أثار مقترح تقسيم بلدية ديربورن إلى سبع دوائر انتخابية، تحت عنوان حفظ حقوق السكان في جميع أجزاء المدينة، موجةً جديدةً من أصوات النشاز التي تكاد لا تفوت فرصةً إلا وتبثّ فيها سموم الجهل والتحريض التي تهدف إلى عزل الجالية اليمنية عن بقية مكونات المجتمع العربي في ديربورن، وتحديداً اللبنانيين، بتهمة أنهم أكلوا البيضة والتقشيرة ولم يتركوا لأشقائهم اليمنيين أية مناصب أو منافع في دوائر القرار المحلية.
موجةً جديدةً من أصوات النشاز التي تكاد لا تفوت فرصةً إلا وتبثّ فيها سموم الجهل والتحريض التي تهدف إلى عزل الجالية اليمنية عن بقية مكونات المجتمع العربي في ديربورن
ففي السنوات الأخيرة، ومع كل سباق انتخابي بلدي أو تربوي أو مناقشة مرسوم أو استفتاء عام في ديربورن، تعلو مجدداً تلك الأصوات المثيرة للشفقة والاشمئزاز والريبة في آن، سواءً عبر حملات بعض المرشحين الطامحين أو النشطاء الباحثين عن قضية أو فرصة للظهور، ناهيك عن الذباب الإلكتروني المرافق الذي لا يتوانى عن نشر الأكاذيب والشتائم والتحليلات الغبية لمجريات الشأن العام.
لا نريد أن نذهب بعيداً ونقول إن هؤلاء هم مجرد أناس مأجورين ومدفوعين لتشتيت شمل العرب الأميركيين عبر إثارة النعرات الوطنية والدينية، أو أنهم مجرد باحثين عن الشهرة يدفعهم الحماس لركوب الموجة ظناً منهم أنها ستحملهم إلى المناصب أو الزعامة، كما لا نريد أن نجزم بأنهم مجرد مجموعة من الجهلة الذين لا يفقهون شيئاً من تاريخ ديربورن ودينامية تطورها السياسي، إذ أنهم في الواقع خليط من كل هذا.
لا ينكر عاقل بأن اللبنانيين في ديربورن باتوا اليوم يتمتعون بمكانة مرموقة في مختلف دوائر القرار، وقد وصلوا بالفعل لأعلى المناصب البلدية والتربوية والقضائية في المدينة، غير أن ذلك لا يجب أن يكون مثاراً للتعجب أو الضغينة أو الغيرة أو نظريات المؤامرة، لأن ذلك ناجم ببساطة عن نتيجة طبيعية للمسار التاريخي لمدينة ديربورن منذ نشأتها عام 1928.
فعلى مدار القرن الماضي، تغيرت تشكيلة السلطة السياسية في ديربورن، تبعاً لتغيرات النسيج الديموغرافي للمدينة، ففي البداية كان الإيرلنديون هم أصحاب القرار ثم جاء الطليان وبعدهم البولنديون قبل أن تتوالى موجات الهجرة العربية إلى المدينة، وفي مقدمتها هجرة اللبنانيين التي بدأت في أواخر السبعينيات وتكثفت في الثمانينيات وما بعدها.
صحيح أن وجود اليمنيين في ديربورن يعود إلى ما قبل السبعينيات بكثير، بل إلى ما قبل نشأة المدينة بحدودها الحالية، إلا أنه ظل محصوراً لغاية العقد الماضي ضمن منطقة «الساوث أند»، أو ما يعرف بحيّ «ديكس»، وهو حيّ سكني صغير يقع ضمن منطقة صناعية ثقيلة في الطرف الجنوبي من المدينة.
في ذلك الوقت، كان اللبنانيون الذين هجّرتهم الحرب الأهلية والاجتياحات الإسرائيلية لوطنهم الأم، قد بدأوا منذ الثمانينيات بالانتشار في الأحياء الشرقية من ديربورن، واحتاجوا إلى أكثر من عقدين من الزمن ليظهروا على الخارطة السياسية في المدينة.
لقد اشترى اللبنانيون المنازل والمباني التجارية والصناعية في ديربورن من الإيرلنديين والطليان والبولنديين، وأعادوا إعمار الجانب الشرقي من المدينة إثر التدهور الذي أصابه بعد تحوله إلى شبه «منطقة عازلة» عن ديترويت خلال فترة الاضطرابات العنصرية بين السود والبيض، ابتداء من أحداث 1967.
