مقايضة فرنسية–إيرانية: النفط العراقي مقابل تشكيل الوزارة في لبنان
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم يكن متوقعاً أن تبصر الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب ميقاتي، النور، يهذه السرعة. إذ أن الأجواء السياسية الداخلية والخارجية التي سبقت ولادة الحكومة العتيدة، لم تكن تشي يأن الأمور متّجهة نحو التشكيل بل كانت أسهم اعتذار الرئيس المكلّف قد ارتفعت إلى أعلى مستوياتها بعد مضي أكثر من شهر على تكليفه، في ظل عراقيل محلية ارتبطت بتوزيع الحقائب والأسماء وحصص الطوائف والقوى السياسية. لكن الأمر انقلب رأساً على عقب بحصول تحوّل دولي–إقليمي، سرّع وبشكل مفاجئ في صدور مراسيم الحكومة، بعد أن تردّد في أروقة السياسة ووسائل الإعلام، بأن حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب باقية حتى نهاية عهد الرئيس ميشال عون.
اتصال ماكرون–رئيسي
في ظل هذه الأجواء الملبّدة سياسياً، والمعقدة خارجياً، وبعد مضي نحو أكثر من عام على استقالة حكومة دياب إثر انفجار مرفأ بيروت، وتكليف كلٍّ من السفير مصطفى أديب والرئيس سعد الحريري لخلافته قبل أن يعتذرا، فإن الاتصال الذي جرى بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، فتح الباب لخروج الحكومة من أسر الصراعات الداخلية والخارجية، حيث لم يمضِ أكثر من يومين على الاتصال بين الرئيسين حتى تبدّلت الأجواء السياسية في لبنان، من ملبّدة بالغيوم إلى صافية، فظهرت مرونة من المعنيين دستورياً في تشكيل الحكومة –وهما الرئيسان عون وميقاتي الذي كان انقطع عن زيارة القصر الجمهوري– وبدأت العقد تحلّ الواحدة تلو الأخرى، من «الثلث الضامن» ووزارات الاقتصاد والطاقة والشؤون الاجتماعية، وهي وزارات سيكون لها دور محوري خلال الأشهر القادمة في ظل الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب الذي يعيشه اللبنانيون هذه الأيام.
لعبة المصالح
بالرغم من الدعوات الداخلية والخارجية لاستعجال تشكيل الحكومة اللبنانية، منذ أكثر من عام، تبين أن الأمر يحتاج إلى مقايضة ما، وهذا ما ظهر عقب اتصال ماكرون–رئيسي، بحصول شركة «توتال» الفرنسية على عقد للتنقيب عن النفط في العراق، الذي لإيران نفوذ أساسي فيه، كما لأميركا التي تستعد للانسحاب العسكري من بلاد الرافدين بعدما سبق للرئيس الديمقراطي الأسبق، باراك أوباما، أن سحب الجزء الأكبر من الجيش الأميركي عام 2011، مبقياً على قواعد عسكرية تضم خبراء ومستشارين عسكريين، بموافقة حكومة بغداد، التي طالبت –مؤخراً– برئاسة مصطفى الكاظمي بالانسحاب الكامل والشامل من العراق، الذي من المتوقع أن يتم في أواخر العام الحالي، بعد أن سحب الرئيس الحالي جو بايدن الجيش الأميركي من أفغانستان، بعد مرور عشرين عاماً على احتلالها، وهي المدة نفسها تقريباً للتواجد الأميركي في العراق.
إذن، هي لعبة المصالح بين الأمم، التي سرّعت ولادة الحكومة في لبنان، إذ أن صفقة النفط التي حصلت عليها فرنسا في العراق، ساهمت في دفع الرئيس ميقاتي إلى تدوير الزوايا وتقديم التنازلات، وهو الصديق المقرب لفرنسا التي تجمعها به علاقات تجارية، عبر العديد من الشركات الكبرى ومنها شبكة الاتصالات الهاتفية «فرانس تيليكوم»، التي كان ميقاتي وكيلها في لبنان ودول أخرى.
لعبت المصالح دورها، واعترفت فرنسا لإيران بحضورها في لبنان، وسط صمت أميركي وانزعاج سعودي خصوصاً وخليجي عموماً، لاسيما من الإمارات العربية المتحدة والبحرين.
في المحصلة يمكن القول إن ما جرى ببساطة كان تبادل النفط العراقي بالحكومة في لبنان التي وُلدت بصفقة إيرانية–فرنسية، وانشغال أميركي بالانسحاب من أفغانستان، وسط انكفاء واشنطن عن الشرق الأوسط وانتقال تركيزها إلى الشرق الأقصى، لمواجهة المارد الصيني.
الحكومة الثالثة لميقاتي
هي الحكومة الثالثة لميقاتي، الذي سبق وقاد البلاد في مرحلتين انتقاليتين. فهو ترأس في نيسان 2005، الحكومة لأول مرة بقرار دولي–إقليمي، إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان. وقد شجّعت –حينها– فرنسا ومعها أميركا ومندوب الأمم المتحدة إلى لبنان، تيري رود لارسن، على أن يكون ميقاتي رئيساً لحكومة انتقالية تشرف على الانتخابات النيابية، التي كان يريدها الرئيس جورج بوش الابن في موعدها، وفق رؤيته لـ«الشرق الأوسط الكبير».
وبالفعل، حصلت الانتخابات بإشراف حكومة ميقاتي، الذي لم يترشّح حينها، فكانت الأغلبية النيابية من نصيب فريق «14 آذار»– المدعوم أميركياً– الذي سارع إلى العمل على نزع سلاح المقاومة، تحت حكومة فؤاد السنيورة، عبر تجريم شبكة اتصالات «حزب الله» التي مكنته من الحفاظ على القيادة والتحكم خلال «حرب تموز» 2006، فوقعت أحداث 7 أيار 2008 لتعيد التوازن السياسي في البلاد على وقع تحسن العلاقات السورية–السعودية واتفاق الدوحة.
أما حكومة ميقاتي الثاني فكانت في مرحلة شديدة الحساسية داخلياً في أعقاب اندلاع أحداث «الربيع العربي» والحرب السورية، وإسقاط حكومة سعد الحريري باستقالة الثلث الضامن أثناء استقباله في البيت الأبيض.
لكن ميقاتي اضطر إلى الاستقالة بعد تعرضه لضغوط شديدة من قوى «14 آذار» وأميركا والسعودية، وصلت إلى حد إشعال معارك عسكرية ذات طابع طائفي في طرابلس، عرفت باسم محاور باب التبانة–جبل محسن، بينما كانت الحرب السورية قد دخلت أخطر مراحلها مع مراهنة المحور الأميركي–الخليجي على إسقاط دمشق.
وكما في حكومتيه السابقتين، يعود ميقاتي إلى السراي الكبير على رأس حكومة تضم وزراء من «حزب الله»، ولكن هذه المرة، بتأييد من طائفته السنّيّة مدعوماً من «دار الفتوى» و«المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى» و«نادي رؤساء الحكومات السابقين».
الثلث الضامن
في حكومته الثالثة، لم يلتزم ميقاتي بالمبادرة الفرنسية التي طرحت حكومة اختصاصيين ومستقلين، وهو ما حاول سعد الحريري– وقبله مصطفى أديب– فعله دون نجاح. بل عمل ميقاتي على تشكيل حكومة تكنوسياسية من اختصاصيين لهم مرجعيات سياسية، وقد قبل الفرنسيون بهذه المقاربة، ورحّبوا بها، وكذلك واشنطن والاتحاد الأوروبي ودول أخرى، بينما التزمت السعودية الصمت تحت شعار «النأي بالنفس» عن لبنان وعدم تدخلها فيه، علماً بأن القاصي والداني يعلم بأن الرياض كانت وراء إقصاء الحريري عن رئاسة الحكومة.
ولم تبدِ الرياض رأيها في الحكومة الجديدة التي لم تأت على أهواء السعوديين بسبب الحضور القوي لـ«حزب الله»، وحليفه الرئيس عون الذي حصل على «الثلث الضامن»، بالرغم من إنكاره لهذا المطلب، وعدم تأكيد ميقاتي على ذلك. إلا أن أوساط «التيار الوطني الحر»، تعتبر أن رئيس الجمهورية حقّق نصراً بصموده وصبره، بأن أعاد إلى رئاسة الجمهورية دورها وصلاحياتها في أن تكون شريكة دستورياً وفعلياً في تشكيل مجلس الوزراء الذي يتولى وضع السياسية العامة للدولة في جميع المجالات، وفق اتفاق الطائف.
التحدّيات
بعد تشكيل الحكومة، بدأ العمل فوراً على إنجاز البيان الوزاري الذي على أساسه ستنال الحكومة الثقة من مجلس النواب، مع منح الأولوية للأوضاع الاقتصادية بعد أن وصلت نسبة الفقر بين اللبنانيين إلى نحو 82 بالمئة.
وبناء عليه، سينصب التركيز على المسائل الحياتية والتي تبدأ بحل أزمة المحروقات، وهي أساس الدورة الاقتصادية وتؤثّر على كل القطاعات، لاسيما الكهرباء، التي استنزفت خزينة الدولة على مدى عقود.
وفي السياق، وصلت باخرة النفط الإيرانية التي طلبها «حزب الله» وبوشر بتوزيعها، في محاولة إضافية لاحتواء الأزمة بانتظار وصول النفط العراقي، والغاز المصري، إضافة إلى استجرار الكهرباء من الأردن عبر سوريا، التي أظهرت تعاوناً وتجاوباً مع لبنان.
كذلك، على الحكومة الجديدة فتح مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان على الخروج أزمته المالية، والذي حصل على مليار و135 مليون دولار من الصندوق لمواجهة أزمة وباء كورونا. لكن هذا المبلغ الذي يعزّز الاحتياط في «مصرف لبنان»، لا يمنح الاستقرار لليرة اللبنانية على المدى الطويل، رغم التحسن الملحوظ في سعر صرفها أمام الدولار الأميركي خلال الأسبوع الماضي.
وسيترتب على الحكومة أيضاً إجراء إصلاحات واسعة، سواء وفق شروط صندوق النقد الدولي أو من دونها، وذلك عبر استصدار قوانين جديدة للضرائب ومنع التهرّب الضريبي ووقف الفساد والصفقات المشبوهة بالإضافة إلى الكشف عن حجم الخسائر التي تكبّدها لبنان، والتي يصرّ الرئيس عون على أن تخضع لتدقيق مالي جنائي، وإن رضخ لاستمرار رياض سلامة مؤقتاً في منصبه على رأس «مصرف لبنان».
خارجياً، يتعين على الحكومة أن تسعى إلى تحسين العلاقات مع الدول العربية، لاسيما الخليجية، على الرغم من وجود «حزب الله» فيها. كما لم يعد بإمكان الرئيس ميقاتي، أن يرفع شعار حكومته السابقة بـ«النأي بالنفس» عن سوريا، وهي شريان لبنان الاقتصادي، وقد زارها –مؤخراً– وفد وزاري رسمي منهياً قطيعة عمرها عشر سنوات. فميقاتي نفسه دخل ميدان السياسة من بوابة دمشق، كما بدأ التجارة والاستثمار عبرها، لكن القيادة السورية أخذت عليه، بأنه لم يحفظ الود والصداقة، وابتعد عن الوفاء، كما غيره من السياسيين اللبنانيين الذين ناصبوا العداء للنظام السوري وراهنوا على الإطاحة بالرئيس بشار الأسد.
التحديات كبيرة ومتعددة، لكن الوعود لن تكون كثيرة، كما قال ميقاتي، بل جلّ ما ستحاول الحكومة الجديدة فعله، هو وقف الانهيار قدر الإمكان، وإجراء الانتخابات النيابية والبلدية المقررة في أيار (مايو) المقبل، كما يطالب المجتمع الدولي.
Leave a Reply