كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من لبنان، في 25 أيار 2000، طرح رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي»، وليد جنبلاط، سؤالاً في أيلول من ذلك العام، «هل لبنان هانوي أم هونغ كونغ؟»، ربطاً بموضوع سلاح المقاومة، وما إذا كانت ستستمر وتبقى، أم تعلن وقف أعمالها، ويتحوّل لبنان من حالة هانوي التي كانت عاصمة الحرب في فييتنام، إلى حالة هونغ كونغ المزدهرة في التجارة العالمية.
سؤال جنبلاط قبل 21 عاماً، لم يكن بريئاً، بل كان له هدف صريح يتعلّق بإعلان وقف الحرب مع دولة الاحتلال الإسرائيلي والعودة إلى اتفاق الهدنة المعقود في العام 1949، بين لبنان والكيان الصهيوني برعاية الأمم المتحدة، التي التزمت تطبيق هذا الإتفاق.
لكن الجواب على سؤال جنبلاط حينها، أتى من المقاومة نفسها، التي أعلنت أن أجزاء من لبنان مازالت محتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من بلدة الغجر، ولا بدّ من استعادتها بالمقاومة. وقف الكلام هنا، ومنذ ذلك الحين لم تتوقف الحملات على المقاومة وسلاحها، ودورها الإقليمي.
المقاومة مستمرة
منذ اندحار الجيش الإسرائيلي من الجنوب، لم تلقِ المقاومة سلاحها، كما أراد لها البعض بداعي إراحة لبنان من عبء الحرب المستمرة مع العدو الإسرائيلي منذ العام 1968، عندما تمركزت فصائل فلسطينية في منطقة العرقوب، عند الحدود الجنوبية مع الكيان الغاصب في قضائي حاصبيا ومرجعيون، وعند تخوم جبل الشيخ الذي احتلته إسرائيل في حرب العام 1967.
لم ترضخ المقاومة، لمن طالبها بنزع سلاحها، كجنبلاط والبطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير، الذي أسّس «لقاء قرنة شهوان» متبنياً الدعوة لانسحاب القوات السورية من لبنان، بعد الإنسحاب الإسرائيلي، وأن يكون قرار الحرب والسلم للدولة اللبنانية حصراً، ولا سلاح إلا مع الجيش اللبناني.
ومنذ ذلك الحين، انقسم اللبنانيون حول هذه المسألة الاستراتيجية، إذ أكّدت المقاومة وحلفاؤها على ضرورة مواصلة حمل السلاح بوجه العدو الذي مازال يحتل أراضي لبنانية، واستمرار حالة عدم الاطمئنان تجاه الأطماع الصهيونية في لبنان، والأخطار المحدقة التي يشكّلها عليه.
فالتيار المقاوم في لبنان لا يريد العودة إلى مرحلة ما قبل التحرير، عندما كان لبنان مستباحاً أمام إسرائيل التي دمرت مطار بيروت بطائراته المدنية في نهاية العام 1968، واغتالت ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية (هم: كمال ناصر وكمال عدوان وأبو يوسف النجار) في منطقة فردان بقلب العاصمة بيروت في منتصف نيسان 1973، ناهيك عن القصف اليومي على قرى ومدن الجنوب، وتهجير أهاليها، ثم اجتياح جنوب لبنان في العام 1978 ثم اجتياح الجبل والعاصمة بيروت عام 1982، حيث تصدت الأحزاب الوطنية والفصائل الفلسطينية لقوات الاحتلال موقعة خسائر فادحة فيها نسبة إلى الإمكانات المحدودة التي كانت متاحة حينها… وصولاً إلى عمليات العدوان المتكررة التي شنتها إسرائيل على لبنان بعد انتهاء حربه الأهلية…
كل ذلك، رسّخ لدى «حزب الله» قناعة واضحة، بأن إسرائيل لا يؤتمن جانبها، وقد تعاود الاعتداء على لبنان أو يخضعه لنفوذها عبر أطراف سياسية وحزبية داخلية تحالفت مع قوات الاحتلال وسارعت بعد خروجها مهزومة مع عملائها من لبنان، إلى المطالبة بتسليم سلاح المقاومة.
لكن رد التيار المقاوم في لبنان كان واضحاً وصلباً بأن السلاح باق كقوة ردع أمام أي خرق للسيادة اللبنانية، وفق معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» التي أرساها قائد الجيش ورئيس الجمهورية السابق إميل لحود بدعم من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وأعطت «لبنان الضعيف»، قوة لم تكن في حسبان الإسرائيليين، لينشب إثر ذلك خلاف في وجهات النظر الإقليمية والدولية حول دور ومهمة الجيش ومستوى تسليحه، وقد منعت أميركا أن يحصل على سلاح دفاعي قادر على مجابهة آلة القتل الإسرائيلية، سواء منها أو من دول أخرى عرضت على الجيش تزويده بالطائرات وبصواريخ مضادة للطائرات، وغير ذلك.
قوة ردع
تمسّك المقاومة بسلاحها وجهوزيتها لمواجهة أي عدوان إسرائيلي محتمل، كان قراراً استراتيجياً مخيباً للدولة العبرية بعد انسحابها المفاجئ والمذل مع عملائها من لبنان، ومنذ ذلك الحين لم يتخل قادة إسرائيل عن فكرة الثأر من المقاومة وتحجيمها.
من هذا المنطلق، تمّ تحريك قوى في الداخل اللبناني تنادي بنزع سلاح المقاومة بعد العام 2000، ولما لم يتمكّنوا من ذلك، تم اللجوء إلى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، يستهدف الوجود السوري في لبنان، الذي شكّل مظلة وحبل السرة للمقاومة، فتعالت المطالبة بانسحاب القوات السورية، ونزع سلاح الميليشيات بناءً على القرار 1559، الذي تضمن بنداً يحظر تعديل الدستور لصالح التمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود، فبدأ الصراع اللبناني الداخلي حول المقاومة لاسيما بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وبث التفرقة المذهبية.
ومنذ ذلك الحين، انقسم اللبنانيون بين طرف يريد بقاء المقاومة وسلاحها كقوة ردع، وآخر يريد نزع السلاح والعودة إلى الهدنة والتظلل بالقرارات الدولية. ولكل من الطرفين تحالفات وارتباطات خارجية، إذ ساندت سوريا وإيران، المقاومة، ووقفت أميركا ودول عربية، لاسيما السعودية مع الفريق الذي يدعو إلى تسليم سلاح المقاومة.
حرب تموز
وفي ظل صدور القرار 1559، واغتيال الحريري بعد نحو ستة أشهر على صدوره في 2 أيلول 2004، وقعت الفتنة الداخلية، وهذا كان الهدف من القرار الأممي الذي تبنته أميركا وفرنسا، فحصل الإنسحاب السوري في غضون أسابيع من جريمة الاغتيال، لكن الطرف اللبناني المؤيّد للقرار، لم يتمكن من تنفيذ البند المتعلق بسلاح المقاومة، فقرّرت إسرائيل أن تتولى المهمة بنفسها، وبغطاء أميركي، فكانت حرب تموز 2006، التي فاجأت المقاومة فيها الجميع بصمودها وقدرتها على إمطار الكيان الصهيوني بالصواريخ على مدى 33 يوماً مؤكدة بذلك صوابية نظرية الردع.
حينها، اعترف جنبلاط الذي كان يمثّل فريق «14 آذار»، بالهزيمة أمام المقاومة التي ربحت الحرب وأرست معادلة داخلية لصالحها، لاسيما بعد أحداث 7 أيار 2008 التي ردت فيها المقاومة على محاولة حكومة «14 آذار» لنزع سلاح الاتصالات التابع لـ«حزب الله» والذي شكل العمود الفقري لانتصار تموز.
وقد أقر رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» بنفسه، بأنه هو مَن أصرّ على المس بـ«سلاح الإشارة»، لأنه وفقاً لوثائق «ويكيليكس»، سار في المشروع الأميركي، عبر صديقه السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان، فراح المخطط يتهاوى أمام صمود المقاومة ومحورها، كما سقطت محاولات جرّها إلى الاقتتال الداخلي، لاسيما المذهبي.
قواعد الاشتباك
الضغوط الداخلية على المقاومة استعادت زخمها مع بداية ما سمي بـ«الربيع العربي»، لاسيما بعد دخول «حزب الله» على خط الحرب السورية بمواجهة الجماعات المسلحة المدعومة غربياً وخليجياً، ومنعت تمركزها داخل لبنان في عرسال، وقاتلتها عند الحدود مع سوريا وفي داخلها، مسجلة انتصارات كاسحة عليها توازي الانتصارات على إسرائيل في 2000 و2006.
ورغم تزايد الحملات الداخلية على المقاومة واحتدام الحرب السورية، نجح «حزب الله» في إرساء قواعد اشتباك جديدة مع دولة الاحتلال، تقوم على مقابلة أي قصف إسرائيلي للبنان بقصف مماثل ضد الكيان الصهيوني، وهو ما نفّذته المقاومة في العام 2014، وفي العام 2019، حيث كانت تردّ على كل اعتداء يستهدف لبنان، أو المقاومة، وهي لم ترد بعد، على استشهاد عنصرين منها وهما علي محسن ومحمد طحان، اللذين قتلا في غارة إسرائيلية استهدفتهما.
