وليد مرمر
لا يكاد رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي يفوّت مناسبة إلا ويمعن فيها بالتذلل والامتهان لـ«أخوته الخليجيين» حتى يظن المرء أن الرجل ربما كان قد تغيَّب عن حصة «الكرامة» في دروس التربية المدنية عندما كان تلميذاً!
والحقيقة أن «أول الوهن» في السياسة اللبنانية لم يبدأ مع إجبار وزير الخارجية السابق شربل وهبة على الاستقالة كما ذكر السيد حسن نصرلله في إحدى خطبه الأخيرة. كان وهبة قد صرح بأن «دول المحبة والصداقة والأخوة (يعني دول الخليج) أوصلوا لنا تنظيم الدولة الإسلامية وزرعوه في سهول نينوى والأنبار وتدمر»، في إشارة إلى الأراضي التي سيطر عليها التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق. وأُجبر وهبة على الاستقالة بعد تصريحه هذا الذي أزعج دول «المحبة والصداقة»! إن الوهن قد بدأ يستفحل منذ عام 2005 حين تنكر جزء من اللبنانيين لسوريا وبدأوا بالتصويب على المقاومة عبر اتهامها باغتيال الرئيس رفيق الحريري. ثم كان قرار «النأي بالنفس» عن الحرب الكونية على سوريا الذي تفتقت عنه عبقرية الرئيس ميقاتي وقتئذ، كان بمثابة الضربة القاضية للدور المقاوم والسيادي والعروبي للبنان كدولة، وذلك عبر التنكر لجميع الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والأمنية والعسكرية بينه وبين سوريا. فكيف لدولة تدعي أنها شقيقة لأخرى أن تتنكر لها في أشد محنها ومآسيها وتأخذ دور «الحياد» كُرمى لعيون أسياد الخليج الذين كانوا رأس الحربة في حرب تدمير سوريا؟
إن مسلسل المهانة الذي اختاره ما كان يُعرف بقوى «14 آذار» لم تقابله –للأسف– مواقف صارمة وثابتة من القوى المقابلة في محور المقاومة، وذلك إما بسبب مقولة المحافظة على السلم الأهلي، أو أحياناً بسبب ضعف القيادة وقلة الدراية السياسية. فباستثناء عملية «7 أيار» التي اضطرت فيها المقاومة لمواجهة تغيير الواقع السياسي الذي قرر الرئيس فؤاد السنيورة فرضه نزولاً عند رغبة صديقته الحميمة كوندوليزا رايس، نجد أن مسلسل التنازلات يكاد لا يتوقف وذلك بدءاً بالقبول بالنأي بالنفس عن أحداث سوريا مروراً بالموافقة على المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الحريري، ثم عبر إشراك الفريق الخاسر في الانتخابات في كل الحكومات، رئاسةً ووزراءً، وغير ذلك من محطات رئيسية أخرى. ثم جاءت قضية جورج قرداحي لتستكمل هذا المسلسل الانهزامي تجاه «الإخوة» الخليجيين ولكنها لم تكن الحلقة الأخيرة من مسلسل الإذعان. فمنذ أيام، أدانت وزارة الخارجية اللبنانية هجمات المسيرات اليمنية على بعض المواقع العسكرية داخل السعودية والتي نجمت عنها أضرار مادية فقط فيما لم يحرك الوزير عبدالله بو حبيب ساكناً لمقتل 39 يمنياً في قصف سعودي استهدف أحياء سكانية في صنعاء يوم 12 ديسمبر الجاري! والأنكى أن سياسة الكيل بمكيالين هذه لم تثر حفيظة محور المقاومة للأسف!
ويوم السبت الفائت، عُقِد في بيروت مؤتمر دعت إليه «جمعية الوفاق» البحرينية حول انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين. وكدأبها منذ تأسيسها، لم تطالب الجمعية بإسقاط النظام البحريني، بل كل ما أشارت إليه هو ضرورة إصدار عفو عام يمهد للمصالحة الأهلية، مع ملاحظة الموضوع الحقوقي والمدني وضرورة مقاربة الدولة له بشكل منفتح ومتسامح مع كل المكونات السياسية. كما تخلل المؤتمر مواقف لمعارضين بحرينيين ضد إجراءات التطبيع التي تقوم بها بعض الحكومات الخليجية مع إسرائيل.
