كمال ذبيان – «صدى الوطن»
يزداد الوضع تعقيداً في لبنان. المبادرات تفشل الواحدة تلو الأخرى، والوساطات تترنح وتراوح مكانها، ولا أفق لأي حل للأزمة الدستورية والسياسية المتفاقمة بين القوى الحزبية الحاكمة، وسط انهيار مالي واقتصادي وبؤس اجتماعي تؤججه معدلات الفقر والجوع والبطالة المتزايدة.
تُجمع الدول والمنظمات الدولية المتابعة للشأن اللبناني، على الحالة الميؤوسة التي تعيشها البلاد، بسبب الخلافات المستحكمة داخل الطبقة السياسية القائمة على تغليب المصالح الفئوية والطائفية على حساب المصلحة الوطنية، حتى أصبح الأمل في قدرة هؤلاء السياسيين على انتشال لبنان من براثن الانهيار معدوماً خاصة في ظل نظام المحاصصة الفاسد.
جمود حكومي
الواقع المتردي في لبنان، عبّر عنه ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب موريل الذي زار بيروت مؤخراً للاطلاع على آخر تطورات الأزمة، لاسيما في ما يتعلق بتشكيل الحكومة، التي من المفترض أن تكون المفتاح للبدء بإصلاحات شاملة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بلاد الأرز. فقد حمّل موريل، المسؤولين اللبنانيين، مسؤولية ما حلّ بالشعب اللبناني الذي بدأ يفقد أبسط مقومات الحياة والخدمات العامة.
بل تحدث موريل عن أن الاتحاد الأوروبي، يتّجه إلى درس فرض عقوبات على معرقلي تشكيل الحكومة الإصلاحية الموعودة، مصارحاً مَن التقاهم من المسؤولين، بأنه لم يعد هناك وقت كاف لإنقاذ لبنان من سقوط الدولة والمؤسسات، وإن كانت الفرصة مازالت متاحة للإنقاذ في حال تشكّلت حكومة يكون الإصلاح والإنقاذ على رأس أولوياتها، وفقاً للمبادرة الفرنسية التي طرحها الرئيس إيمانويل ماكرون، ونالت تأييداً دولياً وعربياً، لاسيما داخل الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن.
وخلص المسؤول الأوروبي، إلى أن الأزمة –كما وصفها الرئيس نبيه برّي– «داخلية»، وأن حلّها يكمن في لبنان بقرار تتّخذه الأطراف السياسية، التي سبق لها أن التزمت أمام الرئيس الفرنسي، قبل نحو عام، بتسهيل تشكيل حكومة إنقاذ، إلا أن ذلك لم يحصل، لأن القوى الحاكمة في لبنان محكومة بنظام طائفي يحتم عليهم تحقيق مكاسب ومغانم في السلطة، وأي تنازل منها يعتبر تنازلاً عن حقوق الطائفة. فظهر الخلاف بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري، ليمس أسس النظام اللبناني. فمن جهة يتمسك عون وتياره السياسي بقيادة صهره جبران باسيل يتشبثون بـ«الميثاقية والتوازن» مطالبين بأن تكون تسمية الوزراء المسيحيين لرئيس الجمهورية، بعد أن انكفأت الكتل المسيحية الأساسية في البرلمان عن المشاركة في الحكومة، كـ«التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» و«الكتائب»، في وقت يرفض الحريري الانصياع لشروط عون وباسيل، والعودة إلى تسوية رئاسية جديدة بذريعة الدفاع عن صلاحيات رئيس الحكومة وفق دستور الطائف وقد لاقى في ذلك دعماً من «دار الفتوى» ورؤساء حكومات سابقين اصطفوا دفاعاً عن حقوق المسلمين السنة.
خلاف برّي عون
ولم يقتصر الخلاف على رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، بل توسع ليصبح بين عون ورئيس مجلس النواب، الذي لم يؤيّد وصول الجنرال البرتقالي لرئاسة الجمهورية، إلا مسايرةً لحليفه «حزب الله»، بعد أن كان يفضّل رئيس «تيار المردة»، سليمان فرنجية، الذي وصفه الأمين العام السيد حسن نصرالله، بأنه المرشح الطبيعي بعد العماد عون لرئاسة الجمهورية.
والكلام الذي قطعه نصرالله لعون، ألزمه أن يبقى عند وعده الصادق، ليتحقق ذلك بعد عامين ونصف العام من شغور الرئاسة الأولى، بتسوية بين عون والحريري، صاغها باسيل مع نادر الحريري المستشار السابق لرئيس «تيار المستقبل».
قبل برّي حينها بالتسوية، وسار فيها على مضض، محذراً من أن وصول عون إلى القصر الجمهوري، سيعيد لبنان، إلى مرحلة العام 1988–1990، عندما عيّن أمين الجميّل في نهاية عهده الرئاسي في 23 أيلول 1988، قائد الجيش العماد عون رئيساً لحكومة عسكرية عطّلت انتخابات رئاسة الجمهورية بالاشتراك مع رئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع، قبل أن يختلفا ويخوضا حرباً دموية كانت الأسوأ على «المنطقة الشرقية» طوال الحرب الأهلية.
ولقد صدق برّي في توقعاته، لجهة أن عهد عون لن يكون سلساً لاسيما بعد أن سلّم مقاليد «التيار» والتفاوض السياسي، لباسيل الذي أخذ يتحرك تحت شعار الرئيس المسيحي القوي، واستعادة حقوق المسيحيين.
