محمد العزير
لا بد ليوم التاسع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، أن يكون يوماً مفصلياً في تاريخ أميركا. أميركا هنا ليست العالم الجديد الذي قلب الأوروبيون البيض المفترسون، الأرض على رؤوس أهلها الأصليين، وكل الأوروبيين في هذه المثلبة سواء، وإنما بالتحديد الولايات المتحدة الأميركية التي تتباهى بفرادتها واستثنائيتها كأول دولة ذات نظام جمهوري قائم على دستور مكتوب بإجماع ممثلي الناس (من الذكور والملّاكين والبيض). الدولة التي احتالت على عنوان المساواة فيها منذ البداية فجعل دستورها (الأبيض المرامي) الأسود الخاضع للعبودية الشرعية ثلاثة أخماس (5/3) رجل، الذي نص إعلان الإستقلال الأميركي أن «كل الرجال خلقوا متساوين» وأعطى الحق لمالك العبيد بالتصويت عنهم لإرضاء ولايات الجنوب العنصرية، لأسباب اقتصادية بحتة.
الولايات المتحدة ذات السجل غير المشرف في مجال إلغاء العبودية. فبعد سنتين على إعلان منع العبودية ولأن «العبيد» أمّيون ولا يقرأون الصحف ولا يتابعون الأخبار حجب الأوربيون البيض عنهم إعلان انعتاقهم لسنتين كاملتين قبل أن يعرفوا ذلك من أقران لهم نالوا الحرية بذلك الإعلان. لم يقف الصلف الأوروبي عند هذا الحد الدستوري الواضح. فقد باشروا على الفور تطبيق الأساليب المتاحة للتحايل عليه، فكانت «صفقة هايز» عام 1877، أي بعد 14 سنة على نهاية الحرب الأهلية. تمثلت الصفقة في الاتفاق بين الجمهوريين (حزب أبراهام لينكولن الذي قاد وربح الحرب الأهلية) وبين الديمقراطيين الحزب الانفصالي (الأبيض بالطبع) الذي خسر.
نصت الصفقة الفاسقة على أن تنسحب معظم الوحدات العسكرية الفدرالية من الجنوب العنصري، وموافقة المرشح للرئاسة الجمهوري روثفرد هايز، الرئيس التاسع عشر لأميركا، على تنصيب سياسيين من الجنوب في إدارته وحق الولايات في تقرير شؤونها بنفسها. الجملة الأخيرة كانت تعني أن للولايات الجنوبية التي تمثل النخب (الأوروبية البيضاء) المستفيدة من العبودية بأكثريتها الساحقة، الحق في تقرير مصير المحررين والملونين، دون الالتزام بإعلان إنهاء العبودية الأصلي لجهة منح المحررين بغلين وسبعة هكتارات من الأرض ليبدأوا حياتهم من جديد، وعدم بناء سكك حديدية للجنوب ووقف مشروع إعادة الإعمار الفدرالي في الجنوب الذي يلحظ مصالح المحررين الجدد. قد يرى البعض في ذلك سياسة، لكن ليست كل السياسة حلال.
أدت هذه الصفقة المشينة التي أفادت رجلاً (ذكراً) واحداً في شهوته السلطوية (كممثل للبيض الأوروبيين المنشأ الممعتضين من تحرير العبيد) إلى إيقاف مسار التاريخ، أو على الأقل تأجيله لمئة سنة أخرى. سحب هايز الجيش الفدرالي من الجنوب وأوقف البرامج الهادفة إلى تمكين السود اقتصادياً، وتغاضى عن سياسات الولايات الجنوبية بشأن ذوي الأصول الأفريقية الذين أصبحوا أحراراً بنظر القانون، ولكن ليس بنظر النخب البيضاء، جنوبية كانت أم شمالية. فاستبدل الجنوب العبودية بالفصل العنصري، ومنح الشرطة صلاحيات أوسع، كجهاز أمني نشأ تحديداً لمراقبة ومتابعة العبيد الفارين واعتقالهم… لأن القوى الأمنية قبل ذلك كانت موكلة فدرالياً إلى جهاز المارشال، ومحلياً إلى دوائر الشريف.