اللافت في تجربة اللبنانيين في ديربورن، أنهم لم يخوضوا معركة حقوقهم أو حملاتهم الانتخابية باسم الهوية اللبنانية قط، كما أنهم لم يستهدفوا أي فئة محددة من السكان البيض الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان ديربورن، سواء الإيرلنديون أو الطليان أو البولنديون أو غيرهم من ذوي الأصول الأوروبية، بل انضووا تحت شعار العروبة في جميع معاركهم
تمدد اللبنانيون في شرق ديربورن مستفيدين من نزوح السكان البيض، وكان مصدر رزقهم الأول محطات الوقود في ديترويت التي مكنتهم -رغم الأثمان الباهظة والمآسي المؤلمة- من الازدهار المالي والتوسع التجاري والاهتمام في التعليم وصولاً إلى مجمل الإنجازات التي يحققونها اليوم.
واللافت في تجربة اللبنانيين في ديربورن، أنهم لم يخوضوا معركة حقوقهم أو حملاتهم الانتخابية باسم الهوية اللبنانية قط، كما أنهم لم يستهدفوا أي فئة محددة من السكان البيض الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان ديربورن، سواء الإيرلنديون أو الطليان أو البولنديون أو غيرهم من ذوي الأصول الأوروبية، بل انضووا تحت شعار العروبة في جميع معاركهم باعتباره السبيل الوحيد لخلق حالة سياسية ضاغطة لفرض تمثيل عرب المدينة بعد عقود من التهميش والاستهداف العنصري.
وهكذا، نجد أن معظم المنظمات التي أسسها لبنانيون أو شاركوا في تأسيسها كانت تحمل صفة عربية شاملة، وتضم عرباً من جميع الخلفيات الدينية والوطنية، مثل المركز العربي «أكسس» ولجنة «أيباك» AAPAC السياسية و«صدى الوطن» (جريدة العرب في أميركا الشمالية) و«الرابطة العربية الأميركية للحقوق المدنية» ACRL وغيرها من المؤسسات التي قامت على فكرة توحيد الصف العربي وخلق بيئة مرحبة بهم في ديربورن التي سرعان ما تحولت إلى «عاصمة العرب الأميركيين».
وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن «النادي اللبناني الأميركي للتراث» كان أبرز منظمة تتبنى الهوية اللبنانية في ديربورن، إلا أنه قام قبل سنوات بتغيير اسمه إلى «قادة لتقدم ومساعدة المجتمعات» LAHC، في خطوة تهدف إلى توسيع آفاق المؤسسة وخدماتها لتشمل الجميع، بغض النظر عن جذورهم وخلفياتهم الوطنية والدينية.
لا شك في أن وصول مسؤولين من أصل لبناني إلى سدة القرار احتاج إلى تضافر جهود جميع مكونات الجالية العربية، وفي مقدمتهم اليمنيون والعراقيون وغيرهم من الناخبين العرب في ديربورن. غير أن المنصف يرى أيضاً أن ذلك أمر طبيعي ومستحق وله أسبابه الموضوعية والتاريخية، نظراً لأسبقية اللبنانيين في «فتح» شرق ديربورن وقيادة خروج العرب من «ديكس».
وإذا كان اللبنانيون قد اشتروا منازلهم ومبانيهم التجارية في ديربورن من الإيرلنديين والطليان والبولنديين، فإنهم باعوها أو سيبيعونها لإخوانهم العرب وفي مقدمتهم اليمنيون والعراقيون، ليواصلوا بناء الهوية العربية في المدينة التي تستمر باجتذاب المهاجرين العرب من جميع أنحاء الولايات المتحدة.
من المؤسف حقاً أن وصول اللبنانيين إلى قمة السلطة في ديربورن، لم يحبط السكان البيض بقدر ما أحبط بعض الأصوات الناشزة التي تدعي الغيرة على المجتمع اليمني، وتصوب سهام التحريض على إخوانهم اللبنانيين، وكأن كل نجاح لبناني لا يأتي على حساب اليمنيين.