فكان لصعود التيار البرتقالي إلى الحكم ثمناً غالياً، لأن باسيل اعتمد خطة الإمساك بمفاصل القرار وفرض شروطه، ليصبح رقماً في المعادلة السياسية التي لم تعتد على وجود شريك مسيحي قوي في التركيبة الحاكمة منذ اتفاق الطائف.
بل ذهب باسيل إلى تقديم نفسه كوريث شرعي لرئاسة الجمهورية بعد انتهاء ولاية عون، أسوة بالرئيس برّي المحتفظ برئاسة مجلس النواب منذ ثلاثة عقود، و«الحريرية السياسية» التي لم تغب عن رئاسة الحكومة خلال معظم هذه الحقبة.
وبينما يرجع باسيل طموحه الرئاسي، إلى أنه يترأس أكبر تيار مسيحي، وأكبر كتلة نيابية في البرلمان، إلا أن طموحه هذا أجج التوتر في العلاقة مع برّي، كما تسبب بانعدام الثقة بالحريري، فرفض باسيل عودته إلى رئاسة الحكومة، إلا إذا قبل بالمناصفة الفعلية بين المسيحيين والمسلمين لا بالمثالثة المقنعة، ففتح بذلك جبهة سياسية مع رئيس البرلمان، الذي كان أول مَن طالب بالمثالثة، خلال ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً في مؤتمري جنيف ولوزان، كما في الاتفاق الثلاثي بين حركة «أمل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية» برئاسة إيلي حبيقة.
نصرالله وسيطاً
الخلاف بين عون والحريري من جهة، وبين عون وبرّي من جهة أخرى، عطّل مبادرة الأخير، الذي طالبه السيد نصرالله بالاستمرار بجهودة لتفادي خراب لبنان عبر التوصل إلى تسوية داخلية. غير أن باسيل، رفض اعتبار رئيس مجلس النواب وسيطاً نزيهاً، بسبب انحيازه الظاهر إلى الحريري الذي كلف برئاسة الحكومة بدعم من بري وعدم رضى رئيس الجمهورية، الذي لا يرى في الحريري شخصية قادرة على الإصلاح، لاسما وأن نهج «الحريرية السياسية» هو مَا تسبّب بالانهيار الاقتصادي من خلال اعتماد سياسة مالية واقتصادية غير منتجة، دفعت اللبنانيين إلى الفقر والمهانة.
رغم ذلك، أصر برّي على تسمية الحريري لرئاسة الحكومة كما ضغط عليه لعدم الاعتذار، كي لا تتحقق مآرب عون وصهره باسيل، الذي وجّه ما يشبه النداء لنصرالله، بأن يكون هو المرجع الذي يحتكم إليه، بما يتعرّض له التيار العوني من تجنٍّ ومحاولات إقصاء، وهضم لحقوق المسيحيين، عبر سلب رئيس الجمهورية حق اختيار الوزراء، بينما يعطى هذا الحق لمرجعيات أخرى.
توجُّه باسيل إلى نصرالله ليقول كلمته في الصراع مع برّي، فأحرج بذلك «حزب الله» الذي حرص على ألا يقطع التواصل مع «التيار الوطني الحر»، فأوفد مسؤول الأمن والارتباط، وفيق صفا، للتحاور مع باسيل، حول مبادرة الرئيس برّي، وبهدف تليين المواقف عبر تقديم تنازلات وتضحيات، لكن مهمته لم تتكلّل بالنجاح، فباتت مبادرة بري معلقة حتى إشعار آخر، إلى أن يخرج «حزب الله» بحلّ–تسوية بين الحليفين، حركة «أمل» و«التيار الوطني الحر»، وهي مهمة صعبة في ظل أولوية «حزب الله» في الحفاظ على متانة حلفه مع «أمل»، التي يجمعها بها بيئة شعبية واحدة، وتحالفاً سياسياً وثيقاً خلق الاستقرار والأمن في المجتمع الشيعي بعد الصدامات الدموية بينهما في نهاية الثمانينيات.
وعلى مر عقود ما بعد الطائف تمكّن الثنائي، من التوافق على توزيع المقاعد النيابية والوزارية، إلى جانب اتفاقهما على المقاومة والعلاقة الإيجابية مع سوريا وإيران.
الأيام السوداء
ومع الجمود في تشكيل الحكومة، والخلافات السياسية، حتى بين مَن يفترض أنهم حلفاء، وتعليق العمل بالمبادرات والوساطات، فإن أياماً قاتمة تنتظر اللبنانيين ستكون أسوأ مما مرّ عليهم منذ نحو عامين، وهو ما يتحدث عنه مَن هم في موقع القرار أو المسؤولية. إذ أنذر الرئيس برّي بأن الخراب قادم إلى لبنان، وقبله حذر الرئيس عون من أن لبنان يتّجه نحو جهنّم، فيما لا يرى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، حلولاً في المدى المنظور، أما وليد جنبلاط فأطلق جولات مكوكية في مناطق الجبل، استعداداً للمرحلة السوداء القادمة في ظل انسداد أفق الحل الذي يتطلب تسويات كما قال جنبلاط، وتنازلات كما يؤكّد «حزب الله».
Leave a Reply