كمال العبدلي
حين نمارس حياتنا اليوميةَ المعتادةَ على اختلافِ انحداراتِنا، نرى الناسَ مثلنا وهم ينطلقون من وكناتِهم وثكناتهم وبيوتهم إلى أعمالهم أو لتلبيةِ احتياجاتهم على اختلافها، استهلاكيةً كانت أو تآمرية أو متحرّيةً، فرديةً كانت أو أسرِيةً أو مؤسّسات هرمية.
تنبري أمامنا المشاهدُ والشوارعُ والأبنيةُ ووجوهُ الرائحين والغادين والمُنتظرين والعابرين، في حركةٍ مُتواترةٍ ديناميكيّةٍ لا تثير فينا سوى مايتركه النظرُ من صورٍ لأشياءَ عاديةٍ مألوفةٍ وسطحيةٍ تكاد تكون مستنسَخةً بفعل تكرارِها على الرغم من أنها ستُصبح يوماً ما –دون وعي اللحظة– كياناً راسخاً في الذاكرة مُستَعاداً عظيماً يستتر في عظمته وراء حُجُبِ التواري، تستدرجه مشاعرُ الحنين كما لو كان متحرّكاً على خشبة مسرح يستحوذُ على اهتمامِنا وتعاطفِنا والرغبة اللاحقة في احتضانه، تخيب في اللحاقِ به خفقاتُ النبض بكلّ أسرارِ مرئيّاتها وخفّة انتقالاتِها الأثيرية، فنُسارع وسط الحومةِ من جموحِ الذات، إلى التوسّل بعودته دون نأمةٍ من جدوى، ذلك لكي نخيطَ به ما شقّق الزمنُ من ثياب العُمر وما نتأسّى به من إحياء ما أبادَ من سنينِنا.
غير أنّ الذي يستفزّ فينا المشاعرَ، هو ما وراء تلك الوجوهِ وما تخبّئه من حالات وملامحِ الفرحِ أو الحزنِ كما لو كانت دفينةً مثل مكوّناتِ وتفاصيلِ الأجهزةِ البدنيةِ الدقيقة المحجوبةِ للكائنات الحيّة التي لا تظهر للعيانِ إلّا عبر المجهر أو الأشعة فوق البنفسجية وفقَ ما يصطلح على تسميتها العلم، فكم من حزينٍ نراهُ مُبتسماً وكم من فرِحِ يبدو مُطأطئَ الرأسِ أمام ارتقابِ واستحواذ التواري.
أجل… كلّنا نتحرّك في خضمّ الحياة اليومية بين الناس، يروننا كما لو كنا مثلهم على لوحةٍ توحي بالتعتيم والبلاهة والتشظّي والمماهاة بين رجرَجةِ المُويجات على السطح الأرضي مثلما يحدث على سطوح البحارِ والمحيطات دون أن تُرى العوالمُ المبثوتةُ تحتها، ونراهم كما لو كانوا يتحرّكون مثل دُمىً على مسرحٍ طليقٍ مفتوح، لكنّنا لا نستكشف ما وراء أيٍّ منهم من خزينِ الحزن المتكثّف كالسُخام وراء سحناتِهم المتشنِّجة وسلوكِهم المتسرِّع وخلجاتهم المكبوتةِ ومُعاناتِهم المريرةِ التي يُزيدها تعقيدُ الواقعِ الاستحواذيّ خشونةً إلى حدّ الشعور بوجع الألم المُترشّح من جرّاء الإيغال بإغراز السكاكين الآخذة شكلَ حَجْبِ الفُرص، لتخلّفَ ضراوةَ الجرح المتأتّي من قسوةِ حجبها، وحتى إلى درجة تغييبِ الآخَر، على رغمِ ظهورِها صقيلةً كما لو كانت منعكسةً على مرآةٍ لامعة.
هذه المعزوفةُ المكتوبةُ تكاد تكون مقبولةً أو مُتطابِقةً بمعنىً أدقّ ضمن الحيّز المكانيّ ثويّاً أو اغترابيّاً، أي في الوطن الأم أو الإقامة المُغامراتية خارجَه، ومن هذه الانطلاقة الرشيقة تُصبحُ الحدودُ السياسيّةُ للدُوَل مجرّدَ وهمٍ للعظمة التي يروح ضحايا راسميها إلى وُريقاتٍ على دفتر الذكريات، أي إلى تاريخٍ يُسطّرهُ المُنتصِرون تحت منطقِ القوّة، إن كان على حقيقة وقائعِهِ كما حدثت من دون انحيازٍ أو لفلفة أو تطمير أو مُغايِراً لرغبة المُنتصر عمّا مضى.
كانت هناك جماليّات على صعيد واقعِنا الجميل الذي عايشناه –كعرب– متلما عايشته البشرية من مثل معزوفة «شيش كباب» لموسيقيّ أميركيّ، انتقل صداها إلى بلدان الشرق الأوسط بحيث كانت تعزفها الفرقُ الشعبية الموسيقية إبّان مناسبات الأفراح فيرقص المحتفلون على إيقاعِها خصوصاً بمناسبة زفاف العرسان وهي معزوفةٌ أصبحت تراثاً عالميّاً لا يُمحى من الذاكرة الجمعية لمُجايليها، كذلك مرّت على الجيل الذي عشناه مآسيَ بقيت محفورةً في الذاكرة يوم تسمّرنا مذهولين أمام شاشة التلفاز ونحن نتابع من خلالها تراجيدية المؤامرة الفاجعة لاغتيال الزعيم الأفريقي الوطني باتريس لومومبا، مثلما لمسنا تراجيدية المأساة في عيني تشي غيفارا يوم مقتله الحزين بينما يترنّحُ قاتلوه تحت وطأة الغضب الساطع من عيون مريديه، أو قبله في وضع بلدٍ كاملٍ تحت وطأة الاحتلال أمام مرأى العالم دون انتصارٍ للعدالة –وإلى اليوم للأسف– كما حصل ويحصل في أرض فلسطين الطاهرة رغم دنس أقدام المُحتلّ أيّاً كان أو كان مصدرُه، أو كان كما عشناه –نحن مساكين النظر– من المُعايشة المرئيّةِ حدَّ المُناكَدة في التسطير أو كان كما مرَّ عليه آباؤنا الغابرون.
لقد زرتُ بلدي بعد ستة عشرَ عاماً من الاغتراب وكانت من أهمّ المحطّات التي توقّفتُ عندها مليّاً هي الشارعً الطويل الذي شهدَ حضنَ الحنان الأسرويّ الأبويّ الأموميّ المحلّتيّ، وتفتُّحَ زهرةِ شبابي وانعطافة حياتي من مرحلة الصِبا الغضّ، وكذلك شهدَ انحدارَ دموعي وأنا أمشي –غائباً عن الوعي– مترنّحاً من حدّة ضربات الشعورِ بالأسى خلف جنازةِ أمّي.
كانت المُفارقةُ في مشهد الشارع أثناء مروري عليه بعد تلك السنين العجاف، تتلخّص في أنّ جانبَه الأيسر كان بستاناً يقابل مشطَ البيوت التي سكنّاها ونعرف دقّةَ تفاصيل وجوهِ بعضِنا البعض بمختلَفِ أعمارِنا، آباء وأمّهات وإخوة وأخوات وأصدقاء وصبايا غضّاتِ البشرة حبيباتٍ بالنظر، لكنّني فوجئتُ بأنّ ذلك البستانَ اليانعَ الأخضر بسعف نخيلِهِ وأغصان برتقالهِ وعطرِ قدّاحه الربيعيّ قد تحوّل إلى هياكل حجرية مصفوفة ومُتراصّة إلى بعضِها، جامدةً بلا حياة، حينَها تخيّلتُ أن ليس القنبلة الذرية كثل التي ألقيت على هيروشيما وحدها قادرة على إيقاع هذا الدمار الشامل للبيئة وإحالة البساتين إذ أحالتها القنبلةُ الذرّية إلى يباسِ من خرابٍ لا حياةَ فيه ولا من نسمةٍ تتمايل معها رؤوسُ المارّين، بل أيضاً بؤس المُتسلّطين الطغاة من الغفلة أو التعمّد في تجاهل التخطيط العمرانيّ أو تشويه البيئة كما لو يتمّ تشويهُ وجه جميلةٍ بالتيزاب! لكنّ رغم ذلك، لن أطوي تلك الصفحةَ الجميلة من حياتي مادمتُ حيّاً إذ الرؤيا تطوي ما يعاكسها من حيث يبقى الجمالُ حيّاً مادام في عمر المُشاهد –شاهد العيان– نبضٌ يتملّاها تملّيَ العاشق الولهان واقعاً حدثَ عياناً ونبضاً ليس كمثلهِ مُتخيَّلات ألف ليلة وليلة ولا حتّى اتّساع الملعب الحياتيّ لها، اتّساعَ الرِحاب الكونية الوجودية للرؤيا البشرية الإنسانية.
تأتي المعزوفةُ المكتوبةُ هذه، على وقعِ الذهول الجمعيّ الذي خلّفته جائحة كورونا على نفوس الملايين المليونية الدابّة على سطح الأرض، ومازلنا نحيا مُرتابينَ من تواردِ مسلسل الـ«متحوّرات» الذي تنطّ برأسهِ ورأسِها علينا منظّمة الصحة العالمية بين حينٍ وآخر، الذي لا نُمنّي النفسَ أن يكون الحينَ من الدهر بل من الظهر إلى العصر!
وعلى خلافِ مُدمني لملمة المال والاستحواذ عليه وعبادته كما لو كان إلهاً، يكون السفرُ لمُغايريهم انفتاحاً على العالم الذي هو الحياة المُعاشة حُبّاً أو قسراً، وذلك بعينِهِ إيذانٌ بنوعٍ من الانفراج الحياتيّ مادامت تنبض العروقُ في الجسد الذي نحمله أو يحملنا على السواء!
Leave a Reply