تمدد الحقد الجنوبي شمالاً بالتدريج، ومع دخول القرن العشرين صارت العنصرية صحناً يومياً للنخب البيضاء، حتى أن الرئيس الديمقراطي وودرو ويلسون الذي اجترح بعد الحرب العالمية الأولى مفهوم عصبة الأمم لتيسير العلاقات بين الأمم والدول، لم يكن قادراً على استيعاب العلاقات بين مكونات المجتمع الأميركي فكان فجّاً في عنصريته وتمييزه ضد الملونين. كيف تكون متسامحاً كونياً، وعنصرياً في بلدك؟ الجواب على هذا السؤال كان ولم يزل في أميركا التي برأت في التاسع عشر نوفمبر الماضي –بدعوى الدفاع عن النفس– مراهقاً، اشترى بطريقة غير شرعية مدفعاً رشاشاً من طراز «أم آر–10» واجتاز حدود ولايته (إيلينوي) إلى ولاية مجاورة ويسكونسن ليرتكب جريمة موصوفة بحق متظاهرين يحتجون على المعاملة العنصرية للشرطة فقتل شابين وجرح ثالثاً.
شهد الجنوب العنصري ما بعد إعلان تحرير العبيد محاكمات هزلية بسبب نظام المحلفين. والمحلفون الذين يبلغ عددهم 12 شخصاً، هم على الورق آية من آيات العدالة. 12 رجلاً وامرأة من أقران المتهم يعبرون جماعياً عن قرارهم بمصير ابن بيئتهم. فكان المتهم الأبيض الذي يعلن جهاراً ويتباهى بقتل أسود ينال البراءة بعد المحاكمة التي يمنع القانون إعادتها بالتهمة نفسها.
تطاولت هذه الآلية لتشمل كل رجال الشرطة (قبل شيوع فيديوهات الكاميرات المحمولة التي توثق عنصريتهم) وكل البيض الذين يقتلون ملونين لأي سبب. لذلك لم تكن تبرئة القاتل كايل ريتينهاوس الذي ارتكب جريمته تحت أضواء الكاميرات ولم تتصد له القوى الأمنية بعد جريمته الشنيعة بل أقدم عناصرها على تقديم الماء له ليشرب وهو يمتشق سلاحه في طريق عودته إلى ولايته الأم.
الأميركيون يعرفون نظامهم القانوني لكنهم لم يتوقعوا أن المحلفين البيض الذين أختار المجرم بنفسه نصفهم، سيتغاضون عن حقيقة أنه اشترى واقتنى سلاحاً قبل بلوغ السن القانوني وأنه عبر حدود ولايته إلى ولاية مجاورة ليتصدى لمتظاهرين.
لكن هذه هي أميركا. تقيم القيامة من معارض سياسي في دولة لا تحابيها لأنه اعتقل أو قتُل، لكنها «تطنش» عن قتل مواطنيها إذا قضوا على يد أبيض عنصري. هذه أميركا التي كانت منارة التقدم والعلم والبحوث وغزو الفضاء والتي تنقسم اليوم مناصفة بين من يرفضون اللقاح ضد وباء كورونا وبين الذين يقبلون اللقاح وإجراءات الوقاية. هذه أميركا التي يريد نصفها الأكثر بياضاً والأكثر أوروبية والأكثر تديناً أن تتحول محاولة الانقلاب الموصوفة على الدستور يوم اجتياح مبنى الكابيتول مقر الكونغرس وقدس اقداس النظام السياسي، والتي قادها رئيس البلاد المهزوم دونالد ترامب في انتخابات حرة ونزيهة (بشهادة أركان إدارته) ليمنع المصادقة على نتائج الانتخابات ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحي وانتهاك قاعات ومكاتب السلطة التشريعية، إلى مجرد اعتراض عادي لتبرئة الفاشية الناشئة. وهل كان انتخاب ترامب في الأساس غير دغدغة ذات ملامح أوروبية عمرها أكثر من مئة عام، لمشاعر الفاشية البيضاء، التي كلما ضاقت ذرعاً بمن لا يشبهها أو ينصاع لها تقفز فوراً إلى خيار النحر أو الانتحار.