ففي زمن التحريض المذهبي والتشرذم القومي، لا يتوقعن أحد أن أمراً كهذا سيمر مرور الكرام، فالمتصيدون في الماء العكر ممن ينظرون بحسد وبـ«ضيقة عين» إلى إنجازات الآخرين، لن يفوتوا فرصة كهذه لتأليب مكونات الجالية على بعضها البعض غير آبهين بالسموم التي ينفثونها ويورّثونها للأجيال الجديدة التي من صالحها أن تنبذ كل الخلافات والحساسيات بين العرب الأشقاء.
لا يخفى على أحد أن مصلحة الجالية اليمنية لا تكمن في الانعزال ومعاداة الجالية اللبنانية، وإنما في البناء على تجربتها وإثرائها لكي تواصل مسار النجاح والازدهار الذي حققته في السنوات الماضية التي شهدت تطوراً لافتاً في واقع اليمنيين بمنطقة ديترويت لنواحي العمل والتعليم والاستثمار والانخراط المجتمعي والسياسي. ونحن كلنا ثقة بأن المستقبل سيكون حليفهم في قادم الأيام. ولكن ذلك يتطلب بعض التروي والتعاون ورفض الأصوات الانعزالية والتمييزية.
بل إن أسوأ ما في حملات تحريض اليمنيين التي يخوضها بعض المرشحين والنشطاء والذباب الإلكتروني بين الفينة والأخرى -إلى جانب الخطاب المذهبي طبعاً- هو التهجم على الشخصيات اليمنية المحلية التي أعطت عقوداً من عمرها لصناعة النهضة العربية في المدينة بالتعاون مع أشقائهم العرب الآخرين.
إن تجربة اليمنيين في مدينة هامترامك ووصولهم إلى أعلى مراكز السلطة فيها، هو أبلغ دليل على التجربة اللبنانية ودور الأسبقية التاريخية في الوصول إلى طاولة القرار، وما حققه اليمنيون في هامترامك يشكل مصدر فخر واعتزاز لجميع العرب، ولا نتوقع أن يكون محل احتجاج أي مكون عربي آخر من مكونات المدينة.
ولا يتورّع المحرّضون عن اتهام هؤلاء النشطاء المخضرمين بالضعف والاستسلام للبنانيين، أو السخرية منهم والاستهزاء بمشاركاتهم في الفعاليات العامة بتهمة حب الظهور والتقاط الصور مع المسؤولين. أما هم فيحق لهم نشر الأكاذيب واتهام الناس زوراً ورميهم بالباطل، لأنهم هم وحدهم يريدون مصلحة اليمنيين التي لا يرونها إلا على حساب اللبنانيين.
إن تجربة اليمنيين في مدينة هامترامك ووصولهم إلى أعلى مراكز السلطة فيها، هو أبلغ دليل على التجربة اللبنانية ودور الأسبقية التاريخية في الوصول إلى طاولة القرار، وما حققه اليمنيون في هامترامك يشكل مصدر فخر واعتزاز لجميع العرب، ولا نتوقع أن يكون محل احتجاج أي مكون عربي آخر من مكونات المدينة.
من نافل القول، إن أميركا هي أرض الفرص والجني لكل ساع ومصمم على تحقيق مطامحه، وفي هذه البلاد يصح المعنى الإيجابي لعبارة «من يزرع يحصد»، ولكن الصحيح أيضاً أن من يزرع الريح يحصد العاصفة، ومن يزرع البغضاء فلن يحصد إلا الحسرة.
ما حققه اللبنانيون واليمنيون والعراقيون وسائر العرب في ديربورن، هو محل فخر لنا جميعاً. فلنحافظ عليه بنبذ أصوات النشاز والتحريض
إننا على إيمان راسخ، بأن مستقبل ديربورن لن يكون مشرقاً إلا في حال تعايش المكونات العربية مع بعضها البعض وتعاونها مع بقية أطياف المجتمع لتحقيق المزيد من المكتسبات للأجيال القادمة.
ما حققه اللبنانيون واليمنيون والعراقيون وسائر العرب في ديربورن، هو محل فخر لنا جميعاً. فلنحافظ عليه بنبذ أصوات النشاز والتحريض، من قبل بعض الطامحين الموتورين والرويبضات التافهين الذين يتحدثون بأمور العامة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
«صدى الوطن»
Leave a Reply