ماكرون ينجز صفقات أسلحة واستثمارات .. واتصالاً هاتفياً أجراه ابن سلمان بميقاتي
كمال ذبيان – «صدى الوطن»
لا يخفى على أحد الدور الفرنسي القائم في بلاد الأرز منذ إعلان «دولة لبنان الكبير» قبل مئة عام. فـ«الأم الحنون» وإن تراجع نفوذها الدولي لصالح قوى أخرى في بقاع عديدة حول العالم، ترى في «ابنها الضال» –لبنان– أهمية استراتيجية ليس فقط بسبب موقعه الحيوي والعلاقات الدينية (الكاثوليكية) والثقافية (الفرانكوفونية) المشتركة بين البلدين، وإنما أيضاً بسبب المصالح السياسية والاقتصادية لاسيما بعد اكتشاف النفط والغاز في بحر لبنان، والذي كان لشركة «توتال» الفرنسية حصة أولية بالسماح لها بالتنقيب قبالة الشواطئ اللبنانية.
ملء فراغ
لم تغب فرنسا عن لبنان منذ استقلاله، غير أن نفوذ باريس كان يتقدّم حيناً ويتراجع أحياناً لحساب دول غربية أخرى، لاسيما الولايات المتحدة التي انتهجت سياسة غير معهودة تجاه لبنان في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، مما جعل حلفاء الغرب في هذا البلد بمهب الريح.
لكن كلما سنحت الفرصة والظروف لفرنسا بأن تقوم بمبادرة أو تملأ فراغاً سياسياً ودبلوماسياً، لا تتأخر عن ذلك، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بإحياء النفوذ الفرنسي وحفظ المصالح الغربية، كما هو الحال اليوم.
فالدور الفرنسي في لبنان، الذي عاد بقوة خلال التسعينيات من بوابة «الصداقة» بين الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، جدده الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، من بوابتين، الأولى في 4 تشرين الثاني 2017، عندما تدخل لإطلاق سراح الرئيس سعد الحريري من السعودية، والثانية بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، حيث حضر ماكرون بعد يومين ليتضامن مع الشعب اللبناني وليقدم مبادرة لانتشال لبنان من أزمته الاقتصادية الخانقة مطالباً بتشكيل حكومة إنقاذ لتبني إصلاحات فورية.
وإذا كانت مبادرة ماكرون قد فشلت نظرياً، فإن باريس نجحت عملياً في إيصال نجيب ميقاتي إلى رئاسة الحكومة وهو خيار فرنسي تم بالتوافق مع إيران، بعد حصول شركة «توتال» على عقود نفطية في العراق بقيمة 27 مليار دولار، فولدت حكومة ميقاتي بمشاركة «حزب الله» رغماً عن الرياض التي امتنعت عن استقبال ميقاتي أو حتى عن تهنئته، فأقفلت أبوابها بوجهه كما حصل مع الحريري سابقاً بسبب تفاهمه مع «حزب الله» المغضوب عليه سعودياً.
بل ذهبت الرياض إلى تضييق الخناق أكثر على لبنان عبر افتعال أزمات متلاحقة، مثل حظر الصادرات اللبنانية في المملكة بذريعة تهريب المخدرات ثم المطالبة باستقالة الوزير جورج قرداحي بسبب تصريح أدلى به في مقابلة مصورة قبل أكثر من شهر على توليه حقيبة الإعلام في حكومة ميقاتي.
وبعد أن وصلت الأمور إلى ذروتها بإعلان قطيعة سعودية–خليجية مع لبنان والتهديد بقطع أرزاق اللبنانيين في دول الخليج، بسبب تصريحات قرداحي بشأن «عبثية» حرب اليمن، كان لا بد لفرنسا (ومن خلفها الفاتيكان) أن تتحرك قبل أن يدخل الفأس في الرأس، فيصبح لبنان في قبضة محور المقاومة.
اتصال وبيان
مع التعنّت السعودي برفض التعاون مع ميقاتي وحكومته، وما قد ينتج عن ذلك من تحولات جيوسياسية واقتصادية في لبنان، قرّر الرئيس الفرنسي زيارة المملكة التي تلقفت مساعي ماكرون واستقبلته على عكس مرات سابقة حاول فيه سيد الاليزيه التوسط فيها للحريري دون جدوى
فقد وجد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في زيارة ماكرون فرصة لتعزيز موقفه خارجياً بالتزامن مع استمرار المحادثات السرية مع الإيرانيين في العراق، ووسط الجفاء مع الإدارة الأميركية برئاسة جو بايدن، حيث رأى ابن سلمان بزيارة ماكرون ثغرة في جدار العلاقات الخارجية، وقد أكرمت زيارته بتوقيع صفقات أسلحة واتفاقات تجارية مع السعودية والإمارات وقطر.
وبلا شك، كان لبنان أحد المواضيع التي بحثها ماكرون مع ابن سلمان، حاملاً معه استقالة قرداحي التي أنزلت الرياض عن شجرة القطيعة مع لبنان، فبادر ولي العهد السعودي إلى الاتصال بميقاتي، لفتح صفحة جديدة، وإن لم يجر تأمين لقاء بينهما. فهذا اللقاء رُبط مبدئياً بشروط وردت في بيان فرنسي–سعودي لعودة العلاقات الدبلوماسية، وتضمنت ما يلي:
– قيام الحكومة اللبنانية بإصلاحات شاملة، ومكافحة الفساد، ومراقبة الحدود
– الالتزام باتفاق الطائف الذي رعته الرياض عام 1989
– حصر السلاح بمؤسسات الدولة، وتعزيز دور الجيش اللبناني حفاظا على أمن واستقرار لبنان
– ألا يكون لبنان منطلقا لأعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدرا لتجارة المخدرات
– الالتزام بقرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680 والقرارات الدولية ذات الصلة
– إنشاء آلية سعودية فرنسية للمساعدة الإنسانية تخفيفاً لمعاناة الشعب اللبناني.
وصفة حرب أهلية
في قراءة موضوعية لشروط البيان، يتضح أن خريطة الطريق السعودية–الفرنسية ليست إلا استنساخاً لما طرح سابقاً من المجتمع الدولي دون القدرة على تنفيذه، خصوصاً ما يتعلق بسلاح «حزب الله». ويرى مراقبون أن البيان هو مشروع حرب أهلية يهدف إلى انتزاع سلاح المقاومة كما حصل عقب صدور القرار 1559، الذي أدخل لبنان في حرب أهلية باردة بعد اغتيال رفيق الحريري عام 2005.
وإذا كان الحريري الابن قد دفع حياته السياسية ثمناً لرفضه الانخراط في اشتباك داخلي مع المقاومة، فإن المخاوف من تأجيج الخلافات وتحويلها إلى مسار عسكري ليست بعيدة عن الواقع، خاصة بعد أحداث خلدة والطيونة وغيرها من الحوادث الدموية الاستفزازية لـ«حزب الله» وأنصاره بهدف جر سلاح المقاومة إلى الداخل تمهيداً لمحاولة انتزاعه، بالتزامن مع ظهور مجموعات مؤيّدة للسعودية، تدعو إلى إنهاء «الاحتلال الإيراني» للبنان.
ومن زاوية أخرى، يمكن اعتبار البيان الفرنسي–السعودي، بأنه مجرد مقايضة بين ماكرون وابن سلمان ثمنها صفقات أسلحة واستثمارات بمليارات الدولارات. فيكون الرئيس الفرنسي قد استغل استقالة قرداحي والملف اللبناني عموماً لتعزيز حظوظه الانتخابية في معركة الرئاسة الفرنسية المقررة في نيسان (أبريل) المقبل.
في المحصلة، لم يستفد لبنان من زيارة ماكرون سوى بفتح كوة الاتصال بين ابن سلمان–ميقاتي، والتي سرعان ما سُدّت عبر الشروط التعجيزية التي تضمنها البيان السعودي–الفرنسي والتي تصب كلّها ضد «حزب الله»، لكنها تفتح الباب أيضاً أمام عودة المال الخليجي إلى لبنان عبر بوابة «الإنسانية»، قبل أشهر من الانتخابات البرلمانية التي من المتوقع أن تقام في أيار (مايو) 2022، والتي يعول عليها الغربيون والخليجيون لإحداث انقلاب سياسي بوجه المقاومة وحلفائها في لبنان.
Leave a Reply