وليد مرمر – لندن
يوم الأربعاء الماضي، استدعت وزارة الخارجية السعودية، السفير اللبناني لدى الرياض فوزي كبارة لأمر عاجل. لم يكن هذا الأمر من أجل تقديم مساعدة مادية أو حتى معنوية للحكومة اللبنانية في خضم مشاكلها المتلاحقة، أو لتنسيق الجهود من أجل مساعدة لبنان للخروج من أزماته الوجودية التي يعاني منها منذ أكثر من سنتين، بل وبوقاحة تجاوزت كل الحدود كان سبب هذا الاستدعاء من أجل تقديم مذكرة احتجاج رسمية على تصريحات كان قد أدلى بها وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي، قبل نحو شهر من توليه حقيبة وزارة الإعلام!
لقد قامت دول خليجية أخرى بنفس الخطوة كما وندد مجلس التعاون الخليجي بكلام قرداحي.
فما هي هذه التصريحات التي أثارت زوبعة في فنجان العلاقات اللبنانية الخليجية، والتي أقامت الدنيا ولم تقعدها بعد؟
هو موقف أدلى به قرداحي خلال استضافته في برنامج «برلمان شعب» بأن «الحوثيين في اليمن يدافعون عن أنفسهم أمام عدوان خارجي وهذه الحرب عبثية ويجب أن تتوقف».
في ظروف عادية، كان هذا التصريح ليُعتبر عادياً ويندرج ضمن خانة حرية التعبير، ولكان مر مرور الكرام، ذلك أن كل الشرائع تضمن لأي شخص مساحته الخاصة التي لا يُساوَم عليها في التفكير والتعبير وتحليل الأحداث من منظوره الخاص. ولكن آل سعود وعلى رأسهم ولي العهد محمد بن سلمان ما فتئوا يذكروننا المرة تلو الأخرى أننا نعيش في زمن سياسة القطيع وكم الأفواه ومحاكم التفتيش حيث لا مكان للرأي الآخر وحيث على الجميع أن يرتدوا «يونيفورم» موحداً وإلا فأنت تطبل للمشروع الإيراني وتمزق الوحدة العربية!
في الواقع، إن القاصي والداني يعرفان أن اليمن يمر بأسوأ كارثه عرفتها أي دولة في العصر الحديث بسبب العدوان المستمر الذي يشنه «التحالف العربي» على الشعب اليمني وحصاره المتواصل براً وبحراً وجواً وسط تفشي الأوبئة والمجاعة.
ورغم كل هذه الحقائق التي تؤكدها الأمم المتحدة، يقتضي الفرمان السعودي الصادر من الباب العالي في الرياض بعدم السماح لأحد بانتقاد هذه الحرب الشعواء أو يطالب بإيقافها لئلا يُوصم بالعمالة لـ«دولة المجوس» وبأنه يحلق خارج السرب العربي! كما لو أن اليمن ليست أصل العروبة ومنبتها؟ وكما لو أن العروبة تتمثل حصراً بآل سعود ومن يدور في فلكهم ويأكل من فتات موائدهم! ثم ألم تنتقد كبرى المنظمات الإنسانية العالمية كمنظمة العفو الدولية وهيومان رايتس واتش وغيرها العدوان والحصار والتجويع؟ فلماذا يُحرم على أي عربي المجاهرة برفض هذه الحرب العبثية وإلا يُصار إلى اتهامه بالعمالة والارتهان لإيران؟ ولنفرض أن تصريح قرداحي كان غير موضوعي وفيه محاباة لفريق على حساب آخر، فما الضير من ذلك إذا كان الكلام قد صدر قبل تسلم صاحبه لأية مسؤولية عامة؟
ثم ألا يدعي ابن سلمان وأذنابه ليلاً ونهاراً أن حكومة نجيب ميقاتي هي حكومة «حزب الله»؟ فما العجب إذن من تصريح أحد الوزراء بموقف مشابه لموقف «حزب الله» من حرب اليمن؟ أم أن التذرع بهكذا ادعاء ليس إلا من قبيل ذر الرماد في العيون ولأجل الابتزاز السياسي؟
ردود فعل
لم تكن ردود الفعل الرسمية السعودية والخليجية على تصريح قرداحي، أسوأ ما في المشهد العام، بل جاء الموقف المتذلل لرئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي ليدل على مدى المهانة التي وصمت موقع رئاسة الوزراء في لبنان على يد السعوديين خاصة بعد احتجاز سعد الحريري وإجباره على الاستقالة قبل سنتين تقريباً، كما يدل على لسان حال المملكة في علاقتها مع لبنان، والذي فحواه: أنا ربكم الأعلى!
فعلى مر السنوات كان موقع الحكومة أعمى العين والبصيرة عن مجازر اليمن وآثار العدوان المدمرة، ولكن ما أن يقوم أنصار الله بقصف أراضي السعودية، حتى يبدأ الصياح على قنوات الفتنة العاملة على مدار الساعة، حول ضرورة «التضامن العربي» ولو على حساب دماء الأطفال والأبرياء في صنعاء والحديدة وغيرهما من المدن اليمنية الصامدة!
