محمد العزير
من عادة ابنتي سحر (15 سنة) أن تطلب مني قراءة ما تكتبه من فروض دراسية كنصوص أو نقد أدبي في درس اللغة. علاقة سحر المميزة باللغة وحبها الواضح للكلمة يحوّل قراءة ما تكتبه إلى متعة ذهنية، خصوصاً وأنها منذ طفولتها تعامل الكلمة باحترام يلامس القداسة. قبل أيام طلبت مني كعادتها أن أقرأ أحد نصوصها وأُبدي رأيي فيه. صدمني النص الوجيز فوراً. أعدت قراءته بدهشة غريبة جداً. نصٌ لا يليق بطالبة أولى ثانوي بل، وعلى إيجازه، يصلح أن يكون مطالعة بليغة في مؤتمر عن التمييز والتنمر والعنصرية ضد كل من هو من غير العرق الأبيض والإثنية الأوروبية في أميركا، ونحن كعرب أميركيين من هذا الكل.
لا يمكن تفنيد النص بالمفرق، ذلك يفقده الكثير من قوته التعبيرية. لذا لنقرأ النص كاملًا. ترجمت النص بأقصى درجات الدقة والموضوعية لما يحمل من مضامين مؤثرة وواقعية وراهنة:
«سحر هو الفجر، بداية جديدة، وأمي كانت توقظني صباحاً قائلة للعالم إن الشمس أشرقت اليوم، وأن للشمس شعاعاً مثل شعري، قوس مثالي من ذهب. هل أنا الشمس يا ماما؟
لا بالتأكيد. اسمي ليس إلا قطعة مسفوكة مما يرون. البنت التي يرونها في المدرسة وفي دروس السباحة. أنا عندهم «سارة». أنا «ساهارا» الصحراء الحارقة في إفريقيا ولست شمساً مشرقة. ماما، أنا لست الشمس لهم. لست شمسك يا ماما.
وهم لا يحبونه. إسمي مثل صورة تقول لك ألف كلمة. مثل ألف شخص يقولون لك أن تهربي مني، لأنه بالطبع، كيف يمكن أن تحبي شخصاً اسمه سحر؟
لماذا يكرهوني؟ هل كنت تكذبين، ماما، عندما تقولين لي أن الشمس تشرق عندما استيقظ؟ هل كذبتِ وأنت تقولين إني الفجر؟ بداية جديدة، بينما كل ما أراه من ذلك الاسم البشع هو جهنم الحارقة. ذلك الاسم الصاخب الصارخ المتسلط، اسم يحمل هذا الكمّ من الغضب والتحكم. اسم يحرق جلدي. ماذا هناك للحب في جهنم؟
أنا لا أقصد حبك، ماما، أنا أحتاج أن يحبوني. فهل سيحبوني لو لم أكن ابنة أبي ولم أحمل هذا الإسم العربي؟ هل كانوا سيحبوني أكثر لو تكن رنّة اسمي البشعة التي يلفظها فمه بتلك الـ«راء» الحادة، مثلما يلفظها العرب في لبنان؟ لو كان يلفظه بشكل طبيعي مثلما يفعل الناس في كاليفورنيا، لو كان اسمي بلا مشاكل بالمرة على سبيل المثال؟
ماذا لو كان اسمي لطيفاً؟ ماذا عن «ماثيو»، هل ماثيو أفضل؟ هل كانوا سيحبوني أكثر يا ماما، ماذا لو أسميت «آنا»؟ وماثيو وآنا يحبان دروس السباحة والمدرسة لأن الكل يحبهما ويحبون اسميهما اللطيفين. ولا أحد يمكن أن يكره ذلك، ماما، لأن «ماثيو» يعني هدية، و«آنا» هي النعمة، لكن سحر جحيم».
السؤال الأول الذي استوقفني في صدمتي بديهي وبسيط؛ كيف لم أتلمس هذا القدر من المشاعر السلبية التي تحيط بسحر وهي موضع اهتمامي وعنايتي الكاملين منذ لحظة ولادتها الخديجة؟ كيف فاتني أن أولي بعض الاهتمام لسياق علاقاتها وأحساسيها مع محيطها الأوسع خارج البيت المكّون من أم أميركية (مطابقة للمواصفات) من أصل اسكتلندي موشى بتلاوين ألمانية وفرنسية، ولها حسب التقويم الجيني علاقة قرابة موثقة مع جورج واشنطن الأب المؤسس لأميركا وأب عربي أبيض (وفق تصنيف مكتب الإحصاء الوطني).
في الشكل يمكن لسحر أن تكون أميركية. ليس في ملامحها شيء مختلف أو نافر عن «الأميركيين». بشرة حنطية فاتحة وشعر كستنائي لامع… ونظارتان طبيتان، ليس فيها تباين. فمن أين يأتي هذا الشعور الغامر بالمحيط العدواني؟ واذا كان الاسم وحده حافزاً لكل هذه الكراهية يصبح السؤال المفروغ منه: ماذا عن الآخرين؟ ماذا عن الملونين فعلًا؟ ماذا عن السود والآسيويين (من الباكستان إلى اليابان مروراً بالهند) وذوي الأصول اللاتينية؟ ماذا عن أهل البلاد الأصليين (أو ما تبقى منهم) من قبائل شمال أميركا إلى مجتمعات جنوب القارة وصولاً إلى الجزر الباسيفيكية التي جعلتها أميركا جزءاً منها؟ هؤلاء لا يُعرّفون بأسمائهم بل بأشكالهم. كيف يشعر هؤلاء وهم ينظرون إلى عيون زميل أو رفيق أو صديق عاش أبواه أو جداه مرحلة الفصل العنصري في كل شيء من المدرسة إلى وسائل النقل إلى المرافق العامة والمنتزهات وحتى إلى غرف النوم التي لم تكن تجيز الزواج المختلط؟
لا جدال في أن السنوات العجاف من رئاسة دونالد ترامب زادت من منسوب العنصرية وأعطت أوغاد وهمج العنصرية في أميركا نوعاً من الشرعية «الاغتصابية» وجلبتهم من هوامش السياسة العامة إلى متنها، لكن العنصرية في أميركا قديمة قدم أميركا نفسها التي قامت على التوسع والغطرسة والعربدة وسلكت الكثير من «دروب الدموع». ينبغي أن يكون ذلك محركاً أساسياً لبرنامج عملنا كعرب أميركيين للسنوات المقبلة.
الديمقراطية في أميركا، بعد عهد ترامب، في خطر. نحن معنيون بهذه القضية، أولاً لأننا أميركيون، وتالياً لأننا «الأميركيون الآخرون» غير البيض الأوروبيين. من حق سحر أن تشعر بما يحيط بها، لكن من الواجب علينا أن نواصل ما بدأه رواد العمل العربي الأميركي في النصف الثاني من القرن الماضي. واجبنا أن نعرف أين نحن، أية أرض نقف عليها. ليس مقبولًا ولا مبررًا أن تبقى أولوياتنا ذيلية لتوجيهات بدائيات الوطن الأم. لو كانوا في الوطن الأم (من لبنان إلى العراق إلى اليمن وسوريا وخصوصاً فلسطين) يعرفون أكثر لما كانت أوضاعهم في هذا الحضيض.
نحن هنا. نحن أميركيون عرب. نحن يمكننا أن نصنع الفرق إن أردنا. ونحن بمقدورنا أن نجعل اسم سحر يعني ما يعنيه: فجر وبداية جديدة.
بمقدورنا أن نجعل كل الأسماء العربية عادية، أميركياً. وألا نضطر إلى الـ«مايكات» والـ«ألكسات» والـ«بوبات والـ«فايات» والـ«زييات»…
يا سحر، السحر هو بزوغ الفجر، أمك لم تكذب، وحتى يصبح لاسمك معناه هنا في أميركا علينا جميعاً، وأنت منا، أن نواصل السعي والجهد والنضال إلى أن نحقق تلك الغاية.
Leave a Reply