من يصدق أن جمهوراً أميركياً في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يقوده شخص مجهول الهوية يكتفي بتكنية نفسه على الإنترنت بحرف «Q»، وأن هذا الجمهور يصدق كلاماً ما أنزل الله به من سلطان وأن الآلاف قصدوا مدينة دالاس بولاية تكساس الأسبوع الماضي ليحتشدوا في مكان اغتيال الرئيس الشاب جون كينيدي لأن «Q» أبلغهم أن نجل الرئيس المغدور، جون كينيدي الابن، الذي قضى نحبه في العام 1999 بعد سقوط طائرته التي كان يقودها بنفسه (قضت معه في الحادث زوجته وشقيقتها)، سيظهر هناك ليعلن أنه سيترشح مع ترامب كنائب للرئيس في العام 2024. من يصدق أن في أميركا اليوم حكام ولايات ونواباً وشيوخاً وسياسيين وإعلاميين يجاهرون بفخر أنهم ضد العلم وأن رحلات «أبولو» إلى القمر أكاذيب لم تحصل وأن اللقاح ضد كورونا يحتوي على برمجيات خوارزمية تجعل حاملها مسيراً من قبل اليسار الدولي والشيوعية!
قبل أميركا وقبل أكثر من قرن ونيف أصاب الجنون أمة عظيمة ثانية هي ألمانيا التي كانت قبل أن يصيبها المس أعطت للعالم أكبر مدرسة فلسفية عرفها التاريخ منذ أيام أثينا قبل الميلاد، وأعطت أجمل الإبداعات الفنية والموسيقية والأدبية بعدما جمع أوتو فون بسمارك القبائل الجرمانية في دولة واحدة. لم يمض أكثر من عقد على ذلك حتى انتهز قيصر ألمانيا في حينه، فيلهلم الثاني والمستشار (رئيس الوزراء) تيوبالت فون بتمان هولفيغ، اغتيال ولي عهد النمسا على يد مسلح صربي في سراييفو ليطلقا حفلة الجنون الأوروبية في الحرب العالمية الأولى (1914–1918) والتي أدت إلى مقتل عشرات الملايين وانهيار اربع امبراطوريات هي النمسا وروسيا وتركيا وألمانيا نفسها. كانت تلك الجولة التي مهدت ليستلب الشعب الألماني بعد ثلاثة عقود فقط، مهرج برتبة عريف في الجيش اسمه ادولف هتلر والذي كلف جنون ألمانيا معه العالم حوالي 65 مليون قتيل ومئات ملايين من الجرحى والمعوّقين وبضع عمليات إبادة عرقية ودينية وإثنية لا تزال ندوبها حاضرة حتى اليوم.
أما آن للجنون الأوروبي الأبيض أن يتروض؟ اما آن للشعوب الأوروبية وملحقاتها أن تستيقظ من أوهام الهيمنة الكاملة؟ أليس في الكون دواء لعلة العنصرية البيضاء؟ نعم، الأوروبيون كانوا مصدر الثورة الصناعية وروادها. كانوا السباقين في العلم الحديث ولا يزالون في الخط الأمامي للحداثة والتقنيات الحديثة. لكن من سيقنع العنصريين منهم أنهم ليسوا وحدهم في العالم وانهم كما أورد الدستور الأميركي في مقدمة من الناس الذين خلقوا متساوين وليسوا شعب الله المختار ولا فضل لهم على العالم فقد سبقتهم حضارات كثيرة ولم يعد العالم مستعداً للعيش على ظهر النمر، (يفترسك حين تترجل). لا يليق الجنون بأميركا التي تبدو اليوم أمة فقدت صوابها.
Leave a Reply