وعوض أن يلتفت ميقاتي إلى الأزمات الداخلية المتراكمة والنظر إلى أسباب عدم اجتماع حكومته، أو على الأقل أن يبدي بعض الاحترام لحرية رأي أحد الوزراء قبل توليه سدة المسؤولية، قرر رئيس الوزراء إتحافنا بتصريحه التالي: «أما في شأن كلام وزير الإعلام جورج قرداحي الذي يجري تداوله والذي يندرج ضمن مقابلة أجريت معه قبل توليه منصبه الوزاري بأسابيع عدة فهو كلام مرفوض ولا يعبر عن موقف الحكومة إطلاقاً وبخاصة في ما يتعلق بالمسألة اليمنية وعلاقات لبنان مع أشقائه العرب وتحديداً الأشقاء في المملكة العربية السعودية وسائر دول مجلس التعاون الخليجي، إن رئيس الحكومة والحكومة حريصون على نسج أفضل العلاقات مع المملكة السعودية ويدينون أي تدخل في شؤونها الداخلية من أي جهة أو طرف أتى، فاقتضى التوضيح».
وليت ميقاتي كان قد وفر على نفسه الدفاع عن جرائم آل سعود وقام بالشيء الصحيح وهو شجب القرار السعودي الذي صدر يوم الخميس الماضي في الرياض والذي يصنف مؤسسة «القرض الحسن» اللبنانية منظمة إرهابية!
فلقد قامت «مملكة الخير» بتصنيف المؤسسة المالية شبه المصرفية الوحيدة في لبنان التي لم تستول على أصول وودائع زبائنها، كمنظمة إرهابية! ولكن ميقاتي لم يرَ أن هذا الأمر يستحق حتى الذكر ولم يعتبره تدخلاً سافراً في الشأن اللبناني!
والمعلوم، أن مملكة آل سعود قد قطعت كل صلة معلنة بالحكومة اللبنانية، ولم يهنئ سفيرها وليد بخاري، ميقاتي بترؤس الحكومة، كما رفضت المملكة حتى الآن استقباله. لذا يبدو جلياً أن ميقاتي ومن لفّ لفّه من أدعياء السيادة في لبنان «ينبحون تحت الشجرة الخطأ» كما يقول المثل الإنكليزي. فإن كان التذلل والتسول أمرين لا بد منهما، كان أولى التسول من طرف قد يقبل مدّ يد المساعدة، كالعراق وإيران وسوريا وصولاً إلى الصين!
في هذا الإطار، جاء تعليق النائب السابق، إميل لحود، على تصريح ميقاتي والجلبة المثارة حوله فقال في بيان: «إن ردة الفعل الخليجية على هذا الكلام كانت متوقعة إلا أن المستغرب هو المزايدة للبنانية خصوصاً على الصعيد الرسمي، فهل الدول التي شعرت بالإساءة بسبب كلام الوزير قرداحي وقفت إلى جانب اللبنانيين في السنتين الأخيرتين، أم هي عاقبتهم جميعاً، بمن فيهم من يصنّفون في خانة أصدقائها، بسبب عدائهم مع فئة منهم؟ فلعله من المفيد التذكير بالمساعدات الآتية من العراق وبالموقف السوري في موضوع استجرار الطاقة وبالمازوت القادم من إيران وبمبادرات صينية وروسية، بدل التزلف لدول تخلت عن لبنان». وتابع لحود: «نحن نملك جرأة الإعلان عن أن موقف الوزير قرداحي ينسجم مع موقفنا، كما نملك الشفافية للقول إن من أوصل البلد وشعبه إلى التجويع عليه، على الأقل، أن يجيد تحديد الجهة التي عليه أن يتسوّل منها، كي لا يضيع البوصلة، في التسول كما في السياسة»!
وغني عن القول أن عشرات الأبواق «السيادية» قد ملأت الشاشات والصحف بالتصاريح الشاجبة لكلام قرداحي والداعية له إلى الاستقالة بما فيها وسائل التواصل التي ازدحمت بالذباب الالكتروني انتصاراً لولي النعمة. ولقد رفض الرئيس عون إقالة قرداحي أو دعوته للاستقالة فيما أصدر «حزب الله» بياناً داعماً لقرداحي، تلاه بيان حاد اللهجة من «تيار المستقبل» يهاجم فيه بشدة مواقف «حزب الله» من القضية.
ما سبب توقيت نبش هذا الملف؟
لقد مضى على تصريح جورج قرداحي لبرنامج «برلمان شعب» من إنتاج شبكة «الجزيرة»، شهر كامل، فما سبب نبشه الآن وإلهاء الرأي العام فيه؟
يعتقد بعض المراقبين أن السبب الأساس وراء ذلك هو تحويل الانتباه عن تصريحات سعد الجبري مسؤول الاستخبارات السعودي السابق التي أدلى بها لبرنامج «ستون دقيقة» على قناة «سي بي أس» الأميركية. فلقد صرح الجبري أن ولي العهد محمد بن سلمان كان قد اقترح استخدام «خاتم مسموم» لاغتيال الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، ولقد قام ابن سلمان بإخبار ابن عمه محمد بن نايف بذلك عام 2014 مبدياً رغبته في أنه يريد أن يفعل ذلك لتخليص العرش لوالده.
والجبري هو مسؤول استخباراتي سعودي سابق كان مقرباً من ولي العهد السابق محمد بن نايف، ويقيم في المنفى منذ أكثر من ثلاث سنوات تحت حماية أمنية خاصة. وردت السفارة السعودية في واشنطن في بيان على اتصال من برنامج «ستون دقيقة» إن «سعد الجبري هو مسؤول حكومي سابق فاقد للمصداقية وله تاريخ طويل في التلفيق وخلق ما يشتت الانتباه للتستر على جرائمه المالية». ويُتهم الجبري من قبل النظام السعودي باختلاس 11 مليار دولار من المال العام وهو بدوره يتهم ابن سلمان باحتجاز أولاده رهائن في الرياض للضغط عليه من أجل العودة للمملكة وتسليم نفسه.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply