديا كان انتصاراً مدوياً في الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غرة المحاصر. فلقد بدا ظاهراً للمراقبين أن معركة الرأي العام التي كانت دائماً في جعبة إسرائيل لم تعد كذلك، وأن سهولة الحصول على المعلومات التي وفرتها الإنترنت قلص إلى حد غير مسبوق النفوذ الإعلامي الذي تمتعت به إسرائيل منذ نشأتها. وهذا الأمر هو غاية في الأهمية لما يشكله من تأثير على المناخ الشعبي وبالتالي على دوائر صنع القرار.
فقد ساهم انتشار المشاهد الفظيعة للعدوان الإسرائيلي على وسائل التواصل الإجتماعي مثل صور الضحايا من النساء والأطفال والأبراج المهدمة، في تغيير ملحوظ لدى العديد من المشاهدين الذين كانوا فيما مضى يُحسَبون من أنصار إسرائيل. كما ساعد الانتشار العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً ببلدان الغرب في تغيير الصورة النمطية التي كانت تلازم المقاومة الفلسطينية كشلة إرهابية حاقدة جلّ همها القضاء على دولة إسرائيل «الديمقراطية».
وفي أروقة السياسة الأميركية كان لافتاً ظهور نوع من الموضوعية الخجولة لدى الرئيس جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن تجاه النزاع، وهو ما يكاد يعتبر سابقة في خطاب الإدارات الأميركية المتعاقبة. وهذا ما حدا بالرئيس السابق دونالد ترامب لانتقاد إدارة بايدن لعدم دعمها المطلق لإسرائيل.
كان لافتاً أيضاً، تبني «الرباعي النسائي» الديمقراطي، لأكثر المواقف اعتدالاً وموضوعية بشأن النزاع. والرباعي النسائي يتألف من النواب آيانا بريسلي ورشيدة طليب وإلهان عمر وألكساندريا أوكاسيو كورتيز. قد وصفت الأخيرة إسرائيل داخل قاعات الكونغرس بأنها «دولة فصل عنصري» فيما اتهمت إلهان عمر دولة الاحتلال بارتكاب أعمال إرهابية بحق الشعب الفلسطينية. وهذه المواقف لم يُنكرها الحزب الديمقراطي أو يتبرأ منها وهو ما يُعد أيضاً أمراً مفاجئاً.
ولكن يبقى رافع شعار «حياة الفلسطينيين مهمة» السناتور اليهودي الأصل عن ولاية فيرمونت والمرشح الرئاسي السابق بيرني ساندرز، صوتاً مميزاً وذلك لمواقفه المتقدمة والتي دعت الإدارة الأميركية للوقوف مع حقوق الفلسطينيين، متهماً حكومة نتنياهو باتباع سياسة عنصرية ضد الفلسطينيين، ولافتا إلى أنه و«رغم أن إطلاق حركة حماس، الصواريخ نحو إسرائيل يعد أمراً غير مقبول إلا أن هذه الصواريخ لم تكن هي الشعلة الحقيقية للأزمة، بل هي محاولة إخلاء سكان حي الشيخ جراح». كذلك انتقد ساندرز التغلغل الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية والحصار المفروض على سكان غزة والذي يحرم سكانه من أي بصيص أمل في حياة كريمة. واتهم نتانياهو بتحجيم وشيطنة الفلسطينيين في إسرائيل عبر اتباع سياسات استيطانية من أجل تقويض حل الدولتين.
ولكن للمرء أن يتساءل هل كان ساندرز ليبقى على مواقفه المعتدلة تجاه القضية الفلسطينية فيما لو كان فاز بانتخابات الرئاسة الأميركية؟ أم أنه كان سينصاع لسياسات الدولة العميقة وسيكتفي بإطلاق مواقفه المغايرة فقط لدى تنحيه عن السلطة ربما في كتاب يقوم بنشره، كدأب الرئيس السابق جيمي كارتر.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فلقد نقلت وسائل الإعلام أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو يقف عند النصب التذكاري لضحايا مجزرة الـ«هوتو» ضد قبيلة الـ«توتسي» بمدينة كيغالي في راوندا يوم الخميس الماضي وهو يقول: «ديزوليه، آسف»!
وكم كان حرياً بالرئيس الفرنسي –سيء الذكر– فرنسوا ميتران أن يوقف دعمه العلني والخفي لمجازر الإبادة الجماعية التي قامت بها حكومة «الهوتو»، بدلاً من أن يتأسف سلفه، الذي لن يُعيد عقارب الساعة إلى الوراء، على تلك المجازر التي تسببت بمقتل مليون شخص من قبيلة الـ«توتسي» خلال 100 يوم! ويا ليت الثنائي أوباما–كلينتون لم يؤسسا ويدعما «داعش» وأخواتها عوضاً عن الاعتراف والتأسف في خطبهما وكتبهما بعد التنحي عن الحكم.
