كمال ذبيان – «صدى الوطن»
بعد أيام قليلة من الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت الكارثي، استيقظ اللبنانيون على انفجار مأساوي آخر في بلدة التليل العكارية حيث أدى اشتعال خزان محروقات معدة للتهريب، إلى مقتل 31 شخصاً وإصابة 80 آخرين.
وإذ كانت لكل من الانفجارين ظروفه وأسبابه التي يتعين تحديدها في إطار التحقيق الأمني والقضائي، غير أن المشترك بينهما هو الفساد والتقصير إلى حد الإهمال في بلد تنعدم فيه المساءلة والمحاسبة، ويسوده نظام سياسي فاشل وقضاء مسيّس.
أزمة المحروقات
ما جرى في إحدى بلدات عكار يوم الأحد الماضي، جاء على خلفية أزمة شح المحروقات التي تفاقمت سريعاً عقب قرار «مصرف لبنان» برفع الدعم عنها، وعن غيرها من المواد الغذائية والطبية، تحت عنوان حماية «الاحتياط الإلزامي» لدى البنك المركزي (16 مليار دولار)، وحماية أموال المودعين المحجوبة عنهم أصلاً.
قرار الحاكم رياض سلامة، قُرئ في قصر بعبدا على أنه افتعال لأزمة خطيرة تستهدف عهد الرئيس ميشال عون، الذي يرى في حاكم المصرف المركزي أحد أبرز أدوات عرقلة الإصلاح ومنع التدقيق الجنائي المالي.
وبالفعل، أدخل قرار رفع الدعم، البلاد في أزمة خطيرة، متسبباً بفقدان المازوت والبنزين من محطات الوقود، وانقطاع الكهرباء على نطاق غير مسبوق، ما تسبب بشلّ القطاعات كلّها، بما في ذلك الأفران التي تعطل إنتاجها ليرتفع سعر ربطة الخبز في السوق السوداء إلى نحو عشرين ألف ليرة، مثلها مثل مواد أساسية أخرى أصبحت بعيدة عن منال معظم المواطنين.
كما أجج قرار رفع الدعم أعمال التهريب والتخزين غير الشرعي للمواد النفطية التي غالباً ما تجد طريقها إلى سوريا المأزومة أيضاً بشحّ المحروقات، وذلك عبر معابر حدودية غير شرعية في الشمال والبقاع من خلال مهربين تعرفهم الأجهزة الأمنية والقضائية المكلفة في منع التهريب وضبط الحدود، إلا أن أفراداً من تلك الأجهزة –ومن رتب متعددة– هم شركاء في عمليات التهريب لقاء رشاوى مالية. كما يسكت القضاء عن هؤلاء المهربين، وكذلك الأحزاب النافذة في المناطق التي تحصل فيها عمليات التهريب، وفيها أُنشئت خزانات للمحروقات، ومنها في بلدة التليل، التي وقعت فيها المجزرة الأخيرة بسبب تدافع المواطنين لتعبئة البنزين.
كما صدر بيان عن «كهرباء لبنان» يعلن أن عدداً من محطات التحويل تتعرض لاعتداءات يومية، حيث يقوم مواطنون بالدخول إليها والاعتداء على المناوبين والعاملين فيها وإرغامهم على إعادة التيار الكهربائي عنوة إلى مناطق محددة. وبالفعل، كانت النتيجة تنعّم مناطق معينة بالتغذية لساعات طويلة، ما أدى تلقائياً إلى حرمان مناطق أخرى من الحصص المحددة لها.
في مشهد يعكس الفوضى العارمة في ظل عجز الدولة وتزايد المظاهر المسلّحة وزيادة الحوادث الأمنية الناتجة عن السعي إلى تناتش الموارد القليلة المتبقية في بلد آيل إلى الانهيار.
وفي محاولة لاستعادة بعض هيبة الدولة، باشر الجيش –بأمر من قيادته– بالكشف عن مخازن النفط ومصادرتها لصالح المواطنين منعاً للمتاجرة بها في السوق السوداء أو تهريبها.
وما حصل في بلدة التليل العكارية، كان نتيجة حاجة المواطنين إلى البنزين والمازوت، فوقعت الكارثة بعد تجمعهم حول خزان مصادر قبل انفجاره بظروف غامضة متسبباً بمقتل وجرح عشرات المواطنين والعسكريين في جريمة موصوفة لا يمكن عزلها عن منظومة الفساد المتحكمة بلبنان.
فقد أظهرت المعلومات عن تورط نواب في عكار، في عمليات التهريب أو معرفتهم بها والتغطية عليها في أقل تقدير، كمثل العلاقة التي تربط النائب وليد البعريني بصاحب خزان بلدة التليل، المدعو علي صبحي الفرج، والذي استأجر الأرض من جورج إبراهيم، المعروف بالرشيد، والذي يعمل في التعهدات ومواد البناء. ومن عادة «مافيات» التهريب، إقامة علاقات مع أحزاب ونواب، كما مع مسؤولين أمنيين وقضاة، للحصول على الغطاء مقابل هدايا وصفقات مشبوهة.
المدد الإيراني
وفي خضم أزمة شح المحروقات التي أدخلت البلاد في حالة من الفوضى والشلل التام، جاء إعلان الأمين العام لـ«حزب الله»، السيد حسن نصر الله، في خطاب بمناسبة عاشوراء يوم الخميس المنصرم، عن «انطلاق السفينة الأولى من إيران التي تحمل المحروقات باتجاه لبنان»، ليؤجج الخلافات السياسية في ظل تخوف البعض من عقوبات أميركية محتملة.
وقال نصرالله إن «من فرض علينا اتخاذ هذا القرار هو من فرض علينا الحرب الاقتصادية.. ولا يخطئنّ أحدٌ أن يدخل في تحدٍ معنا لأن الأمر بات مرتبطًا بعزة شعبنا ونرفض أن يُذلّ هذا الشعب».
وبينما أكد نصرالله أن «سفناً أخرى ستأتي إلى لبنان» مُحذّراً الإسرائيليين والأميركيين من المساس بها، سارعت السفيرة الأميركية في بيروت إلى الاتصال بالرئيس عون لتوفير البديل عن النفط الإيراني، في خطوة أظهرت تخوف واشنطن وحلفائها من تمدد نفوذ طهران في لبنان، فيما قال موقع «إسرائيل ديفنس» إن دولة الاحتلال تواجه مأزقاً في التعامل مع قضية البواخر الإيرانية.
وأثار إعلان الأمين العام لـ«حزب الله»، ردود فعل سياسية متعددة، بين مؤيد ومعارض. فبعد اعتبار رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الحريري أن هذه الخطوة «ستحمل معها مخاطر وعقوبات إضافية»، رد رئيس حزب «التوحيد العربي» الوزير الأسبق، وئام وهاب، على الحريري قائلا: «كلام الحريري قطع الطريق على تشكيل الحكومة. وهل يريد سعد الاستمتاع بطوابير الذل لإرضاء أسياده الأميركيين؟».
وفي السياق نفسه، حمل رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، رئيس الجمهورية، مسؤولية «عما يمكن أن يلحق بالبلد»، بعد وصول السفن الإيرانية إلى لبنان.
وتساءل جعجع في تغريدة عبر «تويتر»: «هل يا فخامة الرئيس تتركون الحزب الذي صادر القرار الاستراتيجي والعسكري والأمني، بأن يصادر اليوم القرار الاقتصادي، ضاربا اللبنانيين ومصالحهم عرض الحائط ومسقطاً القطاع الخاص نهائياً؟».
أما النائب فؤاد مخزومي فاعتبر أن «دخول السفن الإيرانية إلى المياه اللبنانية قرار خطير ستكون انعكاساته سلبية لجهة تأثر لبنان حتماً بالعقوبات المفروضة على إيران منذ العام 2018 والتي ستفرض على لبنان حصاراً اقتصادياً جديداً من نوعه يقيّد حركة البلد المصرفية لجهة تعامل مصرف لبنان مع المصارف المراسلة في أميركا تحديداً».
وكشفت وكالة «نورنيوز» شبه الرسمية الإيرانية أن شحنات الوقود الإيرانية المتوجهة إلى لبنان، اشترتها بالكامل مجموعة من رجال الأعمال اللبنانيين المقربين من «حزب الله».
وقالت الوكالة المقربة من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني إن شحنات الوقود التي ذكرها نصر الله، «اشترتها مجموعة من رجال الأعمال اللبنانيين الشيعة، وتعتبر من ممتلكاتهم منذ لحظة تحميلها في إيران».
خطة أميركية بديلة
وبالتزامن مع انطلاق أولى البواخر الإيرانية المحملة بمادة المازوت إلى لبنان، أعلن قصر بعبدا أن الولايات المتحدة أبلغت الرئيس عون بوضعها خطة تشمل الأردن وسوريا ومصر لمد لبنان بالتيار الكهربائي.
وذكرت الرئاسة البنانية على حسابها في «تويتر» أن عون تلقى اتصالاً هاتفياً من السفيرة الأميركية لدى بيروت، دوروثي شيا، أبلغته خلاله بـ«قرار الإدارة الأميركية بمساعدة لبنان في استجرار الطاقة الكهربائية من الأردن عبر سوريا عن طريق الغاز المصري».
وأوضحت السفيرة الأميركية، حسب الرئاسة اللبنانية، أن الخطة تقضي بتسهيل نقل الغاز المصري عبر الأردن وسوريا وصولاً إلى شمال لبنان، مشيرة إلى أن المفاوضات جارية مع البنك الدولي لتأمين تمويل ثمن الغاز المصري وإصلاح خطوط نقل الكهرباء وتقويتها والصيانة المطلوبة لأنابيب الغاز.
بدوره، أكد الأردن استعداده لتقديم «كل الدعم الممكن للبنان» وتزويده بالطاقة الكهربائية من الشبكة الأردنية وإيصال الغاز المصري عبر الأردن وسوريا إلى لبنان.
الكارثة مستمرة
بعد انفجار مرفأ بيروت والمحرقة الأخيرة في عكار، ورفع الدعم عن السلع الأساسية وتعثر ولادة حكومة جديدة واستمرار تدهور الليرة، يمكن القول إن لبنان أصبح فعلاً في جهنم التي تحدث عنها رئيس الجمهورية، والتي هي مأوى المخطئين والمفسدين والمنافقين، إلا في لبنان، فإن مَن يدفع الثمن هو الشعب وليس المسؤولون الذين تسببوا في انهيار البلاد وتجويع شعبها.
وبانتظار تبين الخيط الأبيض من الأسود بشأن شحنات الوقود الإيرانية والخطة الأميركية البديلة لتوفير الكهرباء، يعيش لبنان أيامه هذه وسط غياب أبسط مقومات الحياة الطبيعية، مع فقدان المواد والسلع الأساسية، من الخبز إلى الدواء والمحروقات، وهي ظروف أشعلت ثورات وأطاحت حكاماً وأنظمة في العديد من دول العالم.
فمن دون توفر المحروقات، تتعطّل كل الدورة الاقتصادية، وهو ما يضع الدولة اللبنانية أمام خيارين أحلاهما مرّ، إما رفع الدعم ووصول سعر صفيحة البنزين إلى ما يوازي نصف الحد الأدنى للأجور، بحسب سعر الليرة أمام الدولار، أو البقاء في طوابير الذل أمام محطات المحروقات والأفران والصيدليات والمستشفيات التي باتت على شفير مشهد مأساوي وكارثي.
كل هذا يجري بينما عملية تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي، تراوح في حلقة مفرغة، وسط تبادل الاتهامات بين فريق رئيس الجمهورية ومعارضيه الذين يحملونه مسؤولية الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي، بينما يرد «التيار الوطني الحر»، بأن قوى سياسية موجودة في السلطة، تمنع الإصلاح وعلى رأسه التدقيق الجنائي، الذي يصر عليه عون، رغم كونه أحد أبرز أسباب عدم اتفاقه مع سعد الحريري، وأيضاً الرئيس نبيه برّي الذي يتهمه رئيس الجمهورية بوضع العصي في دواليب العهد.
وبانتظار ما تحمله الأيام القادمة التي قد لا تقل سوداودية عن الوضع الراهن، يعيش اللبنانيون حالة من الإحباط واليأس حيث لم يعد أمامهم خيارات عقلانية غير طلب الهجرة هرباً من بلد الحرائق.
Leave a Reply