محمد العزير
في بلد يتجرع كأس الفناء بعلنية فظة. في بلد يعاني سكرات الموت ونُخبه في غيبوبة. في بلد مكتظ بالعاطلين والنازحين واللاجئين واليائسين والبائسين الذين يحوّلهم تجار الدين والسياسة إلى كمباليات قابلة للصرف إقليمياً ودولياً. في بلد ترتفع فيه اليافطات المهنئة بتعيين ناظر مدرسة أو دخول طالب إلى المدرسة الحربية. في بلد قائم على طوابير لكل شيء؛ طابور للخبز، طابور للزيت، طابور للتلقيح، طابور للبنزين، طابور للمازوت وطوابير للتعازي. في بلد يقل فيه السير وتزيد فيه المطبات، في بلد ينتظر المنجمين على الشاشات ليعرف مصير السياسة على الأرض، في بلد يتهافت أهله بحسن نية أو عن سوء نية ليرددوا «بشائر» «أبيهم» عن الذهاب إلى جهنم، وفي بلد لا يقبل شهادات فحص الكورونا التي تطلبها سلطاته مسبقاً، إلا من مختبراته «المفعمة بالنزاهة والشفافية» (والتي يمكنها أن تعطيك إفادة رقص باليه في الفرقة الوطنية لشخص فارق الحياة في القرن الماضي). في هذا البلد الذي اسمه لبنان تطغى هذه الأيام قضية الكونفدرالية أو الفدرالية أو التقسيم المناطقي على أساس طائفي–مذهبي وكأن البلد يحاول ان يجد الحل الأنسب للتنمية الإدارية أو الاقتصادية أو أنه يعد لخطة خمسية (سعيدة الذكر) من بقايا أيام الرفيق ليونيد بريجنيف.
الأمر ليس مزحة أو نكتة. حكومة تهرب المواد المدعومة (بالأموال العامة) علناً إلى بلد شقيق لنصرة نظامه الممانع الذي تبلغ ثروة أقل واحد من أقاربه (أقارب النظام)، مليارات الدولارات، وتقوم على حراسته عشرات الأنظمة العالمية والميليشيات (المدعومة إقليمياً). حكومة تصريف أعمال، لمدة تفوق ولايتها، لا تزال تكيل لنفسها المديح بالجملة والمفرق وهي والحكم والنُخب فوق كومة من ركام ما تبقى من بلد. هذه الحكومة ومن ورائها الحكم القوي تروّج عبر أدواتها المعروفة والمجربة لفكرة الكانتونات (لعله من باب تخويف المواطنين من الأسوأ… أو من باب تبشير مواطنين آخرين بالفرج). ينقّض على «التعليمة» فرسان الشاشات الفضية ويستدعون على عجل «الخبراء» العالمين بكل شيء للحديث عن مستقبل لبنان غير الواحد وغير الموحد وغير المتحد. عندها وحينها تبدأ طبخة البحص التي لا تنضج ولا تنطفئ، ولكلٍّ ليلى، وكلٌّ يغنّي على ليلاه.
موضوع النقاش سخيف إلى درجة لا تستحق الذكر، تشعر وأنت تتابع على مضض نوعية النقاش بشيء من الغثيان، وهو شعور ينتابني كلما تابعت نقاشاً سياسياً متلفزاً في لبنان. تعتقد وأنت تستمع إلى «الخبراء» أن لبنان بمساحة أميركا أو روسيا، وبكثافة الصين أو الهند، وبتنوع أميركا أو الأرجنتين ديموغرافياً وعرقياً!
لبنان، أيتها السيدات وأيها السادة، بمساحة أية مدينة كبرى في العالم، هو أقل مساحة من مقاطعة لوس أنجليس، ومن أي من مقاطعات ولايات الغرب الأميركي. هو أقل سكاناً من منطقة مترو ديترويت وأقل مساحة أيضاً. تعيش في لبنان 16 طائفة دينية معترف بها، إلّا أن أكبر طائفة فيه هي طائفة اللادينيين المرغمين على الانتساب لطوائف ومذاهب لا تعنيهم ولا تعينهم في شيء، فيما يزداد عدد المساجد والكنائس والمعابد وعدد المساجين.
