محمد العزير
في سياق سياسي ديمقراطي عادي، من غير المنطقي الطلب إلى أية جماعة؛ إثنية كانت أو دينية أو إقليمية، الإجماع على رأي عقائدي أو موقف انتخابي واحد أو دعوتها إلى توحيد صوتها في صناديق الاقتراع بغض النظر عن الموقع أو المنصب المنشود.
في ظل التعددية وحرية الرأي والتعبير والإختيار وتنافس الأفكار والبرامج، من حق كل مواطنة ومواطن تأييد المرشح أو الحزب الأقرب إلى ميولهم ومبادئهم، لذلك يكون في البيت الواحد اختلاف تتم ترجمته يوم التصويت… وخلف الستارة العازلة. يختلف ذلك بالطبع عن المواقف المبدئية من القضايا العادلة في مواجهة ظلم أو احتلال أو تمييز عنصري أو عدوان صريح (وكل هذه تجتمع لدينا في قضية فلسطين كقضية حق أولاً قبل أن تكون قضية دين أو قومية).
عاش المجتمع العربي الأميركي هذه الحالة. وكان كثيرون من العرب الأميركيين سواء من المهاجرين أو أبناء المهاجرين أو الجيل الثاني أو الثالث يؤيدون الحزب الجمهوري وينشطون في صفوفه ويقيمون المناسبات ويجمعون التبرعات لمرشحيه، كانت دوافعهم لذلك مبررة ومفهومة ومنطقية؛ الذين أصابوا شيئاً من الثروة أو اليسر ميالون للحزب الذي يخفض الضريبة ويقلل من الضوابط الصارمة للاستثمار والربح، والمتدينون من جميع الملل يؤيدون المواقف المحافظة للحزب والتي تلائم مفاهيمهم للعائلة والأسرة، وآخرون يحبذون «الفرادة الأميركية» وضرورة تعزيزها بميزانيات غير مقيدة للقوات المسلحة. ومقابلهم كان هناك مِن أقرانهم من يفضل الحزب الديمقراطي، وكانت دوافعهم واضحة؛ عدالة اجتماعية، برامج فدرالية تساعد الفقراء والمهاجرين الجدد، وتسامح اجتماعي وثقافي وديني. كان السجال بين الطرفين صحياً وحيوياً، مع أن صوت الطرف الأول كان أعلى.
ما نحن بصدده الآن مختلف تماماً. ليس من منطلق الفئوية القول إن أحد الحزبين في نظام الحزبين انزلق إلى مشارف الفاشية، ولم يعد الاختلاف بين حزب جمهوري يقوده دونالد ترامب وشبكة «فوكس نيوز» وبين الحزب الديمقراطي محصوراً في الاقتصاد وحجم البيروقراطية والأخلاق وتمكين المرأة والتسامح مع المثليين. ما بعد ترامب ليس كما قبله. طارت السياسة وحطت مكانها العنصرية. الحزب الجمهوري الذي يقصد دولة أوروبية شرقية صغيرة (هنغاريا) ليستمد منها ذخائر عنصرية بدائية تافهة ليبرر أمام جمهوره المحجور أمام شاشات روبرت مردوخ وستيف بانون و«كيو» ومن لف لفهم، وهم كثر، عنصريته الفاقعة واحتقاره لسيادة القانون واندفاعه إلى فاشية صريحة تقوم على أساس أن أميركا بيضاء ومسيحية (بروتستانتية) الرجال فيها قوامون على النساء.
عندما ترشح ترامب عام 2015، كانت المسألة للكثيرين (ومن بينهم كاتب هذه السطور) نكتة سمجة. أن تتصدى لمنصب مثل رئاسة أميركا أمر جلل. هكذا اعتقد الكثيرون، وبناء عليه نظروا إلى ذلك الترشيح كمحاولة رخيصة لاكتساب شعبية لشخصية تافهة ورثت المال والاسم وبددت الكثير منهما في إفلاسات متكررة وفضائح أخلاقية وتصريحات إعلامية مشينة. كم كنا مخطئين في تقدير مدى الانحطاط الذي وصل اليه المستوى السياسي الأميركي بعد أربعين سنة من رئاسة رونالد ريغان التي جسدت السياسة الجنوبية (التحول نحو مواقف عنصرية ترضي نخب الجنوب الأميركي ليصبحوا جمهوريين)، وثلاثين سنة من «فوكس نيوز» (التي تعمل بشعار لا تدع الحقيقة تلهيك عن سردك لما تريد)، وبعد 16 سنة على إدارة جورج بوش الابن (اكذب لأنك الأقوى… واغزُ لأنك قادر).
نجح ترامب بأصوات الناخبين البيض المقتنعين بأنهم عرضة للخطر، والميسورين الذين ليس لديهم ما يخسرونه، والعنصريين الذين كانوا مهمّشين حتى ذلك الحين، والأهم، الجمهوريين الذين لم يكن لديهم خيار آخر في نظام الحزبين.
مقابل ذلك، كان التكبر الديمقراطي في أوجّه وكان أقطاب الحزب الأزرق يتناتشون فيما بينهم، المناصب الدسمة في إدارة هيلاري كلينتون الموعودة التي لم تتكلف عناء القيام بحملات انتخابية فعلية باعتبار أن نجاحها مضمون.
تعددت أسباب من أيد ترامب من العرب الأميركيين قبل نجاحه وبعده. قلة من الطائفيين الذين بنوا «ذواتهم وحيثياتهم» على أطلال التجييش الطائفي المربوط بالحروب الأهلية والمحن التي مر بها الوطن الأم من لبنان إلى سوريا إلى العراق ومصر رأت فيه صوتاً لها، وهواة تلفزيون الواقع صوتوا له كـ«معجبين»، ولاحقاً أخذت العواطف مؤيدي الشعب السوري واستبشروا به خيراً، بعد خيبتهم الموصوفة بسلفه باراك أوباما الذي تناسى الخط الأحمر الذي رسمه لبشار الأسد. لم يطل الوقت ليكشف أن من قَلَب الموازين بالشهرة لم يكن يريد إلا المزيد منها. تصرف كأي مندوب مبيعات. باع بالمفرق ولم تكن لديه سياسة ولا استراتيجية حقيقية. بعد رشقات الصواريخ الدعائية على مواقع جرى إخلاؤها قبل القصف، وبعد التصريحات العشوائية استقر الأمر على قائمتيه؛ الأولى والأهم إسرائيلية ترك لها حرية التصرف أينما شاءت، والثانية روسية وأعم، سمحت للمستبد فلاديمير بوتين أن يظهر كزعيم ملهم لدولة عظمى.
الآن وبعد هيزعة الانتخابات الرئاسية الأخيرة ورفض الرئيس السابق الاعتراف بهزيمته، نحن في أميركا مختلفة تماماً، الفاشية فيها أقرب من حبل الوريد.
لم تعد المسألة، الاختيار بين الجمهوريين والديمقراطيين، أو بين المحافظين والليبراليين. الخيار الآن بين الديمقراطية وبين الفاشية، وبلا تهويل ليست لنا مصلحة أو مستقبل في الأخيرة. أميركا التي كانت ملاذنا الآمن وبداياتنا الجديدة ومنطلق أحلامنا الموؤدة في الوطن الأم ومنصة انطلاق أحلام إخوتنا وأبنائنا، هذه الـ«أميركا» لديها صفحات سوداء ومرعبة في تاريخها؛ إبادة السكان الأصليين وتهجير من تبقى منهم على «دروب الدموع»، ونحن لسنا أصحاب حق أكثر منهم، واستبعاد السود وترويعهم حتى بعد تحررهم وبعد النص الدستوري على مساواتهم وحتى يومنا هذا ونحن لسنا أصحاب فضل أكثر منهم، اضطهاد وتهميش ذوي الأصول اللاتينية ونحن لسنا أصحاب أسبقية عليهم، واستبعاد ومنع دخول الآسيويين (وهذا ما كرره ترامب مع دول عربية) ونحن لسنا أصحاب إعمار وابتكارات أكثر منهم (وقد حلّ عشرات الآلاف منهم في معسكرات اعتقال عنصرية أثناء الحرب العالمية الثانية)… وضعنا ترامب في فوهة مدفعه التعسفي وسيقذفنا أولاً إذا عاد.
هذا ليس تهويلاً ولا تخويفاً لغايات سياسية، هذا هو واقع الأمر في أميركا اليوم التي لا يزال ترامب يصول فيها ويجول مطالباً فيها برئاسة خسرها في صناديق الاقتراع ولن يتوانى عن تحصيلها (إذا تمكن) بالافتراء والتزوير. منذ ستة أشهر حذّر ثلاثة جنرالات متقاعدين من القوات المسلحة الأميركية؛ بول إيتون وأنطونيو توبيغا وستيفن أندرسون في مقال نشروه بصحيفة «واشنطن بوست» من احتمال انقياد بعض الضباط الأميركيين الكبار وراء ولاءاتهم الحزبية والقيام بانقلاب عسكري إن لم ترُق لهم نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة. هذا كلام خطير جداً في بلد مثل أميركا كانت حتى الأمس القريب تتباهى بديمقراطيتها الانتخابية التي قد يحسمها صوت واحد.
في هذا المشهد نحن لسنا مجرد متفرجين. فللعرب الأميركيين دور قادر على تفادي هذا السيناريو البشع. الصوت العربي الأميركي في الانتخابات النصفية المقبلة في تشرين الثاني (نوفمبر) من هذا العام (حيث يتم انتخاب كامل أعضاء مجلس النواب الأميركي وثلث مجلس الشيوخ)، وكذلك في الانتخابات الرئاسية المرتقبة عام 2024، يمكنه أن يصنع الفارق خصوصاً في الولايات غير المحسومة سلفاً؛ مثل ميشيغن، بنسلفانيا، أريزونا، وربما أوهايو. إذا صب الصوت العربي الأميركي في هذه الولايات وغيرها لصالح الديمقراطية –ليس من أجل الحزب الديمقراطي وانما تفادياً للفاشية– ستكون محاولات يمين ترامب للعودة إلى السلطة أصعب بكثير.
Leave a Reply