بيروت – «صدى الوطن»
مع دخول شهر رمضان المبارك نصفه الثاني، يزداد الغليان في الأراضي المحتلة حتى يكاد يصل مرحلة الانفجار، بينما يواصل المقدسيون خوض معركة حماية المسجد الأقصى، بـ«غطاء» من فصائل المقاومة التي وسعت نطاق عملياتها ليمتد من قطاع غزة، جنوباً، حتى جنوب لبنان شمالاً، وذلك في مشهد أربك حكومة بنيامين نتنياهو المأزومة داخلياً لتتمخض عن ردّ عسكري محدود للغاية كان الغرض منه حفظ ماء الوجه وعدم استفزاز «حزب الله» بالدرجة الأولى، فيما وجهت إسرائيل آلتها الانتقامية إلى المقاومة في غزة التي لم تتوان بدورها عن قصف المستوطنات القريبة، مؤكدةً جهوزيتها لتوسيع المواجهة.
ويخوض المقدسيون معركة حماية المسجد الأقصى بالاعتكاف فيه منذ بداية الشهر الفضيل لمنع الاحتلال من فرض التقسيم الزماني والمكاني عليه، أسوةً بما حاصل في الحرم الإبراهيمي في الخليل. ورغم أن قوات الاحتلال بادرت إلى اقتحام باحات المسجد واعتدت على المرابطين والمعتكفين فيه أكثر من مرة، إلا أن الأهالي كانوا يعودون في كل مرة إلى ملء الباحات متعهدين بمواصلة الاعتكاف حتى نهاية شهر رمضان.
وأثار مشهد اعتداء قوات الاحتلال على المعتكفين في المسجد الأقصى، مواجهات في القرى والبلدات المحيطة بالقدس وفي عدة مدن في أراضي عام 48، وسط إصرار السلطات الإسرائيلية على منع التظاهر نصرة للمسجد الأقصى. واندلعت مواجهات في سخنين والناصرة وأم الفحم، بين شرطة الاحتلال والشبان الفلسطينيين.
وتتطلّع إسرائيل، من وراء تصعيد عدوانها على الأقصى، إلى فرض جملة وقائع، أولاها أنها صاحبة القرار والسيادة على الحرم، وبالتالي هي من يقرّر من يحقّ له دخوله والصلاة والاعتكاف فيه، ومواقيت إغلاقه وفتحه. وانطلاقاً من ذلك، تقتحم قوات الاحتلال، يومياً، المسجد بعد انتهاء صلاتَي العشاء والتراويح، حيث تعتدي على المصلّين وتعمد إلى طردهم. في المقابل، يدرك المقدسيون أن العدو يسعى إلى فرض «التقسيم» على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي في الخليل، وخاصة أن إخلاء الأقصى من المعتكفين، يمهّد لاقتحام آمن ومُريح» له من قبل المستوطنين في صباح اليوم التالي.
وفي سياق انخراطها في معركة حماية الأقصى، أكّدت فصائل المقاومة الفلسطينية أنّ «الاعتداء المتواصل على الأقصى واقتحامات الصهاينة والتهجّم على المرابطين هي عدوان صهيوني خطر يستوجب هبّة شعبية وفصائلية شاملة لإشعال الأرض ناراً ولهيباً».
من جهته، أكد القيادي في حركة «الجهاد الإسلامي» أحمد المدلل أن هناك صراعاً مفتوحاً مع الاحتلال، ولا يمكن للمقاومة أن تقف مكتوفة الأيدي مقابل التمادي في الاعتداءات.
وفي السياق، بحث رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، مع الأمناء العامين لفصائل المقاومة الفلسطينية، في بيروت، تطورات الأوضاع في فلسطين المحتلة، خصوصاً ما يجري من عدوان متواصل على المسجد الأقصى. وفي بيان عقب المباحثات، حمّل هنية حكومة الاحتلال «المسؤولية الكاملة عمّا يجري من عدوان وحشي على المسجد الأقصى المبارك وعلى المصلين والمعتكفين فيه»، مؤكداً أن «شعبنا الفلسطيني وفصائل المقاومة لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا العدوان الغاشم».
وبالفعل، اتجهت أنظار العالم يوم الخميس الماضي إلى الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وسط ترقب وحذر لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور بعد إطلاق عشرات الصواريخ من جنوب لبنان باتجاه الأراضي المحتلّة.
وأدخلت الصواريخ التي انطلقت من لبنان باتجاه مستوطنات الجليل الغربي، مؤسسة القرار السياسي والأمني في إسرائيل في حالة من الإرباك، والضغط ودفعت المنظومة الأمنية إلى إجراء تقديرات للوضع استمرت وقتاً طويلاً في البحث عن القرار الواجب اتخاذه بما لا يؤدي إلى نشوب حرب واسعة مع «حزب الله» في لبنان. وبالتزامن، سادت حالة من الهستيريا بين مستوطني الشمال والجنوب بحسب الإعلام الإسرائيلي.
