محمد العزير
فقد العرب الأميركيون والسكان الأصليون والحياة السياسية أواخر شباط (فبراير) الماضي، شخصية من أبرز الوجوه الشعبية والتشريعية المؤثرة، برحيل أول عضو عربي أميركي في مجلس الشيوخ، الناشط الحقوقي ونصير القضايا الإنسانية والبيئية، مؤسس اللجنة العربية لمكافحة التمييز (ADC) السناتور السابق، اللبناني الأصل، جيمس أبو رزق الذي توفي في منزله في مدينة سو فولز في ولاية ساوث داكوتا يوم ميلاده الثاني والتسعين بعد حياة حافلة بالعطاء والمواقف الإنسانية والريادة في تبنيها.
مثّل أبو رزق في مسيرته الغنية والمميزة الوجه الأكثر ليبرالية وانفتاحاً لجيله، جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي تمرد على الواقع القائم سياسياً واجتماعياً ورفض مواصلة سياسة الفصل العنصري وتهميش الأقليات وهيمنة الشركات الكبرى والتزمت الاجتماعي بموازاة مناوءة الحروب الأميركية، خصوصاً حرب فيتنام، ودعم واشنطن لأنظمة القمع والتسلط في العالم، وكرّس أبو رزق جلّ حياته لنصرة السكان الأصليين (الهنود الحمر) وقضية فلسطين والحقوق المدنية والسياسية للعرب الأميركيين.
ولد جيمس عام 1931، في بلدة وود داخل المحمية الهندية «روزبد» لوالدين مهاجرين من لبنان (بلدة الكفير قضاء حاصبيا في الجنوب) شارل أبو رزق ولينا مايكل اللذين يملكان محلاً تجارياً، بعد تخرجه من الثانوية التحق بقوات البحرية ضمن التجنيد الإجباري (4 سنوات) وخدم لبعض الوقت في اليابان أثناء الحرب الكورية قبل أن يعود إلى أميركا ويحصل على شهادة هندسة مدنية، إلّا أنه لم يستسغ قطاع الهندسة الذي عمل فيه لبضع سنوات وقرر تغيير مساره المهني فالتحق بكلية الحقوق في جامعة ساوث داكوتا ليصبح محامياً عام 1966، وينخرط في العمل العام، الذي قاده إلى مجلس النواب عن الدائرة الثانية في ولايته عام 1970، ليفوز بعد سنتين بعضوية مجلس الشيوخ في انتخابات مثيرة تمكن خلالها من هزيمة شخصيات مؤثرة وعريقة في الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه.
لم يكن على أبو رزق المولود في محمية حكم ذاتي للسكان الأصليين أن يبحث كثيراً عن قضية حق يناصرها، حيث بدأ في سن مبكرة في الدفاع عن حقوق السكان الأصليين خلال مرحلة تميزت بحراك شعبي واسع للأقليات للحصول على المزيد من الحقوق المدنية والسياسية، وتحوّل حتى قبل دخوله الكونغرس إلى صوت مدوٍّ يرفع مطالب السكان الأصليين وخصوصاً الحفاظ على روابطهم العائلية من خلال تعديل قانون التبني الذي نجح –وهو في مجلس الشيوخ– في إدخال تعديلات هامة عليه تقضي بأولوية تبني أطفال السكان الأصليين من قبل عائلات منهم، كذلك عمل على تمكين البرامج التربوية والاجتماعية التي تعزز الهوية الإثنية والثقافية لهم.
في مجلس الشيوخ، ومن على أهم منصة تطل على السياسة العالمية تعرف أبو رزق الذي يتحدث العربية بطلاقة على قضية فلسطين وما يحيط بالعلاقات الأميركية الإسرائيلية من ملابسات والنفوذ الهائل لأنصار إسرائيل في الكونغرس، وبطريقة تليق به، حمل أبو رزق راية قضية فلسطين كقضية حق، وهذا ما قربه أكثر من الشخصيات الناشطة والمؤسسات الطلابية العربية المهتمة بالقضية، ليكتشف أن العرب الأميركيين، كجماعة إثنية من الأقليات المهاجرة، يتعرضون لتمييز مضاعف ويطلق على حالتهم وصف «العداء الآخر للسامية».