أطول مسافة بين شمال لبنان وجنوبه 210 كيلومترات (150 ميلاً) وأقصى مسافة بين البحر المتوسط وحدود لبنان الشرقية 50 كيلومتراً (31 ميلاً). على هذه الرقعة يعيش ما يتراوح بين 3.5 إلى 4.5 ملايين لبناني (آخر إحصاء سكاني للبنان كان أيام الانتداب الفرنسي عام 1932… ومنذ ذلك الحين لم تجرؤ حكومة لبنانية على إجراء أي إحصاء خوفاً من شبح الحرب الأهلية – التي حصلت وامتدت بدون إحصاءات. ومع المواطنين اللبنانيين، يعيش ما يتراوح بين 300 ألف ونصف مليون لاجئ فلسطيني (بصفة مؤقتة وبانتظار العودة… لذلك ليست لهم أية حقوق أو تقديمات، سوى استخدامهم كفزاعة سياسية للتخويف من التوطين، كلما اقتضى الأمر الطائفي حيناً والمذهبي أحياناً)، وهناك منذ اندلاع الانتفاضة السورية ما يتراوح بين 1.1 مليون و1.5 مليون نازح سوري (حسب الأهواء ووفق التصنيفات السياسية والممانعاتية –لأن عشرات الآلاف منهم قاموا بواجبهم الدستوري الشهر الماضي وصوتوا للتجديد للرئيس الشاب الدكتور الفريق الأول بشار الأسد لولاية رابعة على التوالي).
يلاحظ الناظر إلى خريطة «لبنان الكونفدرالي» التي تساهلت في التصنيف واكتفت بأربعة كانتونات (واحد للمسيحيين، وثلاثة للمسلمين؛ سنة، شيعة ودروز) مدى التداخل الديموغرافي بين مناطق ضئيلة المساحة قليلة المصادر وغير مترابطة جغرافياً. ماذا ستكون الحال لو أن حمى الكانتونات وصلت إلى كل طائفة وكل مذهب فأراد الأرثوذكس الغساسنة (عرفاً) التخلي عن الهيمنة المارونية في الجبل والسهل؟ وماذا لو قرر الكاثوليك (الأكثر مدينية وأوربية من الموارنة الريفيين) أن يختلوا بالأشرفية وملحقاتها البيروتية متكلين على عاصمة الكثلكة المشرقية في زحلة؟ ماذا ستكون حصة الأرمن بين برج حمود وعنجر؟ وماذا أذا قرر «البيارتة» التخلي عن الزعامات «المستوردة» من صيدا وطرابلس؟ أين سيكون المقام الجديد لتمثال رياض الصلح؟ وأين سيكون ضريح الرئيس رفيق الحريري؟ ماذا لو أعلن أهل بعلبك عدم رغبتهم في الإقامة مع كانتون الثنائي الجنوبي، وأرادوا كانتوناً لأنفسهم، ثم قررت العشائر عدم رغبتها في مجاورة النازحين سابقاً من الفتوح وكسروان وجبيل من شيعة بعلبك، ثم قرر أهل السنة في بعلبك (وهم الأكثرية الرسمية في المدينة) رغبتهم في التواصل مع سنة البقاع الغربي في القرعون ومنطقتها فاصلين بين دروز حاصبيا ودروز الجبل، وبين شيعة مثلث مشغرة ومنقلب جزين؟ وماذا عن جزين؟ هل تكون أقرب إلى العيشية ودبل وعين إبل من كفرحونة؟
هذا مارد ليس نائماً فقط، وإنما مات وصارت عظامه رماداً ولا يمكن لأي كان أن يوقظه. فلا السنة في الكورة ولا الموارنة في طرابلس وبعلبك أو حارة حريك والضاحية أو صور أو ما سمي يوماً بالشريط الحدودي، ولا الدروز في بيروت ورأسها، ولا الأرثوذكس في بحمدون والجرود، ولا الشيعة في كسروان وجبيل (أو من تبقى منهم) أو في منقلب صنين من حزرتا إلى جلالا، ولا السنة في سعدنايل وتعلبايا، ولا اللادينيون على مساحة لبنان الصغير مستعدون للتبادل السكاني والترحيل ولا لبنان قابل للقسمة.
كل ما في الأمر أن حكماً في لبنان ظنّ، وبعض الظن إثم، أنه قادر على صنع المعجزات ليكتشف أن من أوصله إلى السدة، أوصله لغاياته وليس إكراماً لعيونه الكحلى أو لقامته الظريفة، وأن عليه أن ينتظر نهاية ولايته دون تهيؤات أو مطامح نَسبية للوراثة. لم تكن رئاسته فلتة شوط، لكن عليه أن يدرك أنه لم يكن في السباق تلقائياً، وإنما وظيفياً، وملهاة الفدرالية أو الكونفدرالية ليست إلا لتمرير وقت لا علاقة له به مهما عقد من اجتماعات وهمية… وليسأل مستشاره المفضل الذي كان من قبل مستشاراً لخصمه المعلن (المفضل) إميل لحود، فإن كان مستشاره صادقاً سينصحه بمن يقرأ له رواية غابرييل غارسيا ماركيز «خريف البطريرك».
Leave a Reply