لكن هذا المؤتمر الحقوقي لم يرُق لمملكة البحرين سيما أنها قد رأت كيف أن البلطجة السعودية تؤتي أُكُلها دائماً، فعمدت إلى التصعيد الديبلوماسي تجاه لبنان فأعربت وزارة خارجية المنامة في بيان عن «أسفها من استضافة العاصمة اللبنانية بيروت مؤتمراً صحافياً لعناصر معادية لغرض بث وترويج مزاعم وادعاءات مسيئة ومغرضة ضد مملكة البحرين». وأضافت أنه قد «تم تقديم احتجاج شديد اللهجة إلى الحكومة اللبنانية بشأن هذه الاستضافة غير المقبولة إطلاقاً والتي تعد انتهاكاً صارخاً لمبادئ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية بما يخالف المواثيق الدولية وميثاق جامعة الدول العربية».
وكعادته، وتزلفاً لدول الخليج، أصدر الرئيس ميقاتي بواسطة وزير داخليته بسام المولوي أمراً موجّهاً إلى المديرية العامة للأمن العام يطلب فيه «اتخاذ كل الإجراءات والتدابير الآيلة إلى ترحيل أعضاء جمعية الوفاق البحرينية من غير اللبنانيين إلى خارج لبنان». وعزا ميقاتي قراره إلى «ما سبَّبه انعقاد المؤتمر الصحافي الذي عقدته الجمعية المذكورة في بيروت من إساءة إلى علاقة لبنان بمملكة البحرين الشقيقة، ومن ضرر بمصالح الدولة اللبنانية».
ربما لم يقتصر تغيّب ميقاتي في دروس التربية المدنية على درس «الكرامة» بل تعداه إلى درس «ضمان الحريات المدنية»، كحرية الرأي والتعبير والإجتماع إلخ.. والمضحك المبكي هو الفقرة التي نصت على «ترحيل أعضاء جمعية الوفاق من غير اللبنانيين إلى خارج لبنان». فلقد منَّ علينا الرئيس ميقاتي بهامش من الحرية وذلك عبر سماحه للبنانيين المنتمين إلى «جمعية الوفاق» بالبقاء في لبنان! وهو موقف «إنساني متقدم» مقارنة مع أخوته حكام مملكة البحرين من آل خليفة الذين قاموا بإسقاط الجنسية البحرينية عن العشرات من المواطنين البحرينيين الأصليين من المعارضين السياسيين (يقدر عددهم بالمئات) بينهم المرجعية الإسلامية الشيخ عيسى قاسم، فيما تم تجنيس عشرات آلاف الباكستانيين وغيرهم لتغيير الديموغرافيا المذهبية ذات الأغلبية الشيعية. وحسب السفير الباكستاني السابق لدى البحرين، محمد الأحد، فإن ما يقارب من نصف مليون باكستاني موجودون على لوائح الانتظار للحصول على جواز سفر بحريني!
وليت الرئيس ميقاتي سيخبرنا بالمقابل إن كان سيقدم على طرد عشرات آلاف السوريين المجاهرين لعدائهم للدولة السورية والذين عاثوا فيها فساداً قبل انهزامهم وهروبهم إلى لبنان؟ أم أن سوريا واليمن ليستا من «الأشقاء» العرب الذين يتشدق ميقاتي ليلاً ونهاراً بالحفاظ على أحسن العلاقات معهم؟ وكأن العرب أصبحوا حصراً ممالك الخليج المطبّعة مع إسرائيل!
ليس خفياً أن لبنان يعاني منذ تشرين الثاني 2019 من أخطار وجودية جمة ولكن هذا لم يحفّز دول «الحضن العربي» على القيام بأية خطوة مهما كانت ضئيلة لمساعدته على تجاوز أزماته. بل على العكس فقد قامت مملكة آل سعود بخطف سعد الحريري وإهانته وإجباره على الاستقالة ثم قامت بتصفية شركاته وممتلكاته. كما امتنعت المملكة عن تهنئة ميقاتي بترؤس الحكومة الجديدة ولم يزره سفير الرياض كما ينص البروتوكول. أما الرئيس ميقاتي فما زال حتى الآن يستجدي زيارة المملكة وإن بشكل مقنّع عبر طلب السماح له بالعمرة، ولكن من دون جدوى! وفيما يبدو أنه لا نهاية لمسلسل التنازلات والإذعان تجاه ممالك البترودولار، من قبل ميقاتي وحلفائه من نادي «السياديين»، إلا أن محاولة تغيير وجه بيروت العروبي ومحو تاريخ احتضانها للحركات الثورية والمناهضة للتطبيع لا يجب أن يمر مرور الكرام. وستبقى بيروت رغم المآسي عاصمة النشر والحريات السياسية والرأي الحر ومقارعة التطبيع مهما تقزّمَ ميقاتي ومهما كثر المنبطحون حوله.
walidmarmar@gmail.com
Leave a Reply