وبالعود إلى حرب غزة الأخيرة، فلقد انسحب المزاج الدولي المتغير تدريجياً تجاه القضية الفلسطينية على مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي أقر يوم الخميس الماضي إنشاء لجنة تحقيق في انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية. وقد صوتت ألمانيا والنمسا وبريطانيا ضد هذا الإجراء فيما امتنعت فرنسا عن التصويت.
أما البعثة الأميركية بجنيف فقد أعربت عن أسفها «بشدة» لقرار إنشاء لجنة التحقيق الدولية، مدعية أنه يعرقل جهود السلام! وقد أدان رئيس الوزراء الإسرائيلي القرار قائلاً إنه مخز ويعبر عن هوس المجلس المعادي لإسرائيل. ووصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية القرار بأنه «فشل أخلاقي» مضيفة أن إسرائيل لن تتعاون مع التحقيق!
وفي تطور موازٍ آخر يوحي ببداية واعدة لتغير المناخ السياسي الدولي المنحاز تاريخياً لإسرائيل استدعت وزارة الخارجية الإسرائيلية يوم الخميس الماضي أيضاً، السفير الفرنسي لديها بعد تصريحات لوزير خارجية بلاده، جان إيف لودريان، بشأن مخاطر من أن تشهد إسرائيل «فصلاً عنصرياً» داخل حدود الـ48.
وقد أدت تصريحات الوزير الفرنسي إلى ردود فعل من مواقع مختلفة في الحكومة الإسرائيلية لعل أبرزها كان تصريح وزير الخارجية غابي أشكينازي الذي قال إن كلام لودريان «غير مقبول ولا أساس له ومنفصل عن الواقع». فيما انتقد نتنياهو بشدة –في بيان أصدره– تصريح لودريان واصفاً إياه بأنه «ادّعاء وقح وكاذب».
ولعل ما قامت به وكالة «الأسوشيتد برس» للأنباء يوم الإثنين الماضي من طرد الصحافية إميلي وايلدر، يُعتبر مصداقاً لا لبس فيه عن خطورة ومدى تأثير «السوشال ميديا» على المزاج العام. فلقد نشرت الصحافية اليهودية المنضمة حديثاً للوكالة تغريدة مشككة في الموضوعية لدى استعمال المصطلحات في تغطية الأخبار قالت فيها: «إن استخدام إسرائيل وليس فلسطين، والحرب وليس الحصار أو الاحتلال، ما هي إلا خيارات سياسية، ومع ذلك تتخذ وسائل الإعلام هذه الخيارات طوال الوقت دون اعتبارها منحازة».
وإثر ذلك، قامت «الأسوشيتد برس» بفصل وايلدر من عملها بعد تعرضها لحملة تشويه واسعة بسبب مناصرتها لحقوق الفلسطينيين. وقالت وايلدر: «أبلغوني أنني انتهكت سياسة وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم».
وتضامناً معها، قام أكثر من 100 صحافي يعملون في الوكالة نفسها، بتوجيه رسالة مفتوحة استنكروا فيها قرار طرد زميلتهم التي كانت قد تسلمت للتو عملها الجديد كمساعد إخباري في الوكالة. وجاء في الرسالة: «لقد أثار هذا القرار تساؤلاتنا وقلقنا حول طبيعة الثقافة والقيم التي نتبناها بالفعل كمؤسسة صحفية. ونتيجة لهذا التحرك وعدت الوكالة بتشكيل لجنة لتقديم مقترحات تتعلق بإجراء تغييرات في مبادئ وسائل التواصل الاجتماعي وبإعادة النظر في سياساتها الإعلامية».
وفيما تحولت منصات التواصل إلى ساحة حرب افتراضية بين المؤيدين لإسرائيل والمناصرين للشعب الفلسطيني، اتهم بعض النشطاء مواقع التواصل الاجتماعي كـ«فيسبوك» و«تويتر» و«إنستاغرام» بالانحياز إلى إسرائيل عبر رصد وحظر بعض المحتويات المؤيدة للفلسطينيين بحجة «مخالفة معايير النشر» الخاصة بالتطبيق أو المنصة الإلكترونية.
وأكد بعض الخبراء أنه قد تم بالفعل مصادرة وحجب العديد من الحسابات لدى نشرها محتويات صنفت بـ«الحساسة» كما حصل مع الصحافية الفلسطينية الأميركية مريم البرغوثي التي كانت قد قامت بتسليط الضوء على الاحتجاجات ضد طرد الفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية. وقد حُظر حسابها مؤقتاً وجرى استبدال كل تغريدة لها بالرسالة التالية: «حساب مريم البرغوثي غير متاح مؤقتاً لأنه ينتهك سياسة وسائط تويتر». ويذكر أن هذا الحجب يتم بشكل أوتوماتيكي من قبل الموقع أو المنصة.
Leave a Reply