محاولة لجرّ «حزب الله» إلى الاقتتال الداخلي .. وتحقيق مكاسب انتخابية تحت عنوان حماية أمن المجتمع المسيحي
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
إن التطورات الأمنية الخطيرة التي وقعت في منطقة الطيونة الفاصلة بين عين الرمانة وفرن الشباك والشياح، على تخوم العاصمة بيروت والتي أدت إلى مقتل سبعة أشخاص وإصابة أكثر من عشرين آخرين، أعادت إلى أذهان اللبنانيين شبح الحرب الأهلية ومشروع «القوات اللبنانية» القديم–المتجدد بإنشاء «كانتون مسيحي» في لبنان، والذي كان قد سعى إلى تحقيقه بشير الجميّل عندما أسس «القوات» في العام 1980 من رحم الأحزاب المسيحية اليمينية كـ«الكتائب» و«الوطنيين الأحرار» و«حراس الأرز» و«التنظيم»، الذين جمعهم بقوة السلاح وسفك الدماء، تحت شعار «توحيد البندقية المسيحية»، والدفاع عن «أمن المجتمع المسيحي» واضعاً حدود «الدويلة» الموعودة من جسر كفرشيما في قضاء بعبدا جنوباً إلى جسر المدفون، عند الحدود الفاصلة بين محافظتي جبل لبنان والشمال.
مشروع «القوات»
يبدو أن «القوات اللبنانية»، المدعومة هذه الأيام من المملكة العربية السعودية، لم تتراجع عن مشروعها التقسيمي، الذي نشأت على أساسه عام 1975، والذي تعود إليه كلما فشلت سياسياً أو أمنياً باستغلال شعار«10,452 كلم2»، الذي ترفعه من حين إلى آخر بهدف الوصول إلى السلطة، مثلما فعل بشير الجميّل أثناء الاجتياح الإسرائيلي الذي أوصله إلى رئاسة الجمهورية في 14 آب 1982.
كان بشير من أكثر الرافضين لما سمي «ميثاق 1943»، وصيغة العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين، التي توافق عليها الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح، في تسوية الاستقلال التي تمت برعاية بريطانية. إذ أن مؤسس «القوات اللبنانية»، كان يرى لبنان «فدرالياً»، وأن ضمّ الأقضية إلى جبل لبنان، وإنشاء «دولة لبنان الكبير» عام 1920، لم يصب في نهاية المطاف لصالح المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، كما أراده الفرنسيون والبطريرك بطرس الحويك.
بل لم يتردد الجميّل الابن في مهاجمة والده بيار الجميّل –مؤسس حزب «الكتائب» وأحد رجالات الاستقلال– في إطار هجومه على صيغة العيش المشترك، التي اعتبرها غير مفيدة للبنان، لأن المسلمين فيه لم يكونوا مؤمنين بالكيان اللبناني بل كانوا يعتبرونه جزءاً من سوريا والمحيط العربي الأوسع.
ومن هذا المنطلق بدأت النزعة الانعزالية والتقسيمية لدى اليمين المسيحي الموالي للغرب وسط اختلاف اللبنانيين حول هوية لبنان وموقعه الجيوسياسي، وهذا بالتحديد ما هو حاصل اليوم من خلال صراع المحاور على لبنان، فعادت بعض القوى المسيحية إلى طرح مشروعها الفدرالي للبنان تحت عنوان حماية أمن ومصالح «المجتمع المسيحي»، مثل سامي الجميّل الذي أنشأ تنظيم «لبناننا» قبل أن يترأس «الكتائب» خلفاً لأبيه. و«لبناننا»، هي اختصار لرؤية تقسيم لبنان على أساس طائفي وفق مقولة «لكم لبنانكم ولنا لبناننا»، والتي روّج لها اليمين المسيحي أثناء الحرب الأهلية، ونظّر لها مفكرون مسيحيون في «جامعة الكسليك» من خلال مطالبتهم بالعودة إلى صيغة «لبنان الصغير»، أي قبل ضم أقضية الشمال والبقاع والجنوب وبيروت إليه، قبل أكثر من مئة عام.
سقوط التقسيم
تأسست «القوات اللبنانية» كميليشيا مسيحية في عام 1976 لتكون ميليشيا «الجبهة اللبنانية»، وهي تحالف من عدة أحزاب مسيحية يمينية، هيمن عليه «حزب الكتائب» خلال الحرب الأهلية.
غير أن مشروع التقسيم الذي رفعته «القوات» منذ ولادتها، لم يجلب للبنان، سوى الحروب والدمار وعمليات التهجير والفرز الديمغرافي على أساس طائفي، وهو المشروع الذي تبنته استراتيجياً «الجبهة اللبنانية» التي ضمت حزبي «الكتائب» و«الأحرار» والأب شربل القسيس كمندوب عن «جامعة الكسليك»، فيما انفك عنها الرئيس الأسبق سليمان فرنجية لرفضه للتقسيم، فكان الثأر منه عبر مجزرة إهدن وقتل ابنه طوني وعائلته مع مواطنين آخرين، في حزيران 1978.
لكن فرنجية الذي أصر على رفضه للتعاون مع العدو الإسرائيلي –على عكس «الكتائب» و«القوات»– نجح في إحباط مشروع التقسيم من خلال شعبيته الجارفة بين مسيحيي الشمال، مما حصر أنصار «القوات» في بقع جغرافية محدودة، وفتح مناطق الشمال على بعضها البعض مسقطاً خطوط التّماس الوهمية التي أرادها الجميل لدويلته المسيحية، فكانت هذه أولى الضربات القاصمة لمشروع التقسيم.
كذلك، فشل مشروع «القوات» في التمدد نحو البقاع من خلال ضم قرى وبلدات مسيحية مثل دير الأحمر وشليفا، كما جوبه القواتيون في زحلة التي فشلوا بربطها بجبل لبنان عبر طريق ترشيش من خلال محاولة السيطرة على جبال الزعرور و«الغرفة الفرنسية» في أعالي صنين.
كل ذلك أدى إلى تفكك أوصال «الدويلة الموعودة» فتحول الوجود المسيحي في الأطراف إلى عبء على المشروع «القواتي» الذي فشل في ربط المناطق المسيحية بجبل لبنان، سواء في الشمال أو في جزين جنوباً، أو حتى في الجبل نفسه بعدما عجزت «القوات» عن بسط سيطرتها على المتن والشوف وعاليه.
الاستقواء بإسرائيل
عندما اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان في العام 1982، دخلت «القوات اللبنانية» معه إلى المناطق المحتلة، وارتكبت المجازر فيها لبسط سيطرتها والانتقام لهزائمها السابقة. لكن مع اندحار إسرائيل تدريجياً عن الأراضي اللبنانية كان جيش الاحتلال يترك «القواتيين» وغيرهم ممن راهنوا عليه ليواجهوا مصيرهم بأنفسهم، تماماً كما حصل في شرق صيدا ودير القمر التي لجأ إليها سمير جعجع مع قواته، وخرج منها بتسوية، بينما كان الحكم «الكتائبي» برئاسة أمين الجميّل قد بدأ يترنح وصولاً إلى سقوط سلطته في بيروت الغربية عقب انتفاضة 6 شباط 1984، التي أسقطت «اتفاق 17 أيار» بين الجميل وإسرائيل.
في ذلك الوقت اضطرت «القوات اللبنانية» إلى الخروج من المناطق التي انسحب منها الإسرائيليون بفعل عمليات المقاومة الوطنية والإسلامية.
ولعل ما قلب الطاولة في وجه إسرائيل و«القوات اللبنانية» حينها، هو عدم توقعهما لظهور مقاومة وطنية بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. إذ ولدت المقاومة بوجه الاحتلال منذ بدء الاجتياح الصهيوني في صيف 1982. وراحت عمليات المقاومة تتزايد في أكثر من منطقة، وشملت اغتيال بشير الجميل، مؤسس القوات بعد ثلاثة أسابيع من انتخابه، حتى أصبحت المقاومة قوة حقيقية بوجه العدو وعملائه في الداخل الذين ظنوا أن لبنان سيسقط في أيديهم بمجرد خروج قادة منظمة التحرير من مرفأ بيروت، غير أنهم لم يضعوا في حسبانهم أن مقاومة متعددة الأطياف سوف تولد وتقف بوجه مخططاتهم، وبأن سوريا ستكون عمق هذه المقاومة، التي تبنتها لاحقاً إيران ودعمتها عبر «حزب الله».
بعد اغتيال الجميل في سبتمبر 1982، خلفه في قيادة ميليشيا «القوات اللبنانية» كل من فادي أفرام وفؤاد أبو نادر، ثم إيلي حبيقة الذي أقدم على خطوة تناقض الأسس التي أنشئت عليها «القوات» بمحاولته التقرب من المسلمين وسوريا. فأمام انقلاب الموازين العسكرية والسياسية في أواسط الثمانينيات حاول رئيس «القوات اللبنانية» حينها، إيلي حبيقة، تعديل موقف الميليشيا بالانفتاح على دمشق والخروج من عباءة إسرائيل التي تركت المسيحيين لملاقاة مصيرهم. وظنّ حبيقة أن بإمكانه تغيير موقف «القوات» تجاه سوريا، لاسيما وأن الرئيس أمين الجميّل نفسه كان شبه مقيم في دمشق، التي زارها حبيقة واتّفق مع قيادتها على توقيع اتفاق ثلاثي مع حركة «أمل» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» لإنهاء الحرب والتأسيس للسلم الأهلي، لكن جعجع انقلب عليه، وانتزع قيادة «القوات» منه بمساندة الجميّل مطلع عام 1986.
وتمّ طرد حبيقة من المنطقة الشرقية، لتعيد ميليشيا «القوات» خطاب التقسيم الطائفي إلى الواجهة مجدداً تحت قيادة جعجع الذي سرعان ما اصطدم بالعماد ميشال عون فيما عرف بـ«حرب الإلغاء».
وبينما نفي عون إلى فرنسا بسبب رفضه للوجود العسكري السوري في لبنان ورفضه لاتفاق الطائف الذي أنهى الحرب اللبنانية برعاية أميركية–سعودية–سورية، كان جعجع من أكبر المتحمسين للاتفاق ظناً منه بأنه سيحصل من خلاله على حصة المسيحيين في الحكم. لكنه سرعان ما انقلب على الطائف بعد تعيينه في منصب وزير دولة وعدم الاعتراف به كأقوى ممثل للمسيحيين. فقرر مقاطعة الانتخابات، وحاول مجدداً الإمساك بالساحة المسيحية لفرض نفسه زعيماً عليها، سواء عبر عمليات أمنية أو مواقف سياسية تحت شعار «الإحباط المسيحي» إلى أن وقعت حادثة تفجير كنيسة «سيدة النجاة» في جونيه، التي فتحت على أثرها ملفات جعجع الدموية خلال الحرب مما أدى إلى اعتقاله في نيسان 1994 ثم إدانته لاحقاً باغتيال الرئيس رشيد كرامي عام 1987 واغتيال داني شمعون رئيس «حزب الوطنيين الأحرار» مع زوجته وولديه.
لكن جعجع الذي ظل مسجوناً في وزارة الدفاع طوال فترة الوصاية السورية، تنشق هواء الحرية مجدداً عام 2005 بموجب قانون عفو صدر عن مجلس النواب في أعقاب الانسحاب السوري على خلفية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فعاد زعيم «القوات» إلى الساحة السياسية في إطار تحالف «14 آذار» الذي كان مدعوماً من الغرب.
انتظار اللحظة
بعد خروج جعجع من السجن، وانخراط حزبه في السلطة، بدأ يتطلّع إلى اللحظة التي تمكّنه من أن يكون رئيساً للجمهورية، فكان رهانه الأول على وصول قوى «14 آذار» إلى الحكم من خلال تحقيق الأكثرية النيابية في انتخابات 2005. وقد حاول حينها أن يشن حملة ضغوط على الرئيس لحود لدفعه إلى الاستقالة والحلول مكانه بأصوات نواب «14 آذار»، لكن جهوده باءت بالفشل، لاسيما بعد هزيمة إسرائيل في حرب تموز 2006، وبدء انحسار «ثورة الأرز» بعد أحداث 7 أيار 2008 والمصالحة السورية–السعودية.
وخابت طموحات جعجع الرئاسية مرة أخرى بعد فشل ما سمي بـ«الربيع العربي» في الإطاحة بالرئيس بشار الأسد ونظامه في سوريا، حيث رفع رئيس حزب «القوات» شعار «فليحكم الإخوان» لعل ذلك يوصله إلى الحكم، لكن مشروع «الإخوان المسلمين» سرعان ما تراجع أمام صمود دمشق وعدم قدرته على الحكم في تونس ومصر…
وأفرزت تلك المرحلة، هزائم سياسية وعسكرية متتالية للمشروع الذي راهن عليه جعجع وانعكس ذلك على لبنان بانتخاب عون رئيساً وبحصول حلفاء محور المقاومة على الأكثرية النيابية في انتخابات 2018.
غير أن طموحات جعجع الرئاسية لم تتوقف، وقد وجد الفرصة سانحة لمحاولة جديدة لفرض سطوته على الشارع المسيحي في ظل الخناق الاقتصادي المفروض على عهد الرئيس عون بسبب تحالفه مع المقاومة.
لكن هذه المرة يستند رئيس «القوات اللبنانية» إلى دعم غير مسبوق من الرياض، التي جعلته رجل السعودية الأول في لبنان بدلاً من سعد الحريري الذي كان بمثابة وكيل المملكة الأوحد قبل انتقال العرش إلى الملك سلمان وابنه.
لهذا، سيبذل جعجع كل ما بوسعه لاستغلال الظروف الراهنة لصالحه ليس فقط من خلال الفوز بالانتخابات النيابية القادمة في آذار (مارس) 2022، والتفوق على التيار العوني ليصبح الأقوى مسيحياً، بل أيضاً من خلال إظهار قوته العسكرية إرضاء لجهات خارجية حتى لو كلفه ذلك مجازر دموية، مثلما حدث في الطيونة قبل أيام.
فقد أراد رئيس «القوات» جعل الطيونة ساحة اختبار ومنصة لرسائل محلية وخارجية. فمن جهة، هو أراد تبنّي مجزرة «ميني 7 أيار» دون أن يعلن ذلك صراحةً وذلك لتقديم نفسه كحامي حمى المسيحيين في لبنان دون أن يتحمل تبعات المجزرة بشكل مباشر.
أما خارجياً، فقدم جعجع عبر دماء شهداء الطيونة، أوراق اعتماده بأنه الوحيد القادر على جر سلاح المقاومة إلى اقتتال داخلي. ولولا تدارك الأمر من قيادة «حزب الله» وحركة «أمل» بالسيطرة على أنصارهما، وتدخل رئيس الجمهورية لكبح مسلحي «القوات»، لكانت رسائل جعجع قد أشعلت حرباً أهلية جديدة بعد سقوط سبعة قتلى وعشرات الجرحى برصاص القناصين. وقد سارع الرئيس عون إلى الاتصال بجعجع محذراً إياه من تهديد السلم الأهلي، كما اتصل بقائد الجيش وطلب منه الحسم الفوري بملاحقة مسلحي «القوات» واعتقالهم، رغم زعم جعجع بأن لا علاقة لعناصر حزبه بالأحداث وأن من قاموا بعمليات القنص هم من أهالي المنطقة التي كان يعبرها المتظاهرون المتجهون من الضاحية الجنوبية نحو قصر العدل للاحتجاج على تسييس التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت،
وقد أبلغ رئيس الجمهورية قائد الجيش العماد جوزف عون، بأن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تحمي السلم الأهلي، فلبّى قائد الجيش توجيهات الرئيس الذي اتّصل أيضاً برئيس مجلس النواب نبيه برّي والأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، وطالبهما بالتهدئة. وبينما حرص جعجع على استغلال أحداث الطيونة للظهور بموقع المدافع عن المناطق المسيحية، والتعبئة ضد «حزب الله»، أكّد السيد نصرالله بأن رئيس «القوات» يعمل لصالح أجندة الأميركيين والسعوديين دون التفات للسلم الأهلي والتعايش الإسلامي المسيحي في لبنان.
وكشف نصرالله عن مساع أميركية–سعودية لتركيب تحالف يضم جنبلاط وجعجع لكن رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» رفض المضي في مسار الانزلاق إلى حرب أهلية، في حين اندفع جعجع في هذا الطريق لحسابات انتخابية، من خلال «شد العصب» المسيحي نحو حزبه، بدلاً من «التيار الوطني الحر» المتفاهم مع «حزب الله». وفي هذا الصدد، يقول رئيس التيار، جبران باسيل، بأن «تفاهم مار مخايل» حمى السلم الأهلي، وألغى خطوط التماس التي يحاول جعجع إعادتها للتغذي على حرب أهلية جديدة.
أما نصرالله الذي استبعد حدوث حرب أهلية، فنصح جعجع بإعادة حساباته كاشفاً له بأن «حزب الله» لديه مئة ألف مقاتل مستعدون لمنع الحرب. غير أن أخطر ما شهدته أحداث الطيونة، هو أن هناك مَن حاول، زجّ الجيش بمواجهة «حزب الله» وحركة «أمل» عبر توزيع شريط مصوّر، يظهر أحد العسكريين وهو يقوم بإطلاق النار على متظاهرين عزّل. لكن تمّ تطويق الموضوع، بترك المسألة للتحقيق الذي يتولاه الجيش، والمطالبة بالاقتصاص من القتلة عبر القضاء.
في المحصلة يمكن القول إن لبنان مرّ بقطوع أمني خطير بتجاوز «لغم الطيونة»، لكن من يضمن عدم تكرار حوادث القتل الطائفي التي قد تودي بالبلاد إلى اقتتال داخلي؟
Leave a Reply