بطبيعة الحال تحوّل أبو رزق إلى هدف رئيسي لحملات مؤيدي إسرائيل خصوصاً في الحزب الديمقراطي المكبل بالنفوذ الصهيوني، ومع أن حظوظه للاحتفاظ بمقعده لم تتأثر كثيراً، قرر ألا يترشح مجدداً، وكما أوضح في كتاب مذكراته «إنصح واعترض» كان عليه اذا أراد إعادة ترشيح نفسه أن يساير «الأصدقاء والمتبرعين» وهو أمر لم يتعود عليه. لكن الخطوة الأهم في حياة أبو رزق عربياً، كانت تأسيسه مع مجموعة صغيرة من النشطاء والأصدقاء، «اللجنة العربية الأميركية لمكافحة التمييز» ADC التي فتحت الباب واسعاً أمام الحضور العربي الأميركي سياسياً وإعلامياً وحقوقياً على المستوى الوطني في أميركا وشكلت نقلة نوعية هائلة في العمل العربي الأميركي، وظلت المؤسسة الرائدة لعقدين من الزمن استقطبت خلالهما العشرات من الكفاءات والمواهب الشابة والمتحمسة.
ولعل الحس السياسي والنهج المؤسسي لجيمس أبو رزق كانا من حسن طالع العرب الأميركيين، فتوقيت انشاء اللجنة بعد سنة واحدة من أكبر أحداث شهدتها المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين (كامب دايفيد، الثورة الإيرانية، غزو أفغانستان) كان مفصلياً وحاسماً في تأسيس كيان شامل، ساهمت تجربة أبو رزق الشخصية في وسمه بهوية مقبولة وهي الهوية العربية الأميركية التي كانت تعاني من تحديات هائلة بعد خمس سنوات من الحرب الأهلية في لبنان بكل مؤثراتها الطائفية، وبداية رياح المذهبية المتصاعدة من حرب الخليج الأصلية.
لم تقتصر اهتمامات أبو رزق على قضيتي السكان الأصليين والعرب الأميركيين، بل شملت كل قضايا جيله مع تركيز خاص على مواجهة الشركات الكبرى خصوصاً كارتيلات النفط والصناعات الثقيلة التي تستبيح البيئة وحقوق العمال، كما أولى اهتماماً ملحوظاً بحماية المستهلكين وهو ما قاده إلى زمالة وصداقة دائمتين مع العربي الأميركي الشهير الآخر أيقونة حماية المستهلك، رالف نادر، الذي نعى صديقه واصفاً إياه بأنه «فريد من نوعه … ليس فقط لأنه صادق جداً ومتواضع جداً لكن لأنه كان مستعداً ليكون أقلية ولو من شخص واحد لإبراز محنة المنسيين والمضطهدين والمهمشين».
لم يخش أبو رزق من إعلان موقفه المبدئي في القضايا الدولية ولم يتوان عن التفرد والطيران خارج السرب في وجه السياسة الخارجية الأميركية على غرار مواقفه من السياسات الداخلية. ففي العام 1977 ترأس بعثة رياضية من لاعبي كرة السلة في معهد ساوث داكوتا الجامعي لخوض مباراة ودية مع فريق كوبا الوطني في العاصمة هافانا التي كانت تحت الحصار الأميركي، كذلك تطوع للدفاع عن المصالح الإيرانية بعد أزمة الرهائن في طهران، وكان طوال خدمته في الكونغرس، الصوت المنفرد المعارض لسياسات الاحتلال الإسرائيلي على أرض فلسطين، وأبرز صوت يبادر إلى التحذير من خطر المستوطنات الإسرائيلية على فرص السلام، وأول الداعين لقطع المساعدات الأميركية السخية عن إسرائيل.
ينتمي أبو رزق إلى تلك الشريحة من الرواد الذين يتكفل التاريخ بمنحهم الأهمية التي يستحقونها مع مرور الزمن، صحيح أن الإعلام الأميركي تناول خبر رحيل أبو رزق كسناتور سابق، إلّا أن الراحل الذي عاش حياته بشجاعة نادرة يستحق وداعاً يليق بتلك الحياة… ولو بعد حين.
شيع أبو رزق إلى مثواه الأخير في سو فولز في حفل اقتصر على عائلته، على أن يقام حفل تأبيني له في أيار (مايو) المقبل.
Leave a Reply