محمد العزير
لفت صديق عزيز نظري بعد مقالتي الأخيرة، إلى أمر يغيب عن اهتمامي وأنا أتناول أهمية الاقتراع العربي الأميركي في الانتخابات المقبلة، ألا وهو الوضع الاقتصادي الراهن في أميركا والتضخم الذي نعيشه، وتوقّع الصديق أن يكون الملف المعيشي سبباً للتصويت ضد الرئيس جو بايدن وحزبه الديمقراطي، لأنهما بنظر الناس مسؤولان عن الغلاء ومشاكل توفر السلع والبضائع والمعدات في الأسواق.
لم تكن أقوال صديقي بعيدة، في التشخيص على الأقل، عن فحوى استطلاع لآراء المسلمين الأميركيين أجراه مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية CAIR يظهر تدني نسبة التأييد لبايدن إلى حدود 28 بالمئة مقابل 49 بالمئة لا يؤيدون أداءه، غير أن أكثرية واضحة 66.9 بالمئة قالت أنها ستصوت للحزب الديمقراطي، و75 بالمئة قالت إنها ستصوت لبايدن مجدداً.
كذلك، ورد في العدد 1900 من «صدى الوطن»، تقرير عن أولويات المرشحين العرب الأميركيين لمجلس نواب ولاية ميشيغن، في ثلاث دوائر تتقاطع في منطقة الكثافة العربية الأميركية بمدينتي ديربورن وديربورن هايتس ومحيطهما وحلت فيها قضايا التعليم والصحة والبنية التحتية في المراتب الثلاث الأولى، دون ذكر للخطر الداهم على الديمقراطية.
بين استطلاع المجلس وتقرير الصحيفة يبدو كلام صديقي في محله تماماً؛ من البديهي أن يهتم المواطن بمعيشته ومستقبل أولاده ومستوى الخدمات المتوفرة له، لكن هذا، وبصرف النظر عن الظرف الاستثنائي جداً الذي تعيشه أميركا وديمقراطيتها، لا يعني حتمية التصويت ضد من في السلطة لأنهم في موقع القرار السياسي تنفيذياً وتشريعياً. قليل من التمعن في الصورة العامة راهناً وبمفعول رجعي ربما يقود إلى نتيجة مختلفة أمام صندوق الاقتراع.
صحيح أن المسؤولية عادةً تلقى على السلطة، لكن الشأن العام يتطلب أكثر من سلوك تلقائي ينجرف خلف الأصوات المعارضة العالية. في نظام الثنائية الحزبية في أميركا حيث يتداول الديمقراطيون والجمهوريون السلطة، من المفيد النظر إلى سجل كل منهما اقتصادياً ومالياً واجتماعياً ليكون للاقتراع الأثر المنشود الأبعد من مجرد التصويت السلبي. منذ العام 1992، لم يسجل المحافظون أي إنجاز يذكر لتحسين الاقتصاد أو الحياة العامة. خسر جورج بوش الأب الرئاسة في ذلك العام، أمام بيل كلنتون حاكم الولاية المغمور في حينه، الذي رفعت حملته الانتخابية شعار «إنه الاقتصاد يا غبي» ليتمكن من إزاحة رئيس حرب الخليج الأولى عن عرش التأييد الذي تجاوز الثمانين بالمئة وحولته إلى رئيس لولاية واحدة فقط. كان واضحاً أن «النجاح الخارجي الباهر» لا يعوّض عن الفشل الداخلي.
كذلك خرج جورج بوش الابن، الذي أمضى فترتي رئاسته محلقاً على قمم التأييد الشعبي بعد الهجمات الإرهابية على واشنطن ونيويورك عام 2001، تاركاً خلفه اقتصاداً مزرياً ينزف حوالي 750 الف فرصة عمل شهرياً، فيما انهارت مصارف عريقة وصارت كبرى الشركات على شفير الإفلاس وهبطت البورصة إلى مستويات قياسية مخيفة جرفت في طريقها مدخرات وبرامج تقاعد الملايين من الأميركيين، وتكرر السيناريو نفسه مع دونالد ترامب آخر رئيس جمهوري في البيت الأبيض، والذي ضرب كل المواثيق والأعراف وأهان موقع الرئاسة وشوّش المكانة الدولية لأميركا، وترك خلفه اقتصاداً متهاوياً وبطالة مستشرية ووضعاً بائساً.
لجيل كامل لم يقدم الجمهوريون أي مشروع أو إنجاز يتصل بمعيشة الناس ورخائهم واستقرارهم المالي والاجتماعي، فمنذ رئاسة رونالد ريغان الصاخبة اقتصر برنامج المحافظين على محورين: الأول تخفيض الضريبة على الأثرياء، والثاني إلغاء الأنظمة والتدابير الحكومية التي تحد من فلتان الشركات الكبرى في تلويث البيئة والتعسف بحق العمال واستغلال الزبائن، مقابل إلغاء التقديمات الصحية والاجتماعية والإنسانية واقتطاع موازنات الصحة النفسية والتأهيل المهني والبرامج المخصصة لمساعدة ذوي الدخل المحدود في مجالي الإسكان والتعليم العالي، وهي السياسة التي تعم اليوم في الولايات التي يحكمها الجمهوريون مضافاً إليها قوانين الحد من الحريات الشخصية.
في ظل تهافت الحجة الاقتصادية لإعادة الجمهوريين إلى السلطة ماذا يمكن القول في الوضع الراهن وهل يتحمل بايدن والديمقراطيون مسؤوليته؟ الجواب البسيط، لا. بعد سنتين ونيف من التعثر الاقتصادي والإقفال شبه العام بسبب عشوائية تعاطي الإدارة السابقة مع جائحة كورونا من الطبيعي أن يزداد الطلب على السلع والخدمات بوتيرة متسارعة مع التعافي التدريجي، لتظهر «آليات السوق» التي ينادي بها المحافظون هشة وغير فعالة، حيث اضطربت عملية الإمداد والاستيراد وانكشفت الشركات الكبرى التي غرفت من المساعدات الحكومية بجشع فلم تكن قادرة على مجاراة السوق ولا على تقدير متطلبات الناس في مختلف القطاعات، بينما لم تتوانَ عن التربح والإستغلال عند المقدرة خصوصاً في مجال المحروقات والنقل والمواد الغذائية.
هذا داخلياً، أما الصورة الأشمل فتبيّن أن التضخم موجة عالمية كاسحة لم يسلم منه أي بلد، وقياساً تبدو أميركا في وضع أفضل من شركائها وأقرانها من أميركا الشمالية إلى الاتحاد الأوروبي وصولاً إلى شرق آسيا. الوجه الآخر للصورة الدولية معروف وواضح يتمثل في تبعات العدوان الروسي على أوكرانيا خصوصاً لجهة انخفاض توريد النفط والغاز من روسيا وتعثر تصدير الحبوب والمحاصيل من أوكرانيا، وليس من باب التبرير القول إن تحميل الحزب الديمقراطي مسؤولية ذلك ليس منطقياً ولا موضوعياً مهما علت صيحات التفجع على شاشات «فوكس نيوز» والإعلام اليميني.
ثمة أمر آخر ينبغي الانتباه منه وهو التوظيف اليميني غير البريء للمسألة الأخلاقية من خلال دغدغة المشاعر الدينية والمحافظة لدى شرائح كبيرة من العرب الأميركيين في موضوعي الإجهاض وحقوق المثليين، فهذا اليمين لم يتورع عن تسليم قياده لدونالد ترامب أكثر السياسيين فساداً وانحلالاً وانحرافاً، واليمين مستعد لأية موبقات وترّهات تمكنّه من تحقيق أهدافه العنصرية التي سيكون العرب الأميركيون أول ضحاياها، لذلك لم يكن عفوياً استقبال عضو الكونغرس العربية الأميركية الهان عمر بصيحات الغضب والاستنكار من قبل جمهور صومالي أميركي في نشاط فني شعبي في دائرتها الانتخابية في مينابوليس بولاية مينيسوتا على خلفية مواقفها المؤيدة للإجهاض والمثليين (راجع العدد 1900 من صدى الوطن). ونحن نعرف من تجاربنا المريرة مقدار حماسة الكثير من الانتهازيين والمتسلقين ليلعبوا دور حصان طروادة في مجتمعاتهم، ولو على حساب أهلهم وإخوانهم وأولادهم من أجل منصب أو فتات نفوذ وحيثية.
لكن النقطة التي لا بد من التركيز عليها هي أن هذا النقاش قد يستقيم في وضع سياسي طبيعي، عندها يكون منطقياً أن يقترع الناخب وفق خيارات اقتصادية واجتماعية وأخلاقية تناسب أهواءه وميوله ومصالحه، ووضع أميركا اليوم مختلف تماماً منذ كشف ترامب وتياره عن الأنياب العنصرية الفاشية الوسخة التي نهشت في السياق الديمقراطي ولا تزال مسنونة ومهيئة لإعادة التاريخ إلى الوراء وحبس أميركا في كيان عنصري أوروبي أبيض وبروتستانتي –على قياس رجال دين الشاشات– لا مكان فيه للمهاجرين والملونين والسكان الأصليين، وهنا مربط الفرس. ليكن الصوت أولاً ضد الفاشية، وبعد هزيمة فيروس ترامب، ليتبارز أصحاب المبادئ المتناقضة ويدافع كل شخص عن عقيدته، حتى ذلك الحين يبقى الحفاظ على الديمقراطية هو الأهم، لأنه بلا ديمقراطية لن يكون لنا وجود ولا مستقبل، فلنهتم بحماية وجودنا ما دام للاقتصاد رب يحميه.
Leave a Reply