كمال ذبيان – «صدى الوطن»
القاضي طارق البيطار، المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت في آب (أغسطس) 2020، بات قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح ثاني قاض تجري تنحيته عن الملف، بعدما أثارت استدعاءاته سخط الكثيرين من الطبقة السياسية، تماماً مثل سلفه القاضي فادي صوان، الذي جرى التعامل معه من قبل قوى سياسية وحزبية وروحية، بالأسلوب نفسه الذي يتمّ التعاطي فيه مع القاضي البيطار، سواء عبر جهة وضعه ضمن دائرة الشك والارتياب واتهامه بتجاوز الصلاحيات، أو وضع العراقيل القانونية والدستورية أمامه لمنعه من المساس بمسؤولين كبار، حتى لو استدعى ذلك توظيف المراجع الدينية وتجييش الغرائز الطائفية.
التحقيق
التفجير الذي حصل في «العنبر رقم 12» بمرفأ بيروت مساء الرابع من آب 2020، كان بحجم زلزال كارثي، لكن من صنع البشر. بل ذكّرت قوة الانفجار، العالم أجمع بقنبلة هيروشيما النووية في الحرب العالمية الثانية.
المحصلة كانت 220 شهيداً ونحو 6 آلاف جريح بينهم مَن أصيب بإعاقات دائمة، بالإضافة إلى تدمير وتخريب نحو 200 ألف مبنى وآلاف السيارات، فضلاً عن تدمير البنية التحتية للمرفأ ناهيك عن التداعيات السلبية على اقتصاد لبنان الذي قدرت خسائره بسبب الانفجار بحوالي عشرة مليار دولار أميركي، مما فاقم من الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية والصحية التي كانت تعاني منها البلاد، لاسيما في ظل جائحة كورونا.
سياسياً، تسبب الانفجار أيضاً بفراغ حكومي زاد طين الأزمة اللبنانية بلة، بعد استقالة الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب، الذي تعهد بالعمل على كشف حقيقة وظروف الانفجار بعد خمسة أيام من وقوعه، وأحال القضية إلى المجلس العدلي، الذي بادر إلى تعيين القاضي فادي صوان محققاً عدلياً لتولي الملف.
غير أن الأيام مرّت، ومعها الأسابيع والأشهر، والحقيقة لم تظهر بعد. فاللبنانيون مازالوا يجهلون حتى أبسط المعلومات التقنية حول الكارثة التي دمرت جزءاً كبيراً من عاصمة بلادهم. وكل ما صدر عن عمل المحقّقَين صوان والبيطار –حتى الآن– هو مجرد مذكرات استدعاء لمسؤولين من رتب عالية. وإذ استجاب البعض ممن كانوا في موقع المسؤولية المباشرة عن مرفأ بيروت، مثل مسؤولي الجمارك والأمن والإدارة، امتنع سياسيون وأمنيون كبار، عن المثول أمام أي من القاضيين، بعدما نصبت الحواجز السياسية والطائفية وتعالت الاتهامات بالانتقائية وتسييس الملف.
خلاف على الصلاحيات
ما أن أعلن القاضي صوان، كما خلفه البيطار، عن استدعاء وزراء سابقين للتحقيق، وهم كانوا على علم بوجود «نيترات الأمونيوم» في المرفأ، بعد مصادرتها من باخرة عابرة، حتى وقع الخلاف بين القضاء والسلطة السياسية، على خلفية مَن له الصلاحية في محاكمة الرؤساء والنواب والوزراء.
هل المحكمة الخاصة بهم المنصوص عنها في الدستور، أم القضاء العدلي أو المدني أو العسكري أو الجزائي؟
طلب القاضي صوان الاستماع إلى وزراء سابقين تولّوا وزارتي الأشغال والمال، من غازي زعيتر إلى يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل وغازي العريضي، ولحق بهم وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق، بوضع اسمه من القاضي البيطار، الذي استدعى أيضاً كل من المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم ومدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا، للاستماع إليهما، لكن وزير الداخلية السابق العميد محمد فهمي لم يأذن بمثولهما، فادّعى عليهما البيطار، ليحتدم الاشتباك السياسي–القضائي ويزداد تعقيداً مع طلب المحقق العدلي الاستماع إلى رئيس الحكومة المستقيل حسان دياب، وهو ما استفز «نادي رؤساء الحكومات السابقين»، كما «دار الفتوى»، رفضاً للمساس بموقع رئيس الحكومة «السُّنّي».
وطالب هؤلاء، دياب بعدم المثول أمام القضاء، وربطوا الاستماع إليه، برئيس الجمهورية ميشال عون، الذي كان يعلم –كما دياب– بوجود هذه المواد الخطيرة، علماً بأن «نيترات الأمونيوم» ظلت مخزنة في المرفأ منذ العام 2013 حتى انفجارها في صيف 2020. وقد تعاقب عليها أكثر من رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة على مدار السنوات السبع.
وقد ساهم ذلك في التشكيك في نوايا بيطار من أكثر من جهة، واتهامه بالاستنسابية، فيما يتهمه «تيار المستقبل» بأنه خاضع لـ«التيار الوطني الحر» ومستشار رئيس الجمهورية، الوزير السابق سليم جريصاتي، الذي يقال إنه هو مَن يحرّك المحقق العدلي، ويطلب منه استدعاء أشخاص وترك آخرين. لكن المدافعين عن البيطار يؤكدون على أنه قاضٍ مستقل وليس له انتماء سياسي أو حزبي وفق ما يُعرف عنه في قصر العدل، كما أن ممارسته في خلال ربع قرن في القضاء، تدلّ على نظافته وكفاءته.
محاصرة البيطار
ما حصل مع القاضي صوان يتكرّر مع البيطار، الذي تقدّم ضده وزيران سابقان، هما يوسف فنيانوس بدعوى «الارتياب المشروع والشك»، ونهاد المشنوق، «بعدم الصلاحية»، ووافقت محكمة الاستئناف المدنية في بيروت على دعوى المشنوق، وأبلغت بذلك البيطار، الذي كان قد علّق جلساته، بانتظار رد المحكمة على شكوى المشنوق.
وكما في كل شيء يحصل في لبنان، اختلفت التفسيرات القانونية، ونصح قانونيون وقضاة حاليون وسابقون، القاضي البيطار بعدم القبول بقرار محكمة الاستئناف «لعدم الصلاحية»، وقد ترافق ذلك، مع ما تسرّب مؤخراً، من مزاعم نقلتها الإعلامية لارا الهاشم عن لسان رئيس جهاز الأمن والارتباط في «حزب الله»، وفيق صفا، بأنه «سيقبع» البيطار من مركزه، إذا لم يحسّن أداءه. وقد سبق للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، أن حذّر قبل أسابيع من أن يقع المحقق العدلي في الاستنسابية، وفُسّر كلامه –حينها– بأنه عدم رضى عن أداء البيطار لاسيما بعد ادعائه على اللواء إبراهيم، الذي شدّد على أنه لا يمانع من المثول أمام القاضي البيطار وفق الأصول القانونية، وسبق له وحضر كشاهد أمام المحقق صوان.
محاولات تسييس
وبدأت الشكوك حول مسار التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، بعد انتشار مزاعم بأن السفارة الأميركية في بيروت تتدخل لتوجيه أصابع الاتّهام في قضية انفجار المرفأ نحو «حزب الله» من خلال تحميله مسؤوليته وجود «النيترات»، علماً بأن آخرين يقولون أن هذه النيترات استقدمت بطريقة ملتوية إلى لبنان لصالح الجماعات المسلحة في سوريا، كما هو حال العديد من شحنات الأسلحة التي وصلت الموانئ اللبنانية لصالح معارضي حكومة دمشق في خضم الحرب السورية.
وتجلت المساعي لربط «حزب الله» بهذه المواد المتفجرة، من خلال إفادة أدلى بها مدير المرفأ حسن قريطم أمام المحقق العدلي، زعم فيها بأن النيترات تعود للحزب، وهو ما أدى إلى حالة من الإرباك، لاسيما بعد أن حرص الإعلامي مارسيل غانم على استضافة شخص من آل كشلي، في برنامجه «صار الوقت» على شاشة «أم تي في»، قال فيه إنه قام بنفسه بنقل عدة شحنات من النيترات إلى الجنوب.
لكن أعقب ذلك انكشاف شاحنة محملة بالنيترات في سهل إيعات بالبقاع، تعود ملكيتها إلى سعدالله الصلح الذي كشف أنه اشتراها من رجل الأعمال مارون الصقر، الموقوف على ذمة قضية تخزين الوقود، وقد توارى شقيقه إبراهيم الصقر، القيادي في «القوات اللبنانية» وأحد مموليها، عن الأنظار. وقد أربك هذا الموضوع «القوات» بعد أن تبيّن بأن «نيترات البقاع» تحمل نفس مواصفات نيترات المرفأ (نسبة الآزوت 34,7). ورأى «حزب الله» في هذه الشاحنة المضبوطة، بأنها محاولة جديدة لتوريطه في انفجار المرفأ، لاسيما بعدما هبت بعض وسائل الإعلام إلى ترويج معلومات خاطئة بأن الشاحنة لـ«حزب الله» وهو ما تبين زيفه من التحقيق. وقد كان لافتاً أن وسائل الإعلام نفسها سارعت إلى اتهام «حزب الله» بالمسؤلية عن انفجار المرفأ بعد دقائق قليلة من حدوث الكارثة.
في جميع الأحوال، تم تعليق التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت للمرة الثانية، وهذه المرة يتعلق الأمر بدعوى المشنوق الذي يطلب نقل ملف القضية إلى قاض آخر، وسط تنديد عائلات الضحايا الذين سقطوا في الانفجار.. فهل يتسبب التسييس والتطييف المعهودان في لبنان بدفن الحقيقة مرة أخرى مع الضحايا؟ أم سيتم استغلال تعثر العدالة اللبنانية لاستدعاء التدخل الدولي من جديد؟
Leave a Reply