في هذه الأجواء، وبعد سلسلة مشاورات أجراها نتنياهو مع الجهات الأمنية، حول إطلاق 34 صاروخاً من لبنان، أكد بأن «الجدال الداخلي في إسرائيل لن يمنعنا من العمل ضد أعداء إسرائيل، في كل مكان وعند الحاجة». وأضاف أن «إسرائيل ستخرج موحدة من هذه الحادثة».
ولم يتأخر الرد الإسرائيلي على الصواريخ القادمة من وراء الحدود، لكنه جاء هزيلاً للغاية عبر استهداف منطقة زراعية بين سهل رأس العين ومخيم الرشيدية في قضاء صور، دون أن يسفر العدوان عن إصابات أو خسائر مادية تذكر.
وفي محاولة للتملص من سياسة التصعيد في المسجد الأقصى، أكد نتنياهو أنه «لا يوجد أي اهتمام بتغيير الوضع القائم في الحرم القدسي». ودعا إلى «تهدئة النفوس والعمل بشدة ضد المتطرفين الذين ينتهجون العنف». وتوعد بأن «أعداء إسرائيل سيدفعون الثمن على كل عمل عدواني. وسيكتشفون مرة أخرى أننا في لحظات الاختبار نكون موحدين وندعم الجيش وبقية الأجهزة الأمنية».
مع ذلك، أكدت مصادر أمنية أن إسرائيل تبذل جهودها من أجل الفصل بين الساحات وعدم الانجرار إلى تصعيد شامل، لكن بالطبع مع إعادة الردع. في السياق نفسه، دعا عضو المجلس الوزاري، يسرائيل كاتس، إلى أن يكون «الرد قاسياً، والقادة في غزة يتحملون المسؤولية عن كل ما يعنيه ذلك… وما حدث في لبنان يتطلب رداً قوياً. وإذا تصدع الردع ولو قليلاً، سنصل إلى موقف لا نستطيع أن نواجهه، وعلينا الرد وإعادة الردع».
أما عضو الكابنيت السياسي–الأمني، الوزير بتسلئيل سموتريتش المتطرف، فكتب على حسابه: «في هذه اللحظات نترك كل الخلافات والاتهامات والاعتبارات السياسية ونتحد ضد أعدائنا»، مضيفاً أن إسرائيل «لن تتسامح مع الاعتداءات على مواطنيها، وسيندم أعداؤنا. فالهدف المطلوب توجيه ضربة قاسية للإرهاب وإعادة الردع لإسرائيل». مع الإشارة إلى أن مواقف هذا الوزير لا تعكس بالضرورة توجهات المجلس الوزاري.
وفي موقف يكشف المخاوف والقيود التي تواجهها إسرائيل، ذكرت القناة 13، أن إسرائيل نقلت رسائل إلى الجانب الثاني عبر اليونيفيل، إلى الحكومة اللبنانية، بأن يبقى «حزب الله» خارج هذا الحدث، وأن لا يتدخل. وتوجهت وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى سفراء إسرائيل في الخارج بالتوجه إلى وزارات خارجية الدول التي يتواجدون فيها والتوضيح بأن إسرائيل سترد على إطلاق الصواريخ من لبنان و«ستتخذ التدابير المطلوبة من أجل الدفاع عن نفسها».
وحمّل الجيش الإسرائيلي، الحكومة اللبنانية وحركة «حماس» الفلسطينية، مسؤولية إطلاق الصواريخ، واصفاً ذلك بالحدث الخطير. وأضاف أن «الحديث عن حدث متعدد الجبهات. لكن الفاعل الذي أطلق الصواريخ هي حركة حماس من لبنان».
وليست المرة الأولى التي تطلق فيها صواريخ الكاتيوشا من سهول جنوبي صور باتجاه فلسطين المحتلة. لكن صلية الخميس الماضي كانت الأضخم، حيث تم إطلاق أكثر من ثلاثين صاروخاً على دفعات بُعيد الثانية والنصف من بعد الظهر، من سهل المعلية باتجاه مستوطنات الجليل الغربي. هديرها القوي وشهب النار التي امتدت خلفها كانت واضحة في سماء صور، حيث تمكن عشرات المواطنين من التقاط صور لها وهي تنطلق من مرابضها.
في المقابل، ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن الاحتلال أطلق ستة صواريخ باتجاه لبنان، ونفذ الهجوم على مكتب «حماس» في مخيم الرشيدية في صور.
ويأتي هذا العدوان بالتزامن مع شن الطائرات الحربية الإسرائيلية أيضاً غارات على شمالي قطاع غزة، وعلى جنوبي مدينة غزة.
كما قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي، عدداً من مواقع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بالإضافة إلى أراضٍ زراعية فارغة، في سلسلة غارات هي الأعنف منذ العدوان الأخير قبل نحو عام.
وكررت الطائرات الإسرائيلية غاراتها على أرضٍ زراعية في مدينة بيت حانون شمالي القطاع، بالإضافة لموقع آخر تابع للمقاومة جنوب غربي مدينة غزة، عدا عن موقع تابع للمقاومة شرقي مدينة خان يونس جنوبي القطاع، حيث تصاعدت ألسنة اللهب من الأماكن والمواقع المستهدفة.
من جهتها، سلّطت قناة «كان» العبرية، الضوء على ما سمّته «تآكل قوّة الردع»، قائلةَ: «يجب قول الحقيقة… لقد تآكَل الردع ضدّ غزة، والذي تمّ بناؤه في العامَين الماضيَين». كذلك، تناولت «القناة الـ12» وضْع المستوطنين في غلاف غزة، لافتةً إلى أنهم استيقظوا فجر الخميس وهُم في حالة ذعر شديد، بعدما سمعوا سلسلة من الانفجارات القوية التي هزّت أرجاء «الغلاف»، بفعل صواريخ أرض–جوّ التي أُطلقت من غزة نحو الطائرات الإسرائيلية.
ردود فعل
توالت ردود الفعل الدولية إزاء الأحداث، حيث برز الموقف الأميركي المندّد بإطلاق الصواريخ من لبنان من دون الإشارة إلى الاعتداءات والاستفزازات الإسرائيلية المتكررة في المسجد الأقصى، أو الدعوة إلى تجنّب التصعيد، وذلك على لسان المتحدث باسم الخارجية فيدانت باتيل قائلاً للصحافيين: «ندين إطلاق صواريخ من لبنان وغزة على إسرائيل». وبينما شدّد باتيل على التزام الولايات المتحدة «الراسخ» في ما يتعلّق بأمن إسرائيل، قال: «نقرّ بحقّ إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها ضدّ أيّ شكل من أشكال العدوان».
وبحسب مسؤول إسرائيلي أفاد موقع «أكسيوس» الأميركي، أن الولايات المتحدة «منعت إصدار بيان صحافي لمجلس الأمن الدولي بشأن مداهمة الشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى».
ومن جهتها، ندّدت فرنسا أيضاً بـ«إطلاق صواريخ في شكل عشوائي استهدفت الأراضي الإسرائيلية انطلاقاً من غزة وجنوب لبنان»، داعيةً إلى «ضبط النفس». وقال مساعد المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية فرنسوا ديلما: «في هذه الفترة من الأعياد الدينية، تدعو فرنسا جميع الأطراف إلى أقصى قدر من ضبط النفس وتجنّب أيّ عمل من شأنه تأجيج تصاعد العنف».
وندّدت «الأمم المتحدة» بإطلاق الصواريخ من لبنان، بالقول: «ندين إطلاق الصواريخ العديدة من لبنان على شمال إسرائيل اليوم»، ودعت «جميع الأطراف إلى ممارسة أكبر قدر من ضبط النفس»، وفق المتحدث ستيفان دوجاريك.
وشدّد دوجاريك على ضرورة «تجنب أي فعل أحادي الجانب قد يؤدي إلى تصعيد جديد للوضع»، مكّرراً بذلك دعوة قوة الأمم المتحدة الموقتة في جنوب لبنان (يونيفيل) إلى «تجنّب المزيد من التصعيد».
أمّا عربياً، فقال وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، خلال مقابلة أجراها مع شبكة «سي أن أن» إن «هذه لحظة خطيرة عملنا على تجنبها لأشهر»، مضيفاً إن «ما نراه يتجلى على الحدود اللبنانية هو نتيجة عمل لما رأيناه يحدث في الأقصى».
وكانت وزارة الخارجية السعودية قالت، في بيان، إنها «تتابع بقلق بالغ اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي لباحات المسجد الأقصى الشريف، والاعتداء على المصلين، واعتقالها عدداً من المواطنين الفلسطينيين». وإذ أدانت الاقتحام الذي وصفته بـ«السافر»، عبّرت عن «رفضها القاطع لهذه الممارسات التي تقوّض جهود السلام وتتعارض مع المبادئ والأعراف الدولية في احترام المقدسات الدينية»، مؤكّدة على «موقفها الراسخ في دعم جميع الجهود الرامية إلى إنهاء الاحتلال والوصول لحلٍّ عادل وشامل للقضية الفلسطينية».
Leave a Reply