محمد العزير
كشف الاجتياح الروسي الصلف وغير المبرر لجمهورية أوكرانيا وجهاً معيباً من تهافت اليسار عموماً ويسار الدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص.
لم يتورع الشيوعيون والتقدميون والعلمانيون والمثقفون الثوريون، عن تأييد الطموحات القيصرية لديكتاتور الكرملين فلاديمير بوتين، وكعادتهم الرديئة، غضّوا الطرف عن همجية وعدوانية دولة مدججة بالعنصرية والفاشية الموشاة بالدين والأسلحة النووية، وسارعوا إلى تقديم فروض الولاء والطاعة، كما يفعلون أمام كل مستبد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (التي جعلت تضحيات الشعب الروسي والشعوب المنضوية في الاتحاد السوفياتي من الشيوعية قطباً موازياً لكل إرث الاستعمار والعنصرية الأوروبية البيضاء)، قبل أن يستأنف الطاغية جوزيف ستالين معارك التطهير الداخلية التي فاق عدد ضحاياها عدد ضحايا «الحرب ضد الفاشية».
ليس من مبرر طبقي أو مبدئي أو أخلاقي لموقف اليسار المناصر لنظام مستبد يفتك بمعارضيه وعلى رأسهم من تبقى من شيوعيين لا زالوا يؤمنون باشتراكية ماركسية حقيقية، بلا ديكتاتورية اللينينية ودموية الستالينية وتخشّب البريجنيفية (نسبة إلى آخر زعيم سوفياتي تقليدي، ليونيد بريجنيف). دأب بوتين منذ وصوله إلى السلطة من عتمة أجهزة المخابرات على إدارة أكبر دولة مساحة في العالم وأغناها بالموارد الطبيعية والمواهب والتراث بعقلية مخبر، أو يحق القول، بعقلية المافيا دون تورع عن توظيف الدين ورجاله لخدمة بلاط أسطوري المظهر، فارغ المحتوى.
في اللغة، اليسار وفق الموسوعة البريطانية (الإنسكلوبيديا) هو جزء من الطيف السياسي يرتبط عموماً بالمساواة وبتحكم الدولة أو القطاع العام بالمؤسسات السياسية والاقتصادية الرئيسية. وفي تعريف «جامعة أوكسفورد»؛ اليسار يدافع عن مساواة أكثر اقتصادياً وسياسياً ويفضل الأفكار الليبرالية والتقدمية. وفي معجم «ويبستر» يتميز اليسار برغبته في إصلاح أو إطاحة النظام السياسي القائم والدفاع عن حريات أوسع نطاقاً وعن رفاه الناس العاديين. أما آخر التعريفات من «ويكيبيديا» فيقول إن اليسار يناصر المساواة الاجتماعية والعدالة ويناهض التراتبية الاجتماعية الموروثة. ليس في المعاجم العربية المتداولة أي تعريف موضوعي، وجلّ التعريفات الحديثة سلبية وتنسب إلى اليسار، التطرف والشيوعية.
في الشكل جاء وصف اليسار من التجربة الفرنسية التي سبقت وعاصرت الثورة التي اغتصبها ماكسميليان روبسبيار واليعاقبة قبل أن يضعوا رأسها في المقصلة. كان المعارضون للملك والنظام الملكي يجلسون إلى يسار رئيس البرلمان فيما كان مؤيدوه يجلسون إلى يمينه.
في الواقع، وبعد أن آلت الماركسية–الإنكليزية (الصناعية الحداثية) إلى عناية مثقفي المنافي من آخر امبراطورية زراعية ريعية في أوروبا (روسيا)، وعاد فلاديمير أوليتش أوليانوف (لينين) إلى موسكو على متن قطار ألماني –قيصري– في حينه، ليضم إلى العمال الصناعيين، الفلاحين ذوي المفهوم الإقطاعي والعقلية القروسطية، اتخذت الاشتراكية شكلاً هجيناً جمع تحت قبعة «العقيدة» أسوأ رؤوس الإرث الرأسمالي الاستعماري الأوروبي الأبيض؛ السلطة، البيروقراطية، المخابرات، القمع وازدواجية المعايير.
عشق أعضاء أول مكتب سياسي سوفياتي سيارات «رولز رايس» البريطانية الصنع، وحده ستالين أحب سيارات «لينكولن» الأميركية الفخمة التي تصنعها شركة «فورد». عاش «الرفاق» حياة ترف ومجون وبذخ في الليل، وحياة نضال وتقشف ورهبانية أثناء ساعات الدوام. شرح يطول، شهوده كثيرون وشهداؤه أكثر.
ليس من باب تقديم أسباب تخفيفية لليسار المشرقي الإشارة إلى أن «الأممية الثالثة» في موسكو قدمت شيوعيي العالم قرابين على مذابح الرأسمالية خدمة لمصالح الدولة الروسية التي اعتاشت على المشاعر القومية والشوفينية في الحرب الأهلية ثم في الحرب العالمية الثانية التي ذهب ضحيتها ما لا يقل عن عشرين مليون مواطن «سوفياتي».
ذبح ستالين أولاً يسار إسبانيا، إذ بادل مع «الإمبريالية» بقاء الطاغية الفاشي فرانسيسكو فرانكو، مقابل سيطرته الكاملة على بولندا.
ما لنا ولأوروبا؟ في تجربتنا العربية المعاصرة ضحت موسكو بشيوعيي مصر لكسب ود عبد الناصر، وبشيوعيي سوريا والعراق لكسب ود البعثيين في القطرين، وبشيوعيي السودان إكراماً لجعفر النميري وطبعاً بشيوعيي ليبيا من أجل معمر القذافي والجزائر من أجل الجنرالات.
كانت موسكو تتصرف كدولة ذات مصالح قومية وكان الشيوعيون يُذبحون بسذاجة فائقة. لم تحرك عاصمة «الكومنترن» دبابة من أجل «الرفاق» في أي مكان من العالم… من التشيلي إلى اليابان. تعوّد الشيوعيون أن يلعبوا دور البيدق في لعبة شطرنج لا علم لهم بها. وفي حال أعرب شيوعي محلي عن رأي مغاير يتم رميه بالعمالة للـ «سي آي أي» كما حصل لجورج حاوي في لبنان، والذي احتفى من يفترض أنهم رفاقه باغتياله، إكراماً لعيون النظام السوري.
من أفغانستان التي توّجها الاجتياح الروسي بدمية على وزن بابراك كرمال، إلى إيران التي كان للشيوعيين فيها دور المحرك الأول والأساس للثورة على أيدي حزب «توده» ومجاهدي خلق إيران ومجاهدي شعب إيران الذين ابتلعتهم «الثورة الإسلامية» فور عودة الإمام الخميني إلى طهران… إلى الحزب الشيوعي العراقي الذي شرب صدام حسين نخب التخلص منه في سفارة موسكو في بغداد، إلى الحزب الشيوعي السوري (لصاحبه حزب البعث العربي الاشتراكي) الذي تحول إرثاً لآل بكداش… إلى شيوعيي مصر الذين بُني السد العالي عن أرواحهم قبل أن يكمل المهمة عثمان أحمد عثمان ويكافئ أنور السادات، روسيا على مجهودها بطرد خبرائها والتحول غرباً… إلى فلسطين التي أجبر ستالين حزبها الشيوعي على الانضمام إلى الصهيونية لأنه أول من اعترف بإسرائيل. إلى لبنان الذي خسر الشيوعيون فيه مفكريهم وقادتهم على أيدي القوى الإسلامية من حركة التوحيد في طرابلس إلى الجهاد الإسلامي في بيروت.
أمثلة لا تحصى عن تعامل موسكو مع شيوعيي العالم كبيادق، إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي تحت ثقل ترهله وقمعه وخشبيته.
بشيء يقترب من الأعاجيب، يجمع بين «متلازمة ستوكهولم» والمثل الشعبي القائل «القط لا يحب الّا خنّاقه» ارتضت الأحزاب الشيوعية العربية الدور الذيلي المعيب…المقزز أحياناً.
كان على الحزب الشيوعي اللبناني مثلاً، أن يلبس إحدى شهيدات المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي في النبطية حجاباً شرعياً ليسمحوا له بعد استشهادها بعشرين عاماً على إقامة حفل تأبيني لها، فيما يخاطب أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني (العلماني، العلمي، التطوري) أمين عام «حزب الله» بـ«سماحة السيد».
لا تمر مناسبة تخص إيران أو سوريا أو الحرس الثوري الإيراني ومتفرعاته إلا ويكون الحزب الشيوعي اللبناني وشقيقه السوري في طليعة المهللين إن هللوا، والمستنكرين إن استنكروا، حتى ليبدو أن الأمر اختلط عليهم عندما قرر بوتين استعراض عضلاته في سوريا وصارت طائرات «السوخوي» و«الميغ» تسرح وتمرح في سماء بلاد الشام تحت مسمى «مكافحة الإرهاب» المحبب إلى «البراغماتية الأميركية الوسخة»…
على ذمة الرواة من الرفاق الموثوقين من المثقفين والنجوم، كان بيت المناضل الأممي فيدال كاسترو في هافانا أكثر شبهاً بقصور خلفاء العصر العباسي في عصره الذهبي حيث أشهى المأكولات وألذ المشروبات، والأهم من كل ذلك «حور العين» من الرفيقات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 16 و25 سنة، الّا المحظيات اللاتي يبقين في القصر بعد ذلك العمر لأنهن محط إعجاب ومتعة الرفيق القائد.
بئس هذه الشيوعية وبئس هذا اليسار، وبئس أحزاب تهرق ماء وجهها اكراماً للطغاة!
Leave a Reply