محمد العزير
بعيداً عن طوفان التحليلات الإعلامية العربية، وعن «خبراء» الشاشات الذين زادهم التواصل الاجتماعي صلفاً وجلافة، وبصرف النظر عن نظريات المؤامرة التي تتكاثر كالفطر في ليلة عاصفة منذ الاجتياح «السياحي» لحركة طالبان لعموم أفغانستان مع إعلان الإدارة الأميركية بدء الانسحاب من هذه البلاد المأزومة؛ بلاد الدم والأفيون، يغيب أمران مهمّان عن سيل الكلام والحبر، ولعلهما الأمران الأكثر أهمية في هذا المشهد الذي وصفه زميل عزيز بـ«السوريالي» وهو يعلّق على فيديو تسلق شبّان على عجلات طائرة عسكرية أميركية تهم بالإقلاع أفواجاً، هرباً من طحشة جنود «دين الرحمة»، ليتساقطوا بعد لحظات عن ارتفاع شاهق ويلقوا مصيرهم المحتم.
لندع جانباً تنظيرات وترّهات الأهداف الآثمة لقرار الجلاء الأميركي والغربي، وتبريكات وتبريرات أنصار الاستقلال الأفغاني من نير الإمبريالية، وتلافيف مؤامرات توريط الصين وإزعاج روسيا والضغط على إيران، والتخلي الأميركي عن الشرق الأوسط كلياً للتفرغ لـ«الهم الباسيفيكي» وصولاً إلى النغمة القديمة عن هوى الأميركيين لـ«الإخوان المسلمين». محاولة قراءة ما يجري تقود إلى محورين مهمين:
يتمثل المحور الأول في فهم آليات القرار الأميركي. إذ يغيب عن مفاهيم من لا يعرف أميركا من الداخل، أمر مهم، لا بل هو المحور الأكثر أهمية لأية ادارة أميركية جمهورية كانت أو ديمقراطية. يتلخص ذلك في قول أشهر رؤساء مجلس النواب الأميركيين تيب أونيل الذي تولى هذا المنصب لعشر سنوات (1977–1978)، «كل السياسات محلية».
بالمختصر، القرار الأميركي مصدره داخلي وأهدافه داخلية (انتخابية بالأساس). أميركا كدولة تمثل أكثر بقليل من أربعة بالمئة من سكان العالم، لكنها تنتج ربع الإنتاج الكوني وتستهلك 26 بالمئة من كل إنتاج العالم. لهذه الأرقام معنى؛ المعنى الأول هو أن أميركا لا تهمها السوق الخارجية قدر اهتمامها بسوقها المحلية، والثاني أن أميركا، الدولة الأكثر إنتاجاً للنفط والغاز في العالم، لا تحتاج إلى أي نفط خارجي بالمعنى الإنتاجي للكلمة، بل هي حريصة عليه بالمعنى التجاري، فعندما تزداد الأسعار ليس هناك من يجبر الشركات الأميركية على عدم بيع منتجاتها في العالم وليس في السوق الداخلية.
سمعنا جميعاً عن البراغماتية الأميركية، أي السياسة القائمة على النفعية والذرائعية والواقعية، لكن السمع شيء والرؤية شيء آخر. لا تقيم أميركا اعتباراً لأي من النمطيات «الوطنية» ولا لأي «خجل قومي». الدولة الأغنى والأعتى في العالم لا تجد غضاضة في أن يكون بين سكانها من نصف مليون مشرد ينامون في العراء، الأكثرية الساحقة منهم أميركيو المولد، ونسبة غير قليلة منهم من متقاعدي القوات المسلحة، وأكثريتهم تعاني من اضطرابات نفسية وعصبية وعقلية.
تمر مواكب الرئيس ونواب الرئيس وأعضاء الإدارة وحكام الولايات وكبار المسؤولين قرب مخيمات عشوائية للمشردين، خصوصاً في الولايات ذات الطقس المعتدل دون أن يرى أحد في المنظر أي غلط. هذا ليس جزءاً من الصورة الوطنية… إنما الصورة الوطنية هي في عدد أصحاب المليارات والملايين وقصص النجاح المنقحة (إن لم نقل المفبركة). بناء على ذلك لا فائدة من التباكي على الأفغان المتروكين خلف الطائرات. قبلهم تركت أميركا مئات الآلاف في فيتنام وكمبوديا ولاوس وكوريا وكوبا وإيران والعراق (لا تنسوا سوريا).
الرقم المهم أميركياً هو في النهاية أميركي. حتى الآن لم يمت في أفغانستان أي أميركي لا من المدنيين ولا من العسكر، الباقي مجرد تفاصيل صغيرة. ستمر الهمروجة الإعلامية خلال أيام قليلة، لن تتحقق نبوءات الخبير المستجد (المكتشف حديثاً لنفوذ الكاميرا والشاشة) طلال أبو غزالة، وستعود الحياة العامة إلى سياقها مع متحورات الكورونا وانهيارات العالم الثالث ومجاعات أفريقيا وتأثيرات التغير المناخي على البيئة. ما لم تتعرض القوات الأميركية لخسائر فادحة، وبالطبع هذه ليست دعوة لذلك، لن تكون مساحة أفغانستان في الإعلام الأميركي، وبالتالي العالمي، أكثر من مساحة مؤخرة كيم كاردشيان أو جنيفر لوبيز أو المطربة نيكي ميناج.
يتلخص المحور الثاني ببساطة في الفشل الذريع لنخب العالم الثالث، وخصوصاً النخب العربية والإسلامية في المشاركة في صنع مستقبل أوطانها. ويتجلى هذا الفشل بوضوح في الحالات التي يكون الأميركي عنصراً فيها. نجحت ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة بعد الحرب العالمية الثانية وخصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة في شق طريقها نحو الازدهار الاقتصادي والتطور الاجتماعي والتحقت ببساطة بما يسمى «عمالقة آسيا». في المقابل منيت أفغانستان (الإسلامية) والعراق (العربي) بفشل ذريع بعد التدخل الأميركي المباشر الذي كلف تريليونات الدولارات ليكشف عن وجوه بدائية للسياسة لا تصلح حتى للقرون الوسطى. خلال ذلك سنحت فرصة تاريخية للنخب العربية في مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا خلال «الربيع العربي» لتكوين هويات وطنية جديدة تلحق تلك البلدان بركب العصر وتتخلى عن بدائياتها وعللها.
هل يمكن تحميل مسؤولية ذلك للأميركي؟ صحيح أن الأميركي يدخل بدولاره أولاً، وصحيح أن أهداف الأميركي عادة ما تكون قصيرة المدى… استثمار هنا أو وكالة هناك، أو عقد في مكان آخر، لكن المثل العربي يقول يد واحدة لا تصفق. لولا النخب العربية والإسلامية المستعدة لبيع كل شيء، لما تمكن الشاري من إتمام صفقته. عندما اكتشف الجنود الأميركيون صدام حسين في مخبئه تحت الأرض وأخرجوه قال لهم: أنا صدام حسين رئيس العراق وأنا مستعد للتفاوض، وعندما منع ضابط روسي بشار الأسد من مواكبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء زيارته لقاعدته العسكرية حميميم في محميته، خرج علينا إعلام التطبيل بأن ذلك الضابط استوقف الرئيس الشاب ليطلب منه خدمة لدى رئيسه القوي.
مشكلتنا بلا مواربة هي العقل الديني. راجعوا لغتنا. لا يمكننا أن نتحادث في أبسط الأمور أو أعقدها دون طرف ثالث. الطرف الثالث دائماً ما يكون الله. حاول أو حاولي كتابة تهنئة أو تعزية أو مباركة أو حتى شتيمة باللغة العربية، دون ذكر الله، أو دون ذكر عبارات دينية. المشكلة ليست في اللغة الدينية، بل المشكلة في مضمونها، المضمون كله اتكالي. هذه الاتكالية الفظيعة تجعل العراقي يسرق وينهب ويصرف نفوذه، كما اللبناني، وكما السوري الذي كان يأتي إلى واشنطن كممثل لشعبه ليتحول خلال لحظات أمام مسؤول أميركي أو حتى مترجم إلى مخبر ضد زميل له في الوفد ذاته!
هذه الاتكالية التي منعت النخب الأفغانية وجلّها جاء من أميركا نفسها من تكوين هوية وطنية والتضحية ببضعة امتيازات مقابل الحصول على وطن.
في المرويات المصرية أن سفير بريطانيا أيام الانتداب أراد حضور حفل غنائي شعبي، وعندما أطل نجم الحفل وهاج الجمهور سأل مترجمه عن قول المغني «يا ناس قولوا لحبيبي»، فأخبره المترجم المصري بالمعنى فقال له: حتى في هذه تحتاجون للناس؟
قُدر لـ«الإخوان المسلمين» في مصر أن يحكموا، وأن يغيروا الصور النمطية عن الإسلام. لكن الطبع غلب التطبع، فبدل أن يتشجعوا بتجربة حداثية كما فعل رجب طيب أردوغان في تركيا –قبل ارتداده– أرادوا إعادة مصر إلى زمن المماليك. كذلك حصل في تونس لولا إرث الحبيب بورقيبة… وكذلك دُمرت ثورة سوريا لنوايا ثأرية لم تضر النظام أبداً.
علينا أن نكف عن لوم أميركا… أو على الأقل أن ننظر إلى حالنا قبل لوم الآخرين.
Leave a Reply