وليد مرمر – لندن
– المكان: العاصمة النمساوية فيينا
– الزمان: صيف 2017
– الحضور: عملاء من المخابرات الإسرائيلية والمخابرات السعودية
– هدف الاجتماع: عرض وبيع البرنامج الإسرائيلي التجسسي «بيغاسوس» للسعودية
ذكرت صحيفة «هآرتس» التي سربت الخبر حول هذا الاجتماع أن الجانب الإسرائيلي، وبهدف عرض القدرات المتطورة لبرنامج التجسس، قام بالطلب من نائب رئيس المخابرات السعودي ناصر القحطاني الذهاب إلى مركز تسوق قريب من مكان اللقاء وشراء هاتف «آيفون» وإعطاءهم رقم الهاتف. وبعدها شاهد الوفد السعودي كيف تمكن الإسرائيليون من قرصنة الهاتف والتنصت على الاجتماع وتصوير الحضور!
وبعد عدة اجتماعات إضافية اشترت الرياض نسخاً من هذا البرنامج بقيمة 55 مليون دولار، كما وطلب السعوديون شراء 23 نسخة أخرى من هذا البرنامج لقرصنة هواتف المعارضين السعوديين في الداخل والخارج. وقد كشفت «هآرتس» عن خبايا كواليس بيع منظومات التجسس التابعة لشركة «أن أس أو» الإسرائيلية والتي بلغت قيمتها مئات ملايين الدولارات سنوياً لدولة الإمارات ودول خليجية أخرى من أجل مراقبة معارضي النظام بهذه الدول، وكل ذلك بدعم وتشجيع ووساطة من الحكومة الإسرائيلية.
– من هي الشركة المطورة لبرنامج التجسس «بيغاسوس»؟
إنها شركة «أن أس أو» NSO. وهي شركة خاصة إسرائيلية مملوكة بمعظمها لشركتين أميركيتين («نوفالبينا كابيتال» و«فرانسيسكو بارتنرز») تُعنى بتطوير برمجيات تُباع فقط إلى كيانات حكومية معتمدة تهدف إلى منع الجريمة والإرهاب، و«الشركة غير مسؤولة عن أية إساءة لاستعمال البرنامج»!
نعم صدّق أو لا تصدق، هذه هي الرواية الرسمية التي تريد وسائل الإعلام الرئيسة أن يصدقها العامة!
ولا عجب! فإن تخدير العقول هو فن تمارسه الحكومات ووسائل الإعلام لمصادرة الوعي وفرض السردية الرسمية منذ عقود طويلة، وقلة قليلة من البشر هي من نجحت في الاستفاقة منه!
– فما هي الرواية الحقيقية حول برنامج «بيغاسوس»؟
لقد كشفت تحقيقات من جهات موثوقة مؤخراً أن البرنامج قد استُعمل لقرصنة ما يقارب من خمسين ألف هاتف وذلك حسب عشرين مؤسسة إعلامية كبرى فضلاً عن منظمتي «فوربيدن ستوريز» غير الحكومية ومنظمة العفو الدولية واللتين حصلتا على قائمة أرقام الهواتف المقرصنة والتي تعود لرؤساء دول وناشطين وحقوقيين وصحافيين ومحامين منذ عام 2016 وفي العديد من دول العالم وخصوصا في السعودية والإمارات والمغرب والبحرين.
ويبدو جلياً للمراقب أن شركة «أن أس أو» الإسرائيلية المالكة للبرنامج ليست سوى الواجهة للجهة الحقيقية المطورة للبرنامج وهي «الوحدة 8200»، إحدى أقوى أذرع الاستخبارات الإسرائيلية المختصة برصد كافة أنواع الاتصالات. ولقد تأسست الشركة برأسمال لم يتعدَ 2 مليون دولار وتقدر قيمتها اليوم بمليار دولار تقريباً.
– ما هي الحادثة الأولى التي لفتت الإنتباه إلى برنامج «بيغاسوس» الإسرائيلي؟
منذ سنوات تلقى الناشط الإماراتي في مجال الدفاع عن حقوق الانسان أحمد منصور (والذي نُكّل به وسجن بعد ذلك) تلقى رسالة نصية على هاتفه جاء فيها أن المرسل لديه أدلة على عمليات التعذيب السرية التي تجري في سجون الإمارات العربية. ولكن أحمد منصور توجس ريبة من الأمر ولم يفتح الرابط المرفق بالرسالة بل حوّلها إلى الخبراء في مختبر «سيتيزن لاب» في كندا الذين اكتشفوا أن الضغط على الرابط يحول الهاتف لأداة للتجسس على صاحبه عبر كاميرا الهاتف والمايكروفون، كما ويمكن للجهة المرسلة للرابط الوصول إلى كل ملفات الهاتف بما فيها الرسائل النصية والصور والبريد الإلكتروني. كما واكتشف الخبراء أن برنامج القرصنة المرسل لأحمد منصور هو من أكثر البرامج تطوراً وتعقيداً في العالم ولم يسبق أن شاهدوا مثيلاً له. ولدى متابعتهم للأمر تأكدوا من أن شركة «أن أس أو» الممولة من «وحدة النخبة 8200» في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية هي التي أنتجت هذا «السلاح المتطور».
والجدير بالذكر أن «الوحدة 8200» هي التي لعبت دوراً بارزاً في الهجوم الإلكتروني (الأميركي–الإسرائيلي) الذي تعرض له البرنامج النووي الإيراني قبل سنوات باستخدام فيروس Stuxnet.
وفي النسخ القديمة من «بيغاسوس» أي النسخ الصادرة بين عامي 2016 و2018 كان يتم إرسال رسالة نصية مع رابط ما أن يتم الضغط عليه حتى يتحول الهاتف إلى جهاز تجسس على حامله. أما بعد عام 2018 فقد طورت شركة «أن أس أو» من تقنيات البرنامج، بإصدار نسخة «بيغاسوس 3»، مما أتاح لها قرصنة أي هاتف بمجرد الإتصال به وحتى من غير أن يعمد حامله إلى الضغظ على أية رسالة وذلك من خلال تقنية «زيرو كليك» zero–click.
ولقد حققت الشركة أرباحاً طائلة خصوصاً من دول الخليج العربي التي تمارس انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان والتي تستخدم البرنامج للتجسس على المعارضين والصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان. ولقد صرحت «هآرتس» أنه وقبل أشهر قليلة من حملة الاعتقالات الواسعة التي طالت المئات من الأمراء ورجال الأعمال في السعودية، باعت الشركة الإسرائيلية برامج قرصنة الهواتف النقالة للمخابرات السعودية.
من جهتها أعلنت «نيويورك تايمز» أن هناك دعاوى رُفعت ضد الإمارات وأن من بين الوثائق التي تضمنتها الدعاوى المرفوعة رسائل بريد الكتروني أرسلها مسؤولون إماراتيون إلى الشركة الإسرائيلية يستفسرون فيها عن إمكانية «تسجيل مكالمات أمير قطر إضافة لأمير سعودي آخر متنفذ يقود الحرس الوطني السعودي فضلاً عن رئيس تحرير صحيفة عربية تصدر في لندن» (يُعتقد أنه ناشر صحيفة «القدس العربي» سابقاً، عبد الباري عطوان). كما تم الكشف عن أن أسماء 36 صحفياً من صحفيي قناة «الجزيرة» الذين تعرضت هواتفهم للاختراق بواسطة برنامج «بيغاسوس» من قبل دولة الإمارات العربية.
– من هي الجهة التي درست عن كثب عمل برنامج التجسس ووثقت النتائج؟
إن هذا المشروع كان ثمرة تعاون بين 80 صحافياً من مختلف وسائل الإعلام والبلدان وبتنسيق من مؤسسة «فوربيدين ستوريز» وبدعم فني من «منظمة العفو الدولية» التي جرت الدراسات داخل مختبراتها. وضمن هذا المشروع، تم إخضاع الهواتف المحمولة لاختبارات بأحدث أساليب الاستدلال العلمي والجنائي بغية اقتفاء أية آثار محتملة لبرمجيات التجسس. وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كالامار: «إن مشروع بيغاسوس يكشف للعيان كيف وجدت الحكومات المستبدة في برامج التجسس، السلاح المفضل في مسعاها لتكميم أفواه الصحفيين والاعتداء على النشطاء وسحق أية معارضة، الأمر الذي يهدد ما لا يُحصى من الأرواح». وسخّفت كالامار من ادعاء الشركة المطورة للبرنامج بأن برامجها تُستخدم فقط في التحقيقات المتعلقة بالجرائم والإرهاب قائلة: «تدعي الشركة أنها ملتزمة بالقوانين في الوقت الذي تستفيد فيه (مادياً) من الانتهاكات الواسعة النطاق لحقوق الإنسان».
وصرحت مصادر في منظمة العفو الدولية أنه وعلى مدى الأسبوع القادم سوف تنشر المؤسسات الإعلامية المشاركة في مشروع «بيغاسوس» مثل صحف «الغارديان» البريطانية و«لوموند» الفرنسية و«زوت دويتشه تسايتونغ» الألمانية و«واشنطن بوست» الأميركية، سوف تنشر سلسلة من القصص والتحقيقات الصحفية التي تكشف بالتفصيل كيف تم اختيار زعماء العالم وساسته ونشطاء حقوق الإنسان والصحفيين كأهداف لبرامج التجسس المذكورة.
خاشقجي كان هدفاً!
ولقد تبين خلال التحقيقات التي أجرتها الجهات المذكورة آنفا أن هناك أدلة على استهداف أفراد عائلة الصحفي السعودي جمال خاشقجي بواسطة برنامج «بيغاسوس» قبل وبعد مقتله في اسطنبول في تشرين الأول (أكتوبر) 2018 على أيدي عملاء سعوديين. فلقد أثبت المختبر الأمني–الجنائي لدى منظمة العفو الدولية أنه كان قد تم تثبيت برنامج «بيغاسوس» التجسسي بنجاح على هاتف خديجة جنكيز خطيبة خاشقجي وذلك بعد مقتله بأربعة أيام فقط! كما استُهدفت زوجة خاشقجي السابقة حنان العطار بهذا البرنامج التجسسي أكثر من مرة، خلال الفترة الممتدة بين أيلول (سبتمبر) 2017 ونيسان (أبريل) 2018. وكذلك تم التجسس على ابنه عبد الله الذي اختير هو الآخر ضمن المستهدفين من أفراد عائلة خاشقجي في السعودية والإمارات العربية المتحدة.
كما أظهر التحقيق اختيار صحفيين يعملون في وسائل إعلام عالمية كبرى، مثل «أسوشييتد برس» و«سي أن أن» و«نيويورك تايمز» و«رويترز» كأهداف محتملة للتجسس عليهم. وكان من أبرز هؤلاء المستهدفين من الصحفيين والصحفيات الصحفية رولا خلف، رئيسة تحرير صحيفة «فاينانشل تايمز».
وفضلاً عن استهداف مئات الصحافيين والحقوقيين والناشطين حول العالم، أظهرت الأدلة الجديدة التي أماط اللثام عنها مشروع منظمة العفو الدولية أن أرقام هواتف 14 من رؤساء الدول والحكومات من بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الباكستاني عمران خان ورئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، إضافة للمئات من المسؤولين الحكوميين، قد أُدرجت ضمن قائمة الأرقام التي يُعتبر أصحابها مثار اهتمام عملاء شركة برامج التجسس «أن أس أو» ومن خلفها المخابرات الإسرائيلية!
ماكرون يستنفر!