وما الردّ الصاروخي المحدود الذي لجأت إليه المقاومة، الأسبوع الماضي، إلا استمرار لقواعد الاشتباك القائمة بعد قصف إسرائيل لوادي المحمودية الذي يربط مرجعيون بالنبطية وإقليم التفاح، وهو مكان مفتوح وغير مأهول. وتحت شعار العين بالعين والسن بالسن، لم يطل الوقت أكثر من 48 ساعة لتردّ المقاومة بقصف مماثل لمناطق مفتوحة وغير مأهولة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وهي مناطق لبنانية محتلة.
حادثة شويّا
هنا، لا بد من التوقف لدى ما حصل بعد عملية الرد الأخيرة التي تمت من أحراج محيطة ببلدة شويا (قضاء حاصبيا)، لكونها الأقرب إلى المواقع المستهدفة، حيث قامت مجموعة من ثمانية مقاومين بإطلاق 20 صاروخ «كاتيوشا»، قبل أن يعترض طريق عودتهم شبان من بلدة شويّا، اعتدوا على الموكب رغم معرفتهم المسبقة بأنهم عناصر من المقاومة.
إذ شكّلت هذه الحادثة، ثغرة كبيرة، كشفت بأن المنطقة التي مرّ بها المقاومون، لم تكن صديقة، بل تضم عملاء حاليين وسابقين يخدمون مصالح العدو الإسرائيلي، وهذا ما ترك تساؤلاً عند «حزب الله» حول دور حلفائه، الذين إما فوجئوا أو ساهموا في حصول ما وقع.
ومع وجود تعبئة سياسية وشعبية متزايدة تحرّض على «حزب الله» وتحمّله مسؤولية الانهيار الاقتصادي في لبنان، تركت هذه الحادثة أثراً سلبياً، لاسيما بعد أن ظهرت إلى العلن مواقف سياسية تعلن تأييدها لما أقدم عليه بعض أهالي شويّا، ومنهم رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وذلك رغم مساعي وجهاء البلدة للتبرؤ مما حصل، واستعجال مشايخ البياضة من الطائفة الدرزية إلى التبرؤ من الاعتداء على المقاومين، والتأكيد على مناصبة العداء لإسرائيل.
وتزامنت حادثة شويّا التي استفزت أنصار المقاومة بعد مرور أيام قليلة على حادثة خلدة التي لم تكن أقل استفزازاً بمقتل ثلاثة عناصر من «حزب الله» على خلفية مذهبية. وقد فسّر بعض السياسيين الحادثين بأنهما تأتيان في سياق تضييق الخناق على المقاومة داخلياً وتفتيت حاضنتها الشعبية، عبر خلق مناخ معادٍ لـ«حزب الله»، تحت شعار: اتركونا نعيش.
وفي الإطار ذاته، جدد البطريرك الماروني بشارة الراعي، السؤال المتكرر، حول قرار الحرب والسلم والسلاح «غير الشرعي»، ليؤجج بذلك انقسام اللبنانيين مجدداً بين مؤيّد للمقاومة ورافض لها، في مشهد يعيد الإصطفافات الداخلية التي سادت قبل العام 2005 وبعده.
حينها، قاد البطريرك الماروني السابق، صفير، تحرّكاً ضد الوجود السوري وسلاح المقاومة، وها هو البطريرك الراعي يكمل ما بدأه سلفه، ليلاقيه جنبلاط وكذلك سعد الحريري وجعجع وقوى سياسية وحزبية أخرى كانت من صميم مشروع «14 آذار».
وإذا كان اللبنانيون قد طووا صفحة الانقسام الداخلي تحت مسمى «8» أو «14 آذار» فإن الانقسام حول سلاح المقاومة مستمر وقد تظهر له قريباً مسميات أخرى، وربما أبعاد أخرى قد تطال قواعد الاشتباك القائمة عبر الحدود بين «حزب الله» والعدو الاسرائيلي، عبر خلق اشتباك داخلي، بطابع طائفي ومذهبي، يؤسس لصراع أهلي يسحب البساط من تحت أرجل المقاومين، تماماً كما فعلت إسرائيل في سبعينيات القرن الماضي للتخلص من السلاح الفلسطيني عبر إشعال الحرب الأهلية وصولاً إلى اجتياح بيروت وطرد «منظمة التحرير» منها.
Leave a Reply