وليد مرمر – لندن
لدى الرجوع بالذاكرة إلى الحرب الأهلية اللبنانية وبدراسة متأنية للخطاب السياسي المتَبَنّى وقتها من معظم الأطراف، يظهر للفور أمر شديد الوضوح وعلى قدر بالغ من الأهمية، وهو النبرة الهادئة والتوفيقية للأعم الأغلب من المواقف السياسية لمعظم الأفرقاء، إلاّ من شذّ.
فمثلاً، كانت «الحركة الوطنية» حينئذ بقيادة الراحل كمال جنبلاط ومشاركة معظم الأحزاب اليسارية والعروبية، تعتمد خطاباً يدعو إلى وحدة لبنان وتعايش جميع أبنائه. ولقد كان أقصى اتهام يمكن للحركة الوطنية أن تكيله لليمين اللبناني المتمثل بالجبهة اللبنانية برئاسة الرئيس الراحل كميل شمعون هو بأنها تبع سياسات «انعزالية» تنأى بلبنان عن محيطه العربي الطبيعي. وبدورها، كانت «الجبهة اللبنانية» تتهم اليسار اللبناني بالسير وراء البندقية الفلسطينية –والسورية لاحقاً– على حساب فكرة ومشروع لبنان أولاً. أي باختصار كان الخطاب السياسي بشكل عام ورغم فظاعة الأحداث الميدانية، هادئاً داعياً للطمأنينة ونبذ الخلافات وتحكيم لغة الحوار. ويمكن القول إنه حتى في الاستثناءات التي شذت عن القاعدة والتي كانت تعتبر مُتَطرّفة وحادة كخطاب بشير الجميل السياسي مثلاً، فإننا نكاد لا نلحظ فيها مفردات السباب أو الشتائم أو تهم التخوين لأي طرف لبناني، بل إن جل ما كان يسود خطابه كان اتهام «الغرباء» أي الفلسطيني –ثم السوري– بالسيطرة على لبنان، حتى من دون الإشارة غالباً إلى احتضان «الحركة الوطنية» لهذه القوى «الغريبة».
ولقد أثمر الخطاب السياسي الهادئ بين معظم الأطراف اللبنانية في العودة للحياة الطبيعية بعد انتهاء الحرب اللبنانية مع وجود بعض الشوائب، إلى أن تمت جريمة اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، حيث بدأ منسوب التوتر في الخطاب السياسي بالارتفاع إلى أن وصل ذروته بعد حراك 2019 حيث تحولت وسائل الإعلام المحلية إلى منصات لكيل الشتائم والإهانات والتحريض والتخوين، وبشكل خاص لفريق لبناني أقل ما يقال فيه إنه محرر البلاد من الاحتلالين، الإسرائيلي والتكفيري.
لم يعد خافياً أن إصرار قنوات الفتنة والصحف والمواقع المأجورة على التحريض ضد فريق معين عبر بث السموم والضغائن وشحن العصبيات والنفخ الدائم في أبواق الفتنة، أصبح أمراً يهدد فعلياً، السلم الأهلي وينذر بشتى السيناريوات المفتوحة على كل الاحتمالات. وليست حوادث كالتي وقعت في شويّا وخلدة وعين الرمانة إلا مصداقاً لما قد تنحدر إليه الأمور إن فلت العقال الذي تصر حكمة المقاومة على تثبيته ولو كثرت التضحيات.
ومن المفارقات المضحكة المبكية في الخطاب السياسي المتأزم والحديث نسبياً، نشوء ظاهرة تستحق التوقف عندها ألا وهي وصم مكون لبناني عروبي مقاوم، بالتبعية لـ«المجوس» وذلك من قبل فريق كان حتى وقت قريب متهماً بـ«الانعزالية» والتقوقع والتنكر للخيار العربي، مثل «القوات اللبنانية». هكذا أصبح خيار المقاومة بحاجة لـ«فحص عروبة» من فريق تحالف مع إسرائيل طوال فترة الحرب الأهلية.
في عام 1943، وقبل انسحاب فرنسا من لبنان، أراد الفرنسيون أن يطمئنوا حلفاءهم المسيحيين عموماً والموارنة تحديداً من هواجس «الذوبان» في محيطهم المشرقي، فجعلوا في نص الميثاق الوطني أن «لبنان ذو وجه عربي»، وليس عربياً. وهذه الفقرة تحديداً والمتعلقة بتحديد هوية لبنان هي التي كادت أن تفجر مؤتمري جنيف ولوزان عامي 1983 و1984 لإنهاء الحرب اللبنانية، وذلك عندما أصر المسلمون حينها، سنة وشيعة ودروز على إقرار هوية لبنان العربية، بينما لم يتخل اليمين المسيحي عن تبنيه لمقولة أن لبنان وطن «ذو وجه عربي» ليس إلا، وهو ما تم التوافق عليه، قبل أن يقر اتفاق الطائف هوية لبنان العربية ويثبتها بشكل واضح ونهائي في مقدمة الدستور.
هكذا، وفي خضم الملفات الكثيرة التي يعاني منها لبنان، لا ينفك بعض الساسة من تبني خطاب صفيق لا هدف له إلا صب الزيت على نار الأزمات الخانقة، كاشفاً بشكل لا لبس فيه عن الأجندات التحريضية والفتنوية لأصحابه من دون أيما التفات لحاجة الوطن الماسة للتآلف والتعاضد في هذه الظروف الدقيقة ضد الأخطار الوجودية التي تهدد أسس الكيان.
فمثلاً، في قضية قرداحي، أظهر «السياديون» عن انحيازهم الكلي وبشكل ذليل إلى دولة إقليمية معينة ضد حرية الرأي والتعبير لمواطن لم تكن لديه أية مسؤوليات رسمية! ولعمري إن لم يكن هذا هو حقاً تعريف الارتهان، فما هو إذن؟
تعاملت دول خليجية مع تصريحات قرداحي بشكل متعال وبعيد كل البعد عن الأعراف الدبلوماسية. وعندما قرر نظام آل سعود استدعاء سفيره من لبنان، لم يقم هذا السفير بزيارة وزير الخارجية ليعلمه برحيله كما هو البروتوكول، بل قام بزيارة معراب مودعاً حليفه الأول في لبنان، سمير جعجع.
ولقد صرح الوزير قرداحي مراراً بأنه مستعد لأن يقدم استقالته في إطار حل متكامل يعيد تنظيم العلاقات بين لبنان ودول الخليج المقاطعة. لكن النظام السعودي رفض أن يعطي أية وعود في هذا الإطار، بل عمد إلى الابتزاز غير المشروط وأرغى وأزبد في هذا الشأن وكان لسان حاله يقول لمن استطاع أن يستشف مواقفه من الوسطاء،«فلسيتقل قرداحي، وعندها ربما نبدأ بمجرد التفكير».
والمؤسف المخزي أنه وفي مقابل هذه البلطجة السياسية السعودية رأينا أن الفريق «السيادي» لا يزداد إلا انكساراً وانبطاحاً، وهذا ليس بالشيء العجاب من شخصيات وجهات سياسية لم تر –مثلاً– في جريمة اختطاف وقتل الصحفي جمال خاشقجي البشعة ما يستحق الاستهجان أو حتى الذكر.
إذن فأولى بهذا الفريق الذي أعمى البترودولار بصره وبصيرته ألا ير مآسي العدوان على اليمن وأن يصم الآذان عن صراخ أهلها، متبجحاً بانتمائه لـ«الحضن العربي» كما لو أن اليمن ليست أصل العروبة ومنبتها.
وبغية تمرير أجنداته المرتهنة لجهات إقليمية ودولية، دأب الفريق «السيادي» بجميع أطيافه على استخدام اسطوانات مشروخة كـ«الدويلة» و«فائض القوة» و«الاحتلال الإيراني» و«السلاح الذي يحمي منظومة الفساد» و«الإمساك بمفاصل الدولة»، وغيرها من الكليشيهات التي أبلتها كثرة الاستهلاك السياسي والإعلامي وبشكل ممنهج منذ بدء «الثورة»، مما يشي بـ«أمر عمليات» أخذ في ليلة ليلاء في أقبية السفارات للبدء في حرب الاستقلال الثالثة كما يردد «السياديون»، وهو التحرر من الاحتلال الإيراني المزعوم بعد الاحتلالين الإسرائيلي والسوري!
وفي لجة الكوارث التي أثقلت كاهل اللبنانيين، اختار رئيس الوزراء نجيب ميقاتي أن يتبع خطاباً مجافياً للواقع وذلك عبر اتباع «الإستراتيجية الصحّافية»، بتشديد الحاء، نسبة إلى وزير الإعلام العراقي أبان غزو العراق محمد سعيد الصحاف. فلقد عمدت الإدارة الأميركية وقتها إلى استراتيجية إعلامية تمتص بها صاعقة سقوط بغداد الثاني في الوجدان العربي بعد سقوطها الأول على يد التتار عام 1258، وهي استراتيجية إسماع الشعوب العربية ما يحبون سماعه. وهذه الاستراتيجية تعتمد على كي الوعي العربي عبر خلق «واقع إعلامي متواز» للواقع الحقيقي. فانبرى حينها وزير الإعلام العراقي إلى بث أخبار ومآثر الانتصار على «طراطير» الغزو بشكل يومي حيث كان يؤكد عبر محطات التلفزة باستمرار كيف كان الجيش العراقي يتصدى لـ«العلوج« الذين لم يبق منهم في إحدى المرات «إلا بعض الجيوب» حول مطار بغداد «بعد إبادتهم جميعاً»!