وفور انتشار الأنباء حول «بيغاسوس» دعا الرئيس الفرنسي صباح الخميس الماضي إلى عقد اجتماع استثنائي لمجلس الدفاع وذلك بعد نشر تقارير عن استخدام برنامج التجسس الإسرائيلي للتجسس على هاتف رئيس فرنسا نفسه وشخصيات أخرى. وذكرت تقارير بأن الرئيس الفرنسي استبدل هاتفه الشخصي بعد انتشار أخبار القرصنة مباشرة.
المغرب.. مشارك أم ضحية؟
وكانت تقارير مطلعة على التحقيقات الجارية قد نشرت أنه من المحتمل أن يكون ملك المغرب محمد السادس وعدد كبير من المقربين منه «على قائمة الأهداف المحتملة» لبرنامج «بيغاسوس» أيضاً. لكن في المقابل ذكرت معلومات أن السلطات المغربية كانت قد استخدمت برنامج التجسس «بيغاسوس» لتعقب هواتف صحافيين ونشطاء وسياسيين في المغرب وفي فرنسا مستهدفة قائمة تضم 30 شخصاً. وهذا ما نددت به الرباط واصفة هذه الأخبار بـ«الادعاءات الزائفة» مشيرة إلى استعدادها لتقديم أدلة «واقعية علمية مؤكدة» أنه «لم يسبق لها أن اقتنت برمجيات معلوماتية لاختراق أجهزة الاتصال». ولكن الأسوأ في التسريبات أن المغرب قد يكون هو وراء عملية مراقبة هواتف ماكرون ورئيس وزرائه وأعضاء في حكومته!
إلى ذلك قالت صحيفة «لوموند» الفرنسية إن الأجهزة الأمنية المغربية وضعت أكثر من 6 آلاف رقم هاتف جزائري، بينهم سياسيون وعسكريون ورؤساء أجهزة استخبارات ونشطاء سياسيون، في قائمة أهداف محتملة للاستهداف من خلال البرنامج بين عامي 2017 و2019. كما أن وحدة التحقيق في إذاعة فرنسا صرحت بأن المخابرات المغربية قد تكون هي وراء عمليات التجسس على الرئيس الفرنسي ووزرائه وعلى الملك المغربي نفسه!
تعتيم
منظمة «مراسلون بلا حدود» قالت في بيان إن «البرمجيات، مثل بيغاسوس التي طورتها شركات إسرائيلية، تشير بوضوح إلى تورط دولة إسرائيل، وحتى لو لم يكن للسلطات الإسرائيلية سوى دور غير مباشر فإنه لا يمكنها التهرّب من مسؤوليتها». وحمّل الموظف السابق في الاستخبارات الأميركية إدوارد سنودن شركة «أن أس أو» الإسرائيلية المسؤولية عن مقتل واعتقال معارضين وناشطين داعياً إلى مقاضاة الشركة الإسرائيلية، وفق وكالة «نوفوستي» الروسية.
إذن، العالم يواجه الآن ما قد يكون أخطر عملية تجسس وقرصنة جماعية في تاريخه من قبل الحكومة الإسرائيلية وعبر حكومات مارقة. واللافت في كل هذا هو التعتيم الإعلامي العربي على الفضيحة رغم خطورتها، بل آثرت معظم وسائل الإعلام العربية عدم الإشارة إلى الموضوع من قريب أو بعيد، كي لا يصاب أمير هنا أو ملك هناك بشظايا الفضيحة التي تطال في المقام الأول دولة الاحتلال.
إذ يبدو مما سُرب حتى الآن، أن إسرائيل نجحت بتوظيف أجهزة استخبارات عديدة للقيام بدور التجسس لصالحها نائية بنفسها عن القرصنة المباشرة بإلقاء اللوم على «العملاء» الذين اشتروا برنامج «بيغاسوس»! وقد سارعت إسرائيل أيضاً إلى التحرك داخلياً «للملمة» المسألة عبر اعتماد إجراءات «تجميلية» لحفظ ماء الوجه من خلال الحديث عن إعادة النظر في آليات التراخيص التي تمنحها وكالة مراقبة الصادرات الدفاعية.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply