كمال ذبيان – «صدى الوطن»
حصل ما كان متوقعاً، وهو اعتذار سعد الحريري عن تشكيل الحكومة، بعد نحو تسعة أشهر على تكليفه. فلا الضوء الأخضر السعودي أنار درب التأليف، ولا الدخان الأبيض تصاعد من قصر بعبدا، حيث يصرّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن تكون الحكومة الأخيرة في عهده، حكومة تعكس رؤيته السياسية، وهو ما لم يتحقق منذ انتخابه رئيساً في 31 تشرين الأول 2016، وفق «التسوية الرئاسية» التي عقدها مع الحريري قبل خمس سنوات.
إستقالة الحريري
التسوية الرئاسية التي أوصلت عون إلى قصر بعبدا، هي نفسها التي أعادت الحريري إلى رئاسة الحكومة بعد غياب استمر خمس سنوات ونصف، عقب خروجه من السراي الكبير مكرهاً مطلع عام 2011، وذلك لدى دخوله إلى البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، حين فاجأه فريق «8 آذار»، بالاستقالة من الحكومة التي كان لهم فيها الثلث المعطل، فتمّ إسقاط الحكومة بقرار من الرابية.
كانت تلك إهانة صريحة للحريري، أن يدخل لمقابلة الرئيس الأميركي كرئيس لحكومة لبنان قبل أن يخرج من البيت الأبيض رئيساً سابقاً.
وبعد خمس سنوات قضاها خارج لبنان، عضّ الحريري على جرحه، ودخل في تسوية مع عون، كما عمل على «ربط النزاع» مع «حزب الله» لتسهيل تشكيل حكومة برئاسة تمام سلام، ودخل في حوار مع الحزب لوقف التشنّج الداخلي، ومنع الانزلاق نحو فتنة سنّية–شيعية على وقع الصراع الدائر في سوريا، وقد لعب رئيس مجلس النواب نبيه برّي، في الدفع نحو الحوار الداخلي بين القوى السياسية، وذلك منذ مطلع آذار 2006.
قبل الحريري بإنهاء الفراغ الرئاسي بعد عامين ونصف العام من الشغور فوصل العماد عون إلى قصر بعبدا بعد غياب دام عقدين ونيف، لكن هذه المرة بدعم من «حزب الله» الذي أصر على اعتبار الجنرال المرشح الوحيد، مقدماً إياه على حليف المقاومة الثابت سليمان فرنجية الذي كان رشّحه الحريري بتأييد من الرئيس برّي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، لكن الوعد الذي قطعه السيد حسن نصرالله للعماد عون، بقي عليه، فصدق وعده، لكن «التسوية الرئاسية» التي قبلت بها السعودية على مضض، لم تساهم في تعزيز قوة الحريري ونفوذ الرياض في لبنان الذي أصبحت موازين القوى فيه تميل بشكل واضح إلى «حزب الله» وحلفائه، وهو ما دفع ثمنه الحريري بعد عام من توليه رئاسة الحكومة، بدعوته إلى الرياض في 4 تشرين الأول 2017 وإجباره على تقديم استقالته واحتجازه.
أنقذه الرئيس عون ومعه «حزب الله»، الحريري، حينها برفضهما قبول استقالة الحريري عن بعد، وهو ما أحرج الرياض دولياً بسبب احتجازها لرئيس حكومة دولة مستقلة فتدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كما الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لإخراج الحريري من براثن الرياض، التي غضت النظر عنه، لكنها لم تسامحه بعد الانتخابات النيابية عام 2018، والتي فاز بها «حزب الله» وحلفاؤه بتحقيق الأكثرية النيابية تحت قبة البرلمان، وهو ما أفرح إيران، وأجج الغضب السعودي بعد أن خذلها حلفاؤها رغم الدعم المالي الهائل الذي وفرته لهم، دون أن يتمكنوا من حماية نفوذها السياسي في بلاد الأرز.
والنفوذ السعودي في لبنان بدأ عملياً بالتراجع، منذ اتفاق الدوحة، وقد حاولت تعويضه بإعادة العلاقات مع دمشق (السين–السين)،، وهو ما دفع الحريري وحليفه جنبلاط إلى زيارة دمشق وفتح صفحة جديدة مع الرئيس بشار الاسد، في العام 2009. لكن العلاقات السعودية السورية لم تدم أكثر من عامين، قبل أن تنتكس مجدداً مع اندلاع الأحداث في سوريا، وانخراط السعودية ودول أخرى فيها، إضافة إلى الحريري وجنبلاط وغيرهما في جهود إسقاط النظام السوري والتي باءت بالفشل الذريع.
تخبّط
خلال ترؤس الحريري للحكومة في عهد الرئيس عون، جرى تبادل للمصالح بينه وبين رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، وقد سعى الحريري خلال تلك الفترة إلى إنقاذ الوضع المالي والاقتصادي، فذهب إلى مؤتمر «سيدر» مدعوماً من الرئيس الفرنسي ماكرون، حيث أُقرّت مساعدات للبنان عبر قروض ومشاريع بحوالي 12 مليار دولار، بشرط إجراء إصلاحات هيكلية.
تعثرت الجهود الإصلاحية التي لم توضع قط على السكة حتى فاجأ حراك الشارع حكومة الحريري على خلفية فرض رسم مالي بقيمة ست دولارات شهرياً على استخدام تطبيق «واتسآب»، فاشتعل الشارع غضباً في 17 تشرين الأول 2019، ليسارع الحريري إلى الاستقالة بعد نحو أسبوع واحد.
الحريري المتخبط بوجه الشارع فاجأ حينها، رئيس الجمهورية بتقديم استقالته واضعاً عون في موقف محرج، وكذلك الرئيس برّي، الذي أصرّ عليه أن يعود عنها، لكن زعيم «تيار المستقبل» المغضوب عليه سعودياً تهيّب الموقف مع اتساع الاحتجاجات والغضب الشعبي فقرر التنحي.
عون يرفض الحريري
بعد استقالة الحريري الثانية في عهد عون، واعتذاره عن تشكيل الحكومة، اتخذ رئيس الجمهورية موقفاً رافضاً لعودة الحريري إلى رئاسة الحكومة.
وبعد أن أفشل زعيم «المستقبل» تكليف مصطفى أديب بتشكيل الحكومة، عقب استقالة حسان دياب من رئاسة الحكومة، تقدّم الحريري بتسمية نفسه لتولي رئاسة الحكومة، وذلك قبل دعوة رئيس الجمهورية إلى الاستشارات النيابية الملزمة، والذي ردّ عليه خطوة الحريري برسالة وجّهها إلى النواب، مطالباً إياهم بحسن الاختيار، وألا يعيدوا الحريري إلى السراي الكبير، غير أن الرئيس برّي وجنبلاط تمكنا من حشد أكثرية نيابية سمّت الحريري لرئاسة الحكومة رغماً عن إرادة عون وصهره باسيل، اللذين قرّرا تعطيل تأليف أية حكومة لا يكونا راضيين عنها، رافضين ترك تسمية الوزراء المسيحيين للحريري الذي أصرّ على حكومة تحاكي «المبادرة الفرنسية» التي تقدم بها الرئيس ماكرون، بأن تكون «غير سياسية ومن اختصاصيين».
الرئيس الفرنسي كان قد طالب القوى السياسية تسهيل ولادة «حكومة إنقاذ»، لكن النموذج الذي اقترحه ماكرون، تطلب شخصية من خارج الطبقة السياسية وقريبة من المجتمع المدني لرئاسة الحكومة. ومن هذا المنطلق تم اقتراح اسم السفير اللبناني في ألمانيا مصطفى أديب، الذي لم يتمكّن من تشكيل حكومة، فاستقال. وبعده، طُرحت أسماء بديلة، كسمير الخطيب ومحمد الصفدي وغيرهما، لكن لم يحصل توافق على البديل، إلى أن قدّم الحريري نفسه لتولي المهمة، لكنه لم ينجح في التفاهم مع الرئيس عون على صيغة حكومية، فاتّهم الرئيس المكلّف، رئيس الجمهورية، بوضع العراقيل لدفعه إلى الاعتذار، فيما كان برّي يؤازر الحريري وينصحه بعدم الإذعان لرغبات عون وباسيل الذي رفع شعار «أنا والحريري في الحكومة، أو كلانا خارجها».
وبالفعل، نجح باسيل في تطبيق شعاره، بالاتفاق مع رئيس الجمهورية، الذي وجّه كلاماً قاسياً للحريري بوصفه بـ«الكذاب»، لإحراجه وإخراجه، لكن الأخير واجهه وطالبه بالاستقالة، فاشتكاه عون برسالة إلى مجلس النواب، داعياً مَن سمّوا الحريري، أن يسحبوا التكليف، لكن برّي أحبط محاولة عون دستورياً، فسمح بتلاوتها فقط، لتبدأ معركة ليّ أذرع بين القصر الجمهوري وبيت الوسط، فخسر الحريري، لكن عون لم يربح.
البديل
اعتذار الحريري لم يفاجئ اللبنانيين ولا الدول المعنية بالملف اللبناني، وذلك بعد أن مهّد في الأسابيع الأخيرة مع تساقط مبادرات الحل الخارجية والداخلية كمبادرة الرئيس برّي والبطريرك بشارة الراعي، اللذين حاولا تقريب وجهات النظر دون طائل. كما واجه الموفدون الدوليون، صعوبات في تقريب وجهات النظر بين أركان الحكم في لبنان من أجل التوصل إلى حل ينقذ البلاد من الانهيار الوشيك.
بعد الاعتذار المتوقع، بدأ البحث عن البديل، الذي ليس من السهل العثور عليه، لاسيما مع إعلان الحريري، بأنه لن يتدخل في تسمية خلفه، وأنّ كتلته النيابية التي تمثّل الأكثرية السنّية، لن تسهل عملية تأليف الحكومة، التي تحتاج إلى الغطاء السنّي، من المرجعية السياسية «تيار المستقبل»، ومعه «نادي رؤساء الحكومة السابقين»، كما من المرجعية الدينية في «دار الفتوى» والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى.
إذ لا يمكن لشخصية سنية أن تخلف الحريري دون موافقة طائفته، وهو الأسلوب الذي اعتمده الرئيس عون، وتياره «الوطني الحر» للوصول إلى سدة الرئاسة استناداً إلى التمثيل الطائفي.
ففي التركيبة اللبنانية لا يمكن إغفال الطوائف لأن ذلك قد يفقد الحكومة ميثاقيتها.
وبهذا يواجه لبنان اليوم، أزمة التكليف قبل التأليف، إي أنه عاد عملياً إلى «المربع صفر»، إذ ليس من السهل أن يتمّ التوافق على مرشح لرئاسة الحكومة، أولاً داخل الطائفة السّنّية، ثم لدى الكتل النيابية، التي عليها أن تتوافق على اسم شخصية لرئاسة الحكومة، وكذلك بالنسبة للقوى الدولية المتصارعة في لبنان.
حالياً، يجري التداول بأسماء محدودة أبرزها، الرئيس السابق نجيب ميقاتي الذي كانت له تجربتان في السراي، والنائب فيصل كرامي الذي قدم نفسه كمرشح قبل اعتذار الحريري، طارحاً نفسه بديلاً وسطياً، وقد زار مرجعيات عدة، منها السفير السعودي وليد البخاري، الذي أبلغه انكفاء بلاده عن الشأن السياسي اللبناني، وهي التي لم تستقبل الحريري، في إشارة إلى عدم رضا الرياض عن تكليفه، فاعتذر.
كذلك يجري تداول أسماء من خارج الطبقة السياسية، مثل السفير نواف سلام ورجل الأعمال جواد عدرا.
في غضون أسبوع من الآن، على القوى السياسية، أن تعلن موقفها، من شكل الحكومة الجديدة ومهامها ومَن سيكلّف برئاستها، وقد وجه رئيس الجمهورية الدعوة إلى الاستشارات، التي ستسبقها مشاورات مكوكية حول الاسم البديل الذي لن يكون اختياره سهلاً في ظل تعقيدات موازييك السياسة اللبنانية والرؤية الدولية لمواصفات الحكومة التي يجب أن تتحرك سريعاً لإنقاذ لبنان من الانهيار إلى جانب الإشراف على الانتخابات النيابية المرتقبة العام القادم.
Leave a Reply