محمد العزير
… وفي الأسبوع التالي للذكرى السنوية العشرين للهجمات الإرهابية على نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من أيلول عام 2001، يبدأ اليوم الأول بخبر وصورة؛ الخبر من أفغانستان، قرار حكومة طالبان، التي عادت إلى السلطة بعد أيام على الجلاء الأميركي الخائب، بمنع النساء من مزاولة أية وظيفة حكومية والبقاء في بيوتهن، مع إبقاء مهنة وحيدة لهن في العاصمة كابول وهي تنظيف المراحيض المخصصة للنساء فقط وإقفال 2,200 مستوصف وعيادة دفعة واحدة (باعتبار أن الحكيم هو الله). أما الصورة الثانية فمن مدينة دل ريو على الحدود الجنوبية لولاية تكساس حيث خيالة حرس الحدود المدججين بالسلاح يطاردون في مياه النهر الذي أعطى اسمه للمدينة الأميركية، مئات المهاجرين من دولة هايتي المنكوبة المنتظرين لتقديم طلبات لجوء إنساني إلى الولايات المتحدة. تم اعتقال العشرات على دفعات ونقلوا مخفورين إلى طائرات مدنية استأجرتها الحكومة ليعودوا مكرهين إلى بلادهم.
تكمن بين هاتين اللوحتين السورياليتين، بمقاييس القرن الواحد والعشرين، الصورة الأصلية لأميركا. صورة أميركا الإمبراطورية، الدولة الأعظم قوة وشأناً ونفوذاً في العالم لأكثر من سبعة عقود، لا أميركا الأفلام والعلوم والتكنولوجيا والاندماج والهجرة والوجبات السريعة والثقافة الشعبية. أميركا الثانية، كما ثبت بلا شك ولا عناء، قابلة للتقزّم والتقزيم والإقالة والتواري أمام حالات تكونت من شخصيات تافهة في ذاتها عظيمة في دورها، مثل دونالد ترامب ورونالد ريغان والسناتور جوزيف مكارثي وآندرو جاكسون والجنرال جورج كاستر؛ رؤساء وسياسيون وعسكريون تمكنوا، في عزّ التاريخ وليس في غفلة منه، أن يكشفوا أن أميركا الثانية قناع ملوّن لوجه كالح قام على الاستعمار والإبادة والعبودية والعنصرية والنفعية والذرائعية التي يطلق عليها اللقب الأقل فجاجة «البراغماتية».
تستدعي الموضوعية هنا، المسارعة إلى التوضيح أن الغاية من هذه المقدمة ليست إدانة الشعب الأميركي ولا إنكار الإسهام الأميركي الهائل في التطور السياسي والدستوري والقانوني عالمياً، بل تعرية النخب الأميركية النافذة دينياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً القادرة على التصالح مع تاريخها الدموي والعنصري والتسامح مع مجرمي الحرب الأهلية الذين أرادوا قتل أميركا لأن هذه النخب الأنكلوساكسونية البيضاء (البروتستانتية التي استوعبت الكاثوليك البيض)، ليست قادرة، أو على الأقل، ليست مستعدة للتنازل عن امتيازاتها العنصرية مهما كان المردود الإنساني لذلك، وليست في وارد رؤية العالم بالألوان إلا بمقدار مصلحتها في ذلك.
انفردت أميركا بقيادة دول الغرب منذ الحرب العالمية الثانية (1939–1945). ورثت تلقائياً النفوذ الأوروبي الغربي بعد تبدد الاستعمار وورثت معه السلوك «الإمبريالي» وتركات حقبة الدول القومية، وكانت قبلها أنهت –بفضل نابليون وحروبه الخرقاء– التَرِكة الإمبراطورية الإسبانية، لكن المؤثر الأكبر في سلوكها كان بريطانياً لأسباب كثيرة منها النسب التاريخي المشترك واللغة… والفراغات التي تركها تاج صاحبة الجلالة في أربع رياح الأرض. لكن الإشارات المبكرة لم تكن مطمئنة! ساندت أميركا حليف هتلر في إسبانيا الجنرال السفاح فرانسيسكو فرانكو، وتغاضت عن تسامح دول جنوب أميركا في إيواء واستقبال مجرمي الحرب الألمان والإيطاليين، وانتقت حصتها من النازيين «المفيدين» الذين منحتهم الحرية والرعاية والجنسية مقابل خبراتهم العلمية والتقنية… والأهم الحربية. لم تمض سنوات كثيرة قبل أن يصبح البطل النازي البارز، ويرنهر فون بران، بطلاً قومياً أميركياً لمساهمته في برنامج غزو الفضاء «أبولو». لم يكن بران، الذي أمرك اسمه ليصبح بروان، وحيداً، بل كان واحداً من مئات العلماء والمهندسين والأطباء والمبدعين الذين انتقتهم المخابرات الأميركية ليتفادوا ذل الاعتقال والمحاكمة على دورهم في الإبادة النازية ويتحولوا إلى نجوم في الفضاء العلمي الأميركي.
يُنسب إلى رئيس وزراء بريطانيا الشهير (والعنصري الفاشي المعروف منذ توليه وزارة المستعمرات) ونستون تشرشل قوله: «الديمقراطية أسوأ أنواع الحكم باستثناء كل أنواع الحكم الأخرى التي تم تجريبها».
لم تكن أميركا تتصرف من فراغ، كان يقابلها بعد هزيمة النازية من يساوي النازية مسلكاً ودموية ودوغمائية، الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، الذي قتل باسم الشيوعية في روسيا وتوابعها قبل الحرب العالمية الثانية الملايين من مواطنيه ومن بينهم كبار رفاقه وزملائه في المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الشيوعي، والذي تأله بعد انتصاره على ألمانيا التي تحالف معها ودعمها قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية وحتى في سنتها الأولى، والذي قرر أن يعاقب من أخضعهم من الأوروبيين خلال زحفه إلى برلين بأن يعاملهم معاملة مواطنين سوفيات. هكذا أصبح الستار الحديدي الناشئ من وسط برلين، «قميص عثمان» الأميركي لتبرير كل النوازع الإمبراطورية المتوثبة من شرق آسيا إلى غرب أفريقيا، فيما صارت القارة الأميركية الحديقة الخلفية لواشنطن.
استمرأت أميركا نفوذ الإمبراطوريات، لكنها لم تكن في وارد تسديد تكاليفها. أعلنت أنها ليست دولة استعمارية، لكنها كانت تريد النفوذ ذاته. هو الفارق بين الأب –مثلاً– وبين ذكر ترك أمرأة حبلى ولا يعنيه من الأمر سوى أنه والد مخلوق يبتز به كل من حوله. هكذا أصبح مشروع الباكستان البريطاني لتقسيم الهند أميركياً، ومشروع فصل سنغافورة عن ماليزيا، وخرائط «سايكس بيكو» الشرق أوسطية مع «وعد بلفور»، وسيادة هونغ كونغ في ساحل الصين، وديمومة المستعمرات البيضاء من جنوب افريقيا إلى زيمبابوي والكونغو وتنزانيا وكينيا من ثوابت الخارجية الأميركية. من باب العلم بالشيء استخدمت أميركا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، قبل نهاية الحرب الباردة بشكل متساوٍ لمصلحة كل من إسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أكثر من أية قضية أخرى.
في عز نشوتها الإمبريالية المستجدة، وبناءً على الكتاب البريطاني في مقارعة «الاشتراكية»، اندفعت أميركا إلى الحرب الكورية لـ«منع التمدد الشيوعي» في منطقة تبعد عنها آلاف الأميال. كانت كوريا المنهكة تماماً من الاحتلال الفاشي الياباني فريسة سهلة للجار المنتصر في الحرب العالمية، ستالين. وكانت أميركا المنتصرة أيضاً على اليابان، تعتقد أنها أحق بتركة إمبراطورية الشمس والسيطرة عليها. وهناك، بدأت رحى طواحين الحرب الباردة تدور على نهر دماء الآسيويين الذين لم يصحوا بعد من أهوال تلك الحقبة. كان في مقدور أميركا يومها، وهي لم تزل تحفظ شعرة معاوية مع ستالين أن تنهي المسألة بلا قطرة دم. لكنها بعد حوالي ستين ألف قتيل من قواتها ومئات آلاف القتلى الكوريين ودمار شبه شامل، ارتضت بتقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين؛ شمالية ستالينية، وجنوبية «براغماتية».
لم تكد حرب كوريا تضع أوزارها عام 1953، حتى ابتدع «المجمع الصناعي العسكري» –الذي كان أول من تحدث عنه وحذر منه الرئيس والجنرال الشهير دوايت أيزنهاور– حرباً جديدة لوراثة التركة الفرنسية في غرب المحيط الهادئ، وهي حرب فيتنام التي لم تكن نتيجتها «التعادل» كما حصل في كوريا.
كان على أميركا أن تواجه أول هزيمة عسكرية في تاريخها كله.
تعلم الفيتناميون والروس والصينيون أيضاً، دروساً مفيدة من الحرب الكورية. فكانت الدولتان الشيوعيتان مستعدتين لقتال أميركا حتى آخر فيتنامي، أما أميركا فكانت تريد التمتع بخيراتها وثرواتها وامتيازاتها المحققة في حربين عالميتين، فانقلب الشعور الوطني الهلامي في الخمسينيات إلى سعي لتحسين جودة الحياة ورفاهية المعيشة. لم يكن لدى العائلات المتوسطة الدخل، لا الرغبة ولا الاحتياط من أبنائها لتقديمهم على مذبح الإمبراطورية الجديدة، فكانت الهزيمة نتيجة منطقية لسياسة حمقاء…
Leave a Reply