وليد مرمر – لندن
رغم أن الشائع أن الإمام موسى الصدر كان قد قدم إلى مدينة صور في جنوب لبنان ليخلف الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، كعالم دين بطلب من بعض رموز الشيعة في لبنان وبتشجيع ومباركة من مراجع النجف وقمّ وخاصة من المرجعين آية الله العظمى السيد حسين البروجردي وآية الله محسن الحكيم والسيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين (المقيم بالنجف آنئذ)، فإنه من الثابت تاريخياً أنه كان قد زار لبنان مرتين قبل هذا بدعوة من السيد شرف الدين عامي 1955 و1957.
ويبدو أن السيد شرف الدين قد أحس بدنو أجله (توفي عام 1957) فسارع إلى تهيئة ظروف خلافته ليتولاها الصدر ذو الجذور اللبنانية التي تعود إلى قرية شحور الجنوبية. ولقد تم التمهيد لتلك الخلافة في حوزتي قم والنجف الأشرف وفي «الهوامش» العلمية المحيطة بهما.
ولكن لماذا اختار السيد شرف الدين، الإمام الصدر تحديداً للقيام بمهمة النهوض بشيعة لبنان؟
لقد كان شرف الدين ثاقب النظر واسع الإدراك نافذ البصيرة ولذا فقد رأى في الصدر «أبو ذر الثاني» الذي سيتسلم منه شعلة العبور بشيعة لبنان إلى درجة المواطنة في تركة الفرنسيين الهجينة التي أسموها «لبنان».
فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن الوظائف الحكومية في لبنان عام 1972، وفقاً لدراسة أعدها الدكتور حسن شريف، كانت تضم 0.7 بالمئة فقط من الجنوبيين الشيعة الذين كانوا يمثلون وقتها 20 بالمئة على الأقل من اللبنانيين. وكان الشيعة في تركيبة هذه الدولة محرومين من كل وظائف الدرجة الأولى والثانية والعديد من وظائف الدرجة الثالثة. ولذا لم يكن لبنان بحاجة إلى «مرجع ديني» ينظّر في مسائل الفقه التي لا تحصى بل كان بحاجة إلى شخصية «غفارية» ثورية لها باع في العمل الاجتماعي المطلبي والتغييري. ومعلوم أن الإمام الصدر كان قد تحصل على درجة الاجتهاد بعد دراسته الطويلة في حوزتي قم والنجف الأشرف. وهو بالتالي كان سيكون له حظاً وافراً بتقلد «كرسي» المرجعية –الأصيلة أو الرديفة– فيما لو أمضى سني شبابه وكهولته وربما بعض من شيخوخته في ردهات الحوزة ومكتباتها وبيوتات علمائها. ولكن كان للإمامين شرف الدين والصدر رأي آخر!
يذكر الإمام الغزالي في مقدمة كتابه النفيس «فقه السيرة» أنه قابل «نفر من أهل المغرب يزعمون أنهم قدموا إلى المدينة فراراً بدينهم من الفتن، فأفهمتهم أنهم فارون من الزحف لأن إخوانهم يقاتلون الفرنسيين الغزاة وهم مجرمون بتركهم المجاهدين يحملون وحدهم عبء هذا الكفاح».
ولقد كان السيد الصدر بين أكثر من طبقوا مقولة زكاة العلم هي إنفاقه، أو نشره، أو تعليمه على اختلاف الروايات. وما نفْعُ العلم مهما عظم إن بقي في الصدور أو بين دفات الكتب؟
يذكر أنه جاء أحدهم إلى الشيخ والمجدد محمد عبده رحمه الله فقال له مغتبطاً: لقد حفظت صحيح البخاري من الدفة إلى الدفة. فأجابه الشيخ غير مبال: لقد زاد صحيح البخاري نسخة!
لقد كان الإمام الصدر الذي تصادف هذه الأيام الذكرى السنوية الـ43 لتغييبه ورفيقيه، من طينة مختلفة. فهو إضافة لتحصيله الحوزوي فقد أتم دراساته الجامعية وتخرج حاملاً شهادة في الاقتصاد السياسي. وبدراسة سيرته الذاتية قبل انتقاله إلى لبنان، نجد شاباً ثائراً متوقداً مجدداً ولكن مع كياسة واتزان. وبذلك، اجتمعت فيه صفات القيادة والتغيير في آن.
وكان السيد الصدر قبل مجيئه إلى لبنان على تواصل مع آية الله السيد أبو القاسم الكاشاني الناشط سياسياً وثورياً إبان حكم الشاه ومع رئيس حركة «فدائيان إسلام» الشهيد نواب صفوي كما أنه شارك في تأسيس النهضة والتجديد. وهكذا ارتأى السيد شرف الدين والسيد الحكيم وثلة من علماء الطائفة أن المصلحة تقتضي قدوم السيد الصدر إلى لبنان لقيادة السفينة المتعثرة للشيعة.
ولدى تأمل آليات حركة عمل السيد الصدر على مدى السنوات العشرين التي قضاها في لبنان نستنتج أنه اعتمد ركائز أساسية لم يحد عنها البتة وهي:
1– العمل المؤسساتي: عند مجيء الإمام إلى لبنان وجد أنه يكاد لا تكون للشيعة أية مؤسسة فاعلة في المجتمع اللبناني فضلاً عن تهميشهم في الدولة اللبنانية. لذلك قام بإطلاق عمله الاجتماعي عبر إعادة تنظيم هيكلية «جمعية البرّ والإحسان» وعبر إنشاء مؤسسات عامة تعنى بالشؤون التربوية والصحية والاجتماعية والدينية. كما أنشأ صندوق الصدقة ومهنية جبل عامل وكشافة الرسالة وبيت الفتاة ومعهد الدراسات الإسلامية. وبدأ بدراسة إنشاء جامعة إسلامية (تأسست بعد تغييبه)، وعكف على تنظيم الطائفة الشيعية وكان له الفضل الأكبر في إقرار مجلس النواب قانون إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1967 الذي ترأسه. ثم أنشأ مع آخرين أفواج المقاومة اللبنانية (أمل) عام 1974.
2– الانفتاح وتقبل الآخر: لم يكن للإمام الصدر «مشروع شيعي» مواز لمشروع الدولة اللبنانية كما أن تبنيه للدفاع عن حقوق الطائفة لم يكن نابعاً من بعد مذهبي على الإطلاق بل كان دفاعاً عن فئة اجتماعية اضطُهدت بسبب هويتها الدينية. ولذلك، ورغم أنه كان يعمل في بلد تتحكم الطائفية والمذهبية بكل مكوناته إلا أنه كان حريصاً على ألا يكون خطابه مذهبياً بل وذهب أبعد من ذلك بأن حاول العمل على توحيد الرؤية والأهداف والمنطلقات لدى المذهبين السني والشيعي في الدولة اللبنانية ولكن هذه الجهود لاقت بيروقراطية من الطرف الآخر لم يكن من السهل تجاوزها.
وعلى سبيل المثال اتصل الصدر بمفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد واقترح عليه العمل على توحيد الشعائر العبادية الإسلامية تمهيداً للوحدة الإسلامية فضلاً عن وجوب إيجاد مساحة مشتركة ومواقف موحّدة في قضايا المسلمين عامة ولبنان خاصةً. وتضمنت الرسالة اقتراحاً واضحاً بالاعتماد على الطرق العلميّة الحديثة لرصد الهلال وتحديد أوقات الأعياد. ولقد صلّى الإمام الصدر على جثمان الشهيد معروف سعد في الجامع العمري في صيدا بعد اغتياله في أول الحرب الأهلية.
ولقد كانت للسيد الصدر مواقف غير مسبوقة بانفتاحه على الطائفة المسيحية إلى أبعد الحدود فجال على كل القرى اللبنانية وسعى إلى إنهاء أية فتنة مذهبية، وألقى المحاضرات في الجامعات والمساجد والكنائس، ممّا انعكس إيجاباً على التعايش الإسلامي المسيحي، ليصبح نموذجاً يحتذى به. فهو على سبيل المثال شارك في قداس أقيم في صور عن روح قداسة البابا يوحنا الثالث والعشرين كما أنه كان رجل الدين المسلم الوحيد الذي يحضر مراسم تتويج قداسة البابا بولس السادس. وألقى السيد الصدر عظة الصوم في كنيسة الآباء الكبوشيين حيث كان أول رجل دين مسلم يُلقي عظة في كنيسة.
3– الحركية الدائمة ومد الجسور للخارج: قام الصدر بجولة في أوروبا استمرت شهرين كانت تهدف إلى التعرف على الحضارات الغربية والاطلاع على مجالات التقدم فيها لجهة تطوير مناهج وأساليب العمل في المؤسسات الخيرية والاجتماعية. وجال الصدر أيضاً على أفريقيا للتعرف على الجالية اللبنانية وتفقد شؤونها والعمل على ربطها بوطنها. وهو إلى ذلك نجح في نسج علاقات عربية مع مختلف الأنظمة العربية حيث أقام علاقات مع مختلف الأنظمة العربية كما وقام بجولات أوروبية دعما للقضية الفلسطينية.
4– البراغماتية: كان السيد الصدر منفتحاً على التيارات اليسارية والقومية العربية إلى أبعد الحدود. ودعا إلى قيام الدولة المدنية والغاء الطائفية. وكان ديناميكياً إلى أبعد الحدود حيث ارتأى مثلاً أن يكون أقرب إلى صبري حمادة ضد كامل الأسعد رغم مناوئته للإقطاع السياسي وذلك ربما لقناعته بلزوم اختيار «أهون الشرّين» وعدم جدوى التقوقع والتصلب. وهو إلى ذلك حاول جاهداً جذب كل طاقات الطائفة على اختلاف مشاربها إلى المشاركة في مشروعه النهضوي.
5– المقاومة: لقد كان هدف السيد الصدر الأسمى هو تحقيق الوحدة الإسلامية والعربية في مواجهة العدوانية الصهيونية وصولاً إلى تحرير فلسطين. وحرص خلال أولى سني الحرب على تنظيم العلاقات مع المقاومة الفلسطينية وتجنب بفضل حنكته السياسية المخططات التي كانت تهدف إلى اصطدام المكون الشيعي بمنظمة التحرير. ووضع الصدر نصب عينيه قضية الدفاع عن الجنوب في وجه الاعتداءات الإسرائيلية مطالباً بتسليح المواطنين وتدريبهم للدفاع عن قراهم إضافة لتنفيذ مشاريع إنمائية لدعم صمود الناس في قراهم وعدم النزوح عنها. وهو قد رفع شعاراً يُعتبر الأساس الأيديولوجي لهذا الصراع والبوصلة التي تحدد مستقبله والمدماك الذي مهد لنشوء المقاومة وانتصارها، وهو شعار من ثلاث كلمات «خفيفات على اللسان ثقيلات في الميزان»، ألا وهن: «إسرائيل شر مطلق».
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply