كمال ذبيان – «صدى الوطن»
مثلت خلدة، نقطة تقاطع جغرافية، وموقعاً استراتيجياً يربط بين بيروت والجنوب، وتتفرّع عنه طرقات إلى الشوف وعاليه في الجبل، وعنده وقف جيش الاحتلال الاسرائيلي عاجزاً أثناء اجتياحه للبنان في حزيران 1982، حيث تتمكن قواته وآلياته من التقدّم باتّجاه بيروت، بسبب المقاومة الشرسة التي واجهته من مقاتلي حركة «أمل» والأحزاب الوطنية الذين سجلوا بطولات تاريخية أجبرت العدو الإسرائيلي حينها على تغيير مساره إلى العاصمة اللبنانية.
غير أن خلدة المرتبطة في وجدان اللبنانيين بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، حوّلها البعض في السنوات الأخيرة إلى بؤرة للفتنة، عبر قطع الطرقات بوجه حركة المرور على الطريق الساحلي الذي يربط بيروت بالجنوب، ليس تحت عناوين اجتماعية ومعيشية بل بهدف التضييق المذهبي وافتعال فتن سنّيّة–شيعية أو شيعية–درزية أو حتى درزية–درزية وصولاً إلى ابتزاز المقاومة التي تعتبر الطريق الساحلي شرياناً حيوياً لها.
خلفية أحداث خلدة
ما تشهده خلدة منذ أكثر من عام يبوح بمخطط مفتعل لإقفال طريق الجنوب، عبر تحويل المنطقة إلى بؤرة توتر أمني. ففي 27 آب (أغسطس) 2020، وقع إشكال بالتزامن مع صدور حكم المحكمة الدولية في قضية اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، والذي حمل أحد عناصر «حزب الله»، سليم العياش، مسؤولية الاغتيال.
فوقع الإشكال المسلح بعد أن رُفعت صورة لعياش على «سنتر شبلي»، في خلدة التي تسكنها عشائر عربية معروفة باسم «عرب خلدة» منذ عشرات السنوات. وهؤلاء تبدّلت ولاءاتهم السياسية والحزبية، وفق النفوذ السياسي والحزبي الأقوى، فأيّدوا الأمير مجيد إرسلان، الذي له دارة في خلدة، وعندما وقعت الحرب الأهلية، انتظم بعضهم مع الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة كمال جنبلاط، الذي كان لحزبه محازبون من «عرب خلدة»، وكذلك قوى ناصرية، إلى أن ظهر الرئيس رفيق الحريري سياسياً، فوقفوا معه، وأيّدوه بعد تجنيس الآلاف منهم، إذ يقدّر عددهم في هذه المنطقة بحوالي 30 ألف مواطن، وبات لهم تأثير أساسي في الانتخابات النيابية، لصالح «تيار المستقبل» الذي تمكن من استقطابهم كجزء من «العشائر العربية» بحسب توصيف اللواء غازي كنعان، عندما كان رئيساً لجهاز الأمن والاستخبارات السورية في لبنان، وكان يحرّكهم وفق مشيئته.
كما اشتهر «عرب الفاعور» المجنسون، بأنهم كانوا ورقة انتخابية، بيد وزير الداخلية الأسبق المرحوم ميشال المر، وهذا ما أعطى هذه العائلات من أصول متعددة، دوراً فاعلاً في خلدة التي شهدت في الآونة الأخيرة صدامات متكررة تكشف عن دور لأفراد ناشطين في هذه المنطقة يتحركون ضد المقاومة التي أسّست لها سرايا داعمة لها من أبناء المنطقة، لأن فيهم وطنيين وعروبيين، يناصبون العداء للعدو الإسرائيلي، ويناصرون القضية الفلسطينية، إلا أن بعض الأفراد، أو مَن يدعون بأنهم رؤساء عشائر أو مشايخ في عائلات ينطقون باسمها، أقاموا ارتباطات مع قوى لبنانية معادية للمقاومة، إضافة إلى بعض الدول العربية، لاسيما الخليجية منها، التي احتضنت بعض الجماعات لتقوية خطها السياسي في لبنان، المناهض لـ«حزب الله» ومن خلفه إيران.
تداعيات الحادثة
في صيف العام الماضي، أدّى خلاف نشب إثر محاولة نزع صورة عياش وشعارات عاشورائية بالتزامن مع ذكرى عاشوراء فحصل صدام دام بدأ بإطلاق النار على «سنتر شبلي»، من قبل مسلحين يتبعون إلى الشيخ عمر غصن، الذي اشتهر بقطع الطرقات مع مجموعة تابعة له، فتمّ إحراق المركز التجاري، وقتل الطفل حسن غصن، قبل أن يتدخل الجيش للفصل بين المتقاتلين وإعادة الهدوء إلى خلدة بعد اتصالات سياسية طوّقت الحادث حينها.
إلا أن تداعيات الصدام لم تنتنه، بعد أن اتهم ذوو غصن، أحد رجال المقاومة، علي شبلي، بقتل ابنهم، ففرضوا عليه وعلى آل شبلي عدم التواجد في المنطقة ومنعوا من زيارتها، إلا بعد تسليم القاتل نفسه.
ورغم أن القضاء وضع يده على الحادثة، إلا أن محرّكي الفتنة، استمرّوا في التحريض، رافضين أن تمرّ الذكرى السنوية لقتل غصن، دون أخذ الثأر الذي حصل خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، إثر عملية رصد لعلي شبلي، انتهت بالعثور عليه في حفل زفاف ببلدة الجية.
وعلى الطريقة العشائرية، نفّذ شقيق القتيل جريمته بقتل شبلي أمام مرأى الحضور وعدسات الكاميرا، مما أعاد أحداث خلدة ذات الخلفية المذهبية إلى الواجهة من جديد، فسقطت الهدنة التي لم تتمكّن القوى السياسية المعنية من تحويلها إلى مصالحة، وفق التقاليد العشائرية التي تحصل عادة.
الكمين–الفتنة
شكّل مقتل شبلي، قلقاً لدى «حزب الله» الذي نعاه كشهيد مجاهد، قاتل في الجنوب، العدو الإسرائيلي أثناء عدوان صيف 2006، ثمّ ضد المجموعات الإرهابية في سوريا، لاسيما القلمون، وقرّر أن لا يكون مقتله حادثاً عابراً وعملية ثأرية فقط، بل نظر إلى الجريمة بأبعادها السياسية، وما يُخطط للمقاومة على الطريق الساحلي إلى الجنوب.
وكان «حزب الله» قد طالب مراراً الدولة بأجهزتها الأمنية، لاسيما الجيش، بمنع إقفال الطريق الحيوي بعد مقتل عدد من المواطنين في حوادث متفرقة، وقد جرت اتصالات سياسية مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الذي أبدى كل تجاوب مع إبقاء الطريق مفتوحاً، نافياً أية مسؤولية لحزبه عن قطعه. إلا أن «تيار المستقبل» لم يلتزم، فواصل أنصاره قطعها في كل مرة تتطلب «الأجندة السياسية» فيها ذلك.
وباتت معروفة للجميع، المناطق التي يعمل على قطعها أنصار «المستقبل»، أو مناصرو بهاء الحريري، المنشق عن شقيقه، أو جماعات إسلامية أخرى، إذ تشير المعلومات أن عناصر سورية من مجموعات متطرفة انتقلت إلى خلدة، وتواصلت مع الشيخ عمر غصن الذي لم يتردد في استقبالها رغم التحذيرات من خطر وجودها في المنطقة.
وفي إطار المسلسل نفسه، جرى استغلال مقتل شبلي وطلب عائلته بأن يمرّ على منزله في خلدة قبل مواراته الثرى، وهو الذي مُنع من العودة إليه منذ عام تقريباً. فكمن الشيخ غصن ومجموعات مسلحة، لموكب التشييع الذي ضمّ مرافقين مسلحين، وأمطروه بالرصاص، فشكّل ذلك إرباكاً للمشيعين الذين سقط منهم ثلاث ضحايا، وحوصر أهل شبلي في منزلهم، إلى أن تدخل الجيش وأخرجهم.
ورغم حزمة في منع الظهور المسلّح، أخذ على الجيش تأخره في أخذ الاحتياطات اللازمة قبل وصول النعش، وهو ما دفع «حزب الله» إلى تحميل الجيش والقوى الأمنية، مسؤولية عدم إتّخاذ الإجراءات المناسبة لتفادي وقوع الهجوم المسلح، الذي وصفه الحزب بالكمين–الفتنة، مؤكداً أن الرد عليه سيكون مناسباً وفي توقيت محدد، إذا لم تقم الأجهزة الأمنية بدورها في إلقاء القبض على مطلقي النار، الذين وصفهم الحزب بالإرهابيين، وبمجموعة خارجة عن الأصول والتقاليد العشائرية.
تحركت مخابرات الجيش سريعاً، بما لديها من معلومات، وتوجّهت إلى الشيخ غصن طالبة منه تسليم نفسه كمتّهم، فامتثل، بعد أن رُفع الغطاء السياسي والديني عنه. إذ وافقت دار الفتوى على تسليم غصن نفسه للمخابرات، وأعلن «الحزب الاشتراكي» عدم انتمائه له، وكذلك «تيار المستقبل»، حتى بات الشيخ وحيداً أمام القضاء، فأُوقف مع نجله وخمسة آخرين من الجنسية السورية.
وقد جرى التوقف عند مشاركة مسلحين سوريين في كمين التشييع، وهو ما رأى فيه البعض غاية واحدة، وهي جر المقاومة إلى مستنقع الاقتتال الداخلي، وافتعال معارك سنّية–شيعية، لاسيما بعد أن ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي، مدى التعبئة المذهبية واستخدام الرموز الدينية في معارك داخلية ومن كل الأطراف.
قطوع أمني سياسي
ما مرّت به خلدة، هو قطوع أمني–سياسي، لأن «حزب الله» كان يتحضّر للرد على طريقة 7 أيار 2008، لكنه أوقف العملية بعد توقيف الجيش للشيخ غصن، فبردت الأجواء الحامية أمنياً، وبردتها العلاقات السياسية الإيجابية، بين «الثنائي الشيعي» و«تيار المستقبل»، وعدم وجود تشنّج بين الطرفين، لاسيما بعد أن وقف الرئيس نبيه برّي إلى جانب الحريري في معركة رئاسة الحكومة، ولم يكن يرغب باعتذاره، إضافة إلى أن «حزب الله» أيّد نجيب ميقاتي لرئاسة الحكومة المسمى من طائفته، فساهم ذلك في وأد الفتنة، التي يجري تحريكها من وقت إلى آخر، رغم أن القرار الدولي حالياً يقتضي عدم زعزعة الاستقرار في لبنان، على الأقل لإجراء الانتخابات النيابية المرتقبة في العام المقبل وسط انهيار اقتصادي واجتماعي وصل إلى لقمة عيش المواطن الذي بات مهدداً بأمنه الغذائي.
إن حادثة خلدة الفتنوية، كانت لقطع طريق المقاومة إلى الجنوب، على عكس ما كان عليه المشهد قبل أربعين عاماً، حين منع صمود المقاومة عبور العدو الإسرائيلي إلى بيروت. وإذا كان الزمان قد تغير فإن المكان هو نفسه واللاعبين كذلك وإن تغيرت المسميات.
Leave a Reply