وعلى هذا المنوال لجأ الرئيس ميقاتي إلى الهروب من أزمات الواقع اللبناني الوفيرة عبر اللجوء إلى خطاب إعلامي سوريالي، يكاد يظن سامعه أن المتحدث هو رئيس وزراء اللوكسمبورغ وليس لبنان الغارق في أزماته حتى النخاع!
لم يجتمع مجلس الوزراء منذ أسابيع بسبب الخلاف على المسار القضائي في قضية انفجار المرفأ، كما لا تزال الحكومة تعاني من تصدعات أحداث عين الرمانة سيئة الذكر، بينما تتصاعد الخطوات الخليجية العدائية تجاه لبنان، وتتفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد إلى درجات تنذر بانفجار اجتماعي لا تحمد عقباه… وفي خضم كل هذا، يصرّ ميقاتي على التعامل مع هذه الأزمات وغيرها عبر استعمال جرعات كبيرة من «الأسبرين الخطابي» ظناً منه أن التفاؤل يجترح المعجزات.
وبكل أسف، فإن الرئيس ميقاتي ليس رجل دولة من طراز الرئيسين سليم الحص أو رشيد كرامي. ففي عام 2013 أعلن الرئيس ميقاتي استقالة حكومته لسبب تافه وهو معارضة مكونات حكومية حينها للتمديد لمدير الأمن الداخلي أشرف ريفي. وهو كان قد سارع إلى التحضير لاستقالته الثانية كُرمى لنظام آل سعود وذلك بعدما رفض الوزير قرداحي الاستقالة، لولا تهديد واشنطن وباريس له بوضعه على لائحة العقوبات كما أفادت بعض التسريبات. ففلسفة ميقاتي في الحكم تتلخص بجملة واحدة: «يا رضا الله ورضا السعودية». وهو لم يخفِ ذلك عندما صرح من بكركي أن «السعودية هي قبلتي السياسية وقبلتي كمسلم». ونحن إن فهمنا الجزء الثاني من العبارة فإن تفسير الجزء الأول لا يحيد معناه عن كونه خضوعاً وارتهاناً كيفما قلبته، بل يكاد «يحطم الأرقام القياسية» في مدى الهوان والمذلة اللتين بلغهما الرئيس ميقاتي متزلفاً للنظام السعودي. والعجيب أن كلمة «قبلتي السياسية» ورغم وضاعتها، لم تثر حفيظة أي من أدعياء السيادة من قريب أو بعيد!
ومع انسداد الأفق السياسي تأجلت زيارة وزير خارجية قطر محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى بيروت للوساطة بين لبنان ودول الخليج إلى أجل غير مسمى. وهي وساطة أقرب لأن تكون تهديداً يحمله الوزير القطري من السعودية وحلفائها الخليجيين للبنان بطرد أعداد غير معروفة من اللبنانيين المقيمين في الخليج، وهذا ما بدأ بالفعل وإن على نطاق ضيق.
وفي خضم الأزمة اللبنانية يحرص السفراء الغربيون على إبلاغ المسؤولين اللبنانيين بأن تعطيل الاستحقاق الانتخابي المرتقب ستترتب عليه نتائج وخيمة وعقوبات للقوى المعرقلة فضلاً عن اعتبار لبنان دولة مارقة لا تحترم الاستحقاقات الدستورية وتضرب الديمقراطية التي كانت تميزها في الشرق الأوسط بعرض الحائط… وكأن الديمقراطية يمكن أن تستقيم في بلد تنعدم فيه أبسط حقوق العمل والطبابة والمواصلات والعيش الكريم!
لقد جاء تصريح المبعوث المستقل للأمم المتحدة، أوليفييه دي شوتر، منذ أيام، ليضع الأمور في نصابها بقوله إن «لبنان على شفير الانهيار» والمسؤولين فيه «ليس لديهم أي شعور بضرورة التحرك العاجل أو العزم اللازم لتحمل مسؤولياتهم إزاء أزمة اقتصادية أدت إلى إفقار وحشي للمواطنين». وأضاف في مقابلة مع وكالة «رويترز» في ختام مهمة استمرت أسبوعين لدراسة الفقر في لبنان: «أنا مندهش جداً من واقع أن لبنان هو دولة في طريقها إلى الفشل، إن لم تكن قد فشلت بالفعل»!
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply