كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لم يكن كلام رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» السيد هاشم صفي الدين، عن الحرب المفتوحة مع أميركا في لبنان، بالموقف العادي الذي مرّ مرور الكرام، بل جرى التوقف عنده مطولاً، من قبل أطراف سياسية وحزبية، إضافة إلى السفارة الأميركية في بيروت، وصولاً إلى واشنطن، إذ حدّد صفي الدين بوضوح، ساحة المعركة، وهي في المؤسسات الرسمية للدولة اللبنانية، من الإدارة والمال إلى الأمن والجيش، في الوقت الذي يضع فيه الأميركيون ومن معهم، كل رهاناتهم السياسية على الانتخابات النيابية المقبلة التي تريدها واشنطن وحلفاؤها نقطة تحول لقلب التوازنات السياسية في لبنان إلى المحور المناوئ للمقاومة، وذلك تحت شعار منع «حزب الله» من السيطرة على البلاد.
حرب الثمانينيات
الصراع بين «حزب الله» والولايات المتحدة، التي وصفها قائد الثورة الإسلامية في إيران، الإمام الخميني، بـ«الشيطان الأكبر»، يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان أول ما قام به الإيرانيون بعد الثورة هو إقفال السفارة الإسرائيلية في طهران، وإقامة سفارة فلسطين، كما قام الحرس الثوري بمحاصرة السفارة الأميركية واقتحامها قبل أن تنشب الحرب العراقية–الإيرانية، ويقع الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في صيف 1982.
حينها، كان الحرس الثوري، قد بدأ بالتمدّد تحت شعار «تصدير الثورة»، وكان لبنان إحدى الساحات التي دخلها قادة من الحرس الإيراني وباشروا بإنشاء «حزب الله» الذي تكون في بدايته من عناصر منشقين عن حركة «أمل» تحت مسمى حركة «أمل الإسلامية» التي كان من رموزها مصطفى الديراني ويحيى زكريا وعلي الحسيني، بالإضافة إلى عناصر سابقين في حركة «فتح» و«حزب الدعوة» وأحزاب وطنية وقومية، جذبهم سلوك «حزب الله» على جبهات المقاومة التي كانت تخوضها الأحزاب، مثل «السوري القومي الاجتماعي» والشيوعي و«أمل». وكان لحضور مدربين ومستشارين من إيران، لتنظيم «حزب الله» وتجهيزه وتدريب كوادره الأثر الكبير في قوة التنظيم الجديد الذي كان أول ظهور له –قبل أن يعلن عن اسمه الرسمي الحالي– في العام 1984.
في ذلك العام، أطلق الحزب عملياته وبرنامجه في بيان أذاعه السيد إبراهيم أمين السيد، معلناً عن عمليات عسكرية نفّذت ضد العدو الصهيوني، بتدمير مقر عسكري له في صور، في عملية استشهادية.
وقبل ذلك تردد بأن الحزب قبل تأسيسه رسمياً كان المسؤول أيضاً عن عملية تفجير السفارة الأميركية في بيروت عام 1983، ثم مقر قوات «المارينز» (البحرية الأميركية)، ومقر الجنود والضباط الفرنسيين، حيث قتل في التفجيرات مئات الأشخاص من العسكريين والموظفين المدنيين.
وعلى أثر ذلك، بدأت المعركة بين «حزب الله» والوجود العسكري والدبلوماسي الأميركي، حيث جرت عمليات خطف لدبلوماسيين وإعلاميين ومواطنين أميركيين، ما رفع من حدة المواجهة بين الطرفين، رغم الانسحاب العسكري الأميركي من لبنان وسقوط «اتفاق 17 أيار» الذي حاول تمريره الرئيس أمين الجميّل لتوقيع اتفاقية سلام مع دولة الاحتلال وتراجع النفوذ الأميركي لصالح سوريا وحلفائها الذين فرضوا انسحابات متتالية على الجيش الإسرائيلي الذي قيل إنه لا يقهر.
الصراع على لبنان
بعد التسليم الأميركي بالدور السوري، وتحسن علاقة واشنطن بدمشق بسبب موقفها الداعم لتحرير الكويت من الغزو العراقي، تسلمت سوريا الوصاية على لبنان تحت شعار تطبيق اتفاق الطائف، عرفت البلاد استقراراً أمنياً وسياسياً وتحسناً مالياً واقتصادياً، دون أن تتخلّى سوريا ومعها لبنان الرسمي عن دعم المقاومة التي استمرت بتشكيل نقطة خلاف أساسية مع الإدارات الأميركية المتعاقبة، حتى قررت واشنطن وباريس إخراج سوريا من لبنان عبر القرار 1559، الذي حرص أيضاً على نزع سلاح «حزب الله» وإسقاط نفوذ دمشق السياسي في لبنان بحجة رفض التمديد للرئيس إميل لحود.
وكان الصدام السوري–الأميركي قد بدأ يشتد مع غزو القوات الأميركية للعراق عام 2003 ووقوف سوريا ضد الاحتلال، حتى بلغ الأمر ذروته مع اغتيال رفيق الحريري عام 2005 وإطلاق «ثورة الأرز» التي قابلتها دمشق بانسحاب سريع من لبنان لإحباط نوايا الرئيس جورج بوش الابن العدوانية، لاسيما وأنه كان قد بدأ العمل على تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، الذي سرعان ما أفشل بعد هزيمة إسرائيل في حرب 2006.
بعد صمود المقاومة وانتصارها، اختلّ التوازن الداخلي لصالح «حزب الله» وحلفائه، خاصة بعد عملية 7 أيار الأمنية عام 2008 لمواجهة قرار حكومة فؤاد السنيورة المتحالفة مع واشنطن بتفكيك شبكة اتصالات «حزب الله». وترسخت التوازنات السياسية الجديدة في لبنان عبر اتفاق الدوحة، ثمّ عودة العلاقات السورية–السعودية، التي صبت لصالح سوريا وحلفائها في لبنان على حساب واشنطن وحلفائها، لكن الصراع السوري–الأميركي سرعان ما عاد إلى المواجهة المفتوحة مع اندلاع ما سمّي بـ«الربيع العربي» برعاية أميركية متوافقة مع «الإخوان المسلمين».
وفي ما كان الرئيس باراك أوباما يتوقع سقوط دمشق في غضون أسابيع قليلة، ساندت إيران حليفتها في أحلك الاوقات، وظهر ذلك جلياً في لبنان بعد تدخل «حزب الله» للقتال إلى جانب الجيش العربي السوري ضد الجماعات المسلحة المدعومة من الغرب وتركيا وبعض دول الخليج، في حين كان حلفاء واشنطن في لبنان يمنون أنفسهم بسقوط الرئيس بشار الأسد الذي ظل صامداً لينعكس ذلك إيجاباً على محور المقاومة الممتد من لبنان إلى إيران.
وقد تجلى ذلك بفوز حلفاء المقاومة بأغلبية مقاعد البرلمان اللبناني وبوصول الجنرال ميشال عون إلى سدة الرئاسة.
ومنذ ذلك الحين لم تنفع محاولات واشنطن والتيار المعادي للمقاومة بتغيير التوازنات السياسية القائمة سواء عبر فرض انتخابات نيابية مبكرة أو دفع رئيس الجمهورية إلى الاستقالة رغم محاولات تسييس الحراك الشعبي تحت مسمى «ثورة 17 تشرين»، في مسعى جديد لمحاصرة «حزب الله».
لكن الحراك لم يلق تفاعلاً حقيقياً في الشارع لتبدأ على أثر ذلك مرحلة التضييق الاقتصادي المستمرة والتي أوصلت البلاد إلى حافة الانهيار الشامل، بينما انصرفت مجموعات ما يسمى بـ«المجتمع المدني»، إلى معركة الانتخابات النيابية القادمة التي يصر الغرب على إجرائها في موعدها لتقريش الأزمة الراهنة في صناديق الاقتراع لقلب التوازنات السياسية وإخراج «حزب الله» وحلفائه من السلطة.
المقاومة أم البحبوحة؟
الصدام في لبنان بين محور المقاومة والمحور الأميركي الداعم لإسرائيل دخل مرحلة جديدة مع الحصار الاقتصادي غير المعلن على بلاد الأرز، وهو ما دفع أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، إلى الإعلان عن ضرورة التوجّه شرقاً للتحرر من الهيمنة الأميركية على القرار اللبناني، بسلطة العقوبات وتصنيف «حزب الله» كمنظمة «إرهابية» ووضع قياداته على لوائح الإرهاب فضلاً عن اتهام حلفاء المقاومة بالفساد والإرهاب، كما دخلت واشنطن على القطاع المصرفي، وأوقفت مصارف عن العمل، تحت ذريعة تمويل «حزب الله»، ثم ساندت خطط إفقار اللبنانيين لإخضاعهم، من خلال دعم سياسات مالية واقتصادية أوصلت البلاد إلى الإفلاس والمديوينية.
لكن الشعب اللبناني، لن يجوع، كما تعهد نصرالله، الذي توجّه إلى إيران وسوريا لاستيراد المحروقات والدواء والمواد الغذائية لإحباط مخطط الإذلال الأميركي. إذ يعتبر الحزب بأن أميركا تريد النيل من لبنان مالياً واقتصادياً واجتماعياً، بعد فشلها في إخضاعه عسكرياً، وجره إلى الاستسلام لإسرائيل، وهو ما دفع السيد صفي الدين، إلى التحدث عن أن المعركة الآن، هي معركة تحرير لبنان من هيمنة واشنطن على قراره الداخلي، من خلال إخراج النفوذ الأميركي من المؤسسات الرسمية، التي تعمل بما يمليه عليها القانون في واشنطن. وقد تبدّى ذلك في أزمة الوقود التي أجبرت الإدارة الأميركية على تحييد لبنان من «قانون قيصر» (العقوبات على سوريا) للسماح باستجرار الكهرباء من الأردن والغاز من مصر عبر سوريا، بهدف قطع الطريق على بواخر المحروقات الإيرانية المستمرة بالتوجه إلى ميناء بانياس.
في منظور «حزب الله»، نجحت أميركا وحلفاؤها في تأزيم الوضع المالي وإفقار المواطن اللبناني عبر نسف قدرته الشرائية من خلال تدهور سعر صرف الليرة المفتعل أصلاً. وقد تحقق ذلك بكل سهولة لا لشيء سوى لأن قرار مصرف لبنان المركزي مرتهن للإدارة الأميركية، تماماً كما كان القرار السياسي في معظم الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف إلى اليوم.
لقد بات واضحاً أن اجتثاث القرار الأميركي من مؤسسات الدولة –أو على الأقل تحجيمه– هو هدف «حزب الله» خلال الأشهر القليلة القادمة التي تفصلنا عن الاستحقاق الانتخابي المفصلي، وسط أزمة اقتصادية خانقة يرى البعض أنها مفتعلة من قبل واشنطن وحلفائها لتخيير اللبنانيين بين «البحبوحة» وبين المقاومة.
Leave a Reply