وليد مرمر – لندن
أسابيع ثلاثة مرت على ولادة الحكومة اللبنانية فيما ليس هناك حتى الآن ما يوحي بأن الأوضاع السياسية أو الاقتصادية آيلة إلى التحسن قريباً.
لقد أنهت الحكومة يوم الخميس الماضي تشكيل وفدها للمحادثات مع صندوق النقد الدولي (مع مراعات الستة وستة مكرر بالتأكيد!) وذلك من أجل إنجاز خطة الدعم، فيما بدأ ممثلون عن شركة «لازار» للاستشارات الدولية بعقد محادثات مع المسؤولين من أجل إقرار خطة التعافي المفترَضة.
وفي تطور يوحي بأنه كان نتيجةً لتنسيق بين حركة «أمل» و«حزب الله» و«تيار المستقبل»، طلبت محكمة الاستئناف من قاضي التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت، طارق البيطار، بالتوقف عن متابعة تحقيقاته مؤقتاً بعد دعوى تقدم بها وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق لكف يده عن القضية.
وأيضاً كشف مصدر مطلع أن عضوَي كتلة «التنمية والتحرير» النيابية النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر قد تقدّما بدورهما بدعوى أمام محكمة الاستئناف لكف يد المحقق العدلي عن القضية.
وكان لافتاً قبل أيام، تركيز وسائل الإعلام –بشكل مفضوح– على رسالة وجهها مسؤول جهاز التواصل والارتباط في «حزب الله»، وفيق صفا، إلى القاضي البيطار بواسطة الإعلامية لارا الهاشم. ولقد كان مفاد الرسالة «أن لدى حزب الله توجساً وريبة من الأداء المتبع في التحقيق وبالتالي فإن الحزب قد يعمد إلى إزاحتك لو اقتضى الأمر». وهو ما بدأ بالفعل مع خطوات النواب المشنوق وخليل وزعيتر بكف اليد. وبالطبع لم تفوت محطات التلفزة «الممولة جيداً» فرصة كهذه للتحوير والتشويه وطمس الحقائق فعمدت عبر «أبواقها» المعتادة، إلى الإيحاء بأن الحاج صفا قد عنى «بالإزاحة»، التصفية الجسدية! وهو أمر ترفضه العقول السليمة فضلاً عن الأعراف! فمتى كان القاتل المحترف (كـ«حزب الله» كما يزعمون) يهدد ويزبد ويرعد قبل تنفيذ مهماته! ولكن هذه الوسائل أرادت فهم الرسالة بالشكل الذي يفيد القيمين عليها سياسياً ولو على حساب إذكاء نار الفتنة وتوسيع الشروخ بين شرائح الشعب اللبناني.
وللمفارقة، ففي سياق «سيادي» متصل نشرت جريدة «الأخبار» وثيقتين ضمن وثائق «السعودية–ليكس» تظهر حجم الإرتهان الخارجي لفريق «الشرعية والسيادة». فلقد بينت هذه الوثائق أن النائب وائل أبو فاعور كان يكتب التقارير في «الشاردة والواردة» عن الوضع اللبناني والإقليمي لـ«مُشَغّله» رئيس المخابرات السعودية خالد الحميدان، بما في ذلك ما يخص جدول أعمال مجلس الوزراء ومداولاته. وفي تدخل سافر في شأن دولة عربية (اليمن) رفع النائب أبو فاعور–كما تضمنت الوثائق– إلى رئيس المخابرات السعودية تقريراً مفصلاً عن الأوضاع الداخلية في اليمن خلال الحرب بقلم السفير اللبناني في اليمن، المحسوب على وليد جنبلاط، هادي جابر! ولكن هذا كله لم يثر حفيظة أدعياء «السيادة» على الشاشة الصغيرة ولم يروه مستحقاً حتى للتعليق عليه سلباً أو إيجاباً!
وفيما يبدو أن الأمور ذاهبة لكف يد البيطار عن ملف انفجار المرفأ، يتكثف الضغط الأميركي على الحكومة للتدخل في القضاء وإضفاء حصانة تمنع من تنحية القاضي المحقق، بحجة عدم المس «بمصداقية» القضاء حسبما أبلغت السفيرة الأميركية دوروثي شيا الرئيس ميقاتي. ولقد أصبح واضحاً من خلال مؤشرات عدة أن القرار الظني المُنتظَر سوف يتهم «حزب الله» –بشكل أو بآخر– بامتلاك النيترات التي تسببت بالانفجار الكارثي. وهو أمر بالغ الخطورة في حال حصوله نظراً لتداعياته على الاستقرار والسلم الأهلي بما يحمله من استهداف متعمد ومستمر لشريحة كبيرة من اللبنانيين.
فهل ستؤول التحقيقات بانفجار المرفأ إلى معرفة الحقيقة الكاملة عن ملابسات التفجير؟
إن الجواب على هذا السؤال يحمل الكثير من التعقيدات القانونية والإجرائية. فمن السهل إلقاء اللوم على عدد كبير من المسؤولين السياسيين والأمنيين بحجة التقصير الذي أدى إلى الانفجار، ولكن السؤال الأهم يبقى: «من أحضر النيترات ومن فجّرها؟» ولكن يبدو أن الاتجاه الذي يسير فيه التحقيق يعمد للتركيز على المسؤولين بشكل ثانوي لا بشكل مباشر في التفجير.
وهذا يفتح الباب على مصراعيه لاتهام عدد لا يُحصى من المسؤولين مما قد يزعزع أركان السلطة ويهدد استمرارها. وحري بالقول إن هذا الواقع ينطبق على أعرق الدول ديمقراطية وشفافية. فعلى سبيل المثال قامت الدولة الأميركية بدفع تعويضات لكل ذوي ضحايا 11 أيلول 2001، والبالغ عددهم نحو ثلاثة آلاف شخص. ولقد تم دفع ما يعادل 2 مليون دولار لذوي الضحية الواحدة (ما مجموعه 7 مليار دولار) إضافة إلى 400 ألف دولار للجريح الواحد، وذلك شريطة أن يوقع ذوي الضحايا على تعهد يمنعهم من المطالبة بإجراء أي تحقيق بالحادثة، ويمنعهم أيضاً من مقاضاة الحكومة أو أي جهاز أو فرد رسمي أو مدني أو عسكري بتهمة المشاركة أو التقصير فيما خص حادثة برجي التجارة في نيويوك!
ولقد وافقت كل العائلات على هذا الاتفاق ما عدا 94 عائلة. وفي السنوات التالية وافقت هذه العائلات المتبقية على قبول تعويضات بلغت خمسة ملايين دولار للعائلة الواحدة ما عدا عائلة وحيدة هي عائلة «بيفيس» من ماساشوستس والتي أوضحت أنها غير مهتمة بالمال بل بالحقيقة، ولكنها قبلت بتسوية مع الحكومة بعد أكثر من عشر سنوات من المفاوضات والإجراءات القانونية مقابل مبلغ لم يُعلن عنه.
بالتوازي، لماذا لا تعمد الحكومة اللبنانية مثلاً إلى عرض دفع تعويضات قيمة لذوي ضحايا المرفأ بشرط عدم رفع الدعاوى أو المقاضاة وذلك لتحاشي المزيد من الانشقاقات والتأزمات الداخلية سيما وأن عدد الضحايا لا يكاد يتجاوز المئتين رغم ارتفاع عدد الجرحى لأكثر من ستة آلاف شخص. وغني عن القول إن تسويات كهذه لا تعني بأي شكل من الأشكال إقفال التحقيق بالانفجار، بل ما تعنيه هو «تحييد» التحقيقات عن التجاذبات السياسية والمناكفات ذات البعد المذهبي والحزبي وحصرها بيد الدولة من دون استخدام الشارع كعنصر ضاغط لتوجيه التحقيق، مثلما هو متوقع أن يحصل من خلال محاولة استغلال ذوي الضحايا، حتى لو تمت تنحية القاضي البيطار عبر الأطر الدستورية القانونية التي لا لبس فيها.
لقد أصبح واضحاً لكل عاقل، أن قضية التحقيق بانفجار المرفأ قد أضحت لغماً موقوتاً قد تكون تردداته أكثر خطورة وأعمق شرخاً من انفجار النيترات ذاتها. وفيما لا ينبغي لأحد أن يماري بحقيقة معاناة أهالي الضحايا والجرحى وبضرورة كشف الحقيقة وملابسات التفجير إلا أن دقة الملف وتشعباته المتداخلة في التوازنات اللبنانية الحساسة تحتم مقاربته من منظار براغماتي ينبغي أن يراعي حقوق ذوي الضحايا والجرحى وحماية السلم الأهلي الهش، في آن.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply