كتب محمد العزير
قبل دونالد ترامب، وقبل تاكر كارلسون وشون هانيتي وبيل أورايلي وكل «فوكس نيوز»، وقبل أليكس جونز وآندرو بريبارت وستيف بانون وبن شابيرو و«ماكس نيوز» و«أي أو أن»، وحتى قبل نيوت غينغرتش وغريغ آبوت وتيد كروز و«حزب الشاي» والحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وحرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، قبل كل هؤلاء، وكل ذلك، كان هناك على التقاطع الذي توج «القرن الأميركي» سبّاقٌ بين رواد الاستثمار الشمولي في كل ما توفره الهيمنة الكونية التي تمتعت بها الولايات المتحدة بعد انفرادها بتكريس الانتصار على الفاشية في الحرب العالمية الثانية لصالحها وعزل الفاعل الأكبر، الاتحاد السوفياتي خلف ستار حديدي تحرسه الحرب الباردة، كان ماريون غوردن (پات) روبرتسون يخلط الدين والسياسة والإعلام والتجارة والمناجم في قالب من الوقاحة والتعصب والكراهية والاستعلاء ويموّه وجه «اليانكي» البشع بابتسامة عريضة.
بكّر روبرتسون بانتهازيته المدربة في استشراف مرحلة ما بعد إقرار الحقوق المدنية والسياسية للنساء والأقليات، والذي تمّ بسبب الاحتياجات الهائلة للاقتصاد الأميركي الذي كان يوازي في حينه ما يقارب نصف الناتج القومي لبقية دول العالم، واستشف من ردود الأفعال المبكرة على التغيير السياسي أن دينامية داخلية جديدة ستنشأ في الفجوة المتنامية بين الشعارات المبدئية وبين الحقائق، وأن «البراغماتية» تعني تقديم المصلحة على الحق، يتساوى في ذلك تسفيه مبدأ المساواة محلياً ومبدأ حقوق الإنسان وحرية تقرير المصير دولياً، وحقيقة أن دول العالم الثالث ستتوسل بعض التنمية والتمويل من واشنطن مباشرة أو عبر صندوق النقد الدولي بعدما استعادت أوروبا أنفاسها بفضل «مشروع مارشال»، وأن الدين سيكون السيف المسلط في وجه الشيوعية، وأن التلفزيون سيحتل مركز الصدارة الإعلامية وأن الهوية البيضاء ذات الأصل الأوروبي في حاجة إلى حصر إرث يضعها في أيدٍ أكفأ من شخصانية النازية المدمرة.
كان يحلو لروبرتسون الذي رحل الأسبوع الماضي عن عمر يناهز 93 عاماً، أن يكرر في سردياته الشفهية والخطية، تلك المعزوفة الأميركية الشهيرة عن الانطلاق من الصفر والمعاناة المالية والمعيشية قبل تحقيق الحلم الكبير بفضل العمل الجاد والإيمان، وهو ينافق في ذلك كما نافق طوال حياته في كل شيء، فهو ابن الثري والمحامي والسياسي العنصري أبشالوم ويليس روبرتسون الذي أمضى قرابة ستة عقود في مناصب منتخبة، منها 23 عاماً في مجلس النواب الأميركي وعشرين عاماً في مجلس الشيوخ الأميركي ممثلاً ولاية فرجينيا التي خدم في مجلسها التشريعي أيضاً كعضو في مجلس الشيوخ عن الجناح الجنوبي في الحزب الديمقراطي والذي رفض بالمطلق تبني الحزب للحقوق المدنية والانفتاح. لم يرث «پات» عن أبيه المال والنفوذ والعلاقات والعنصرية فقط، بل ورث أيضاً عن أمه غلاديس تشرشل ويليس، التي كانت تتباهى بأنها سليلة بيت سياسي أعطى أميركا أباً مؤسساً هو بنجامين هاريسون الخامس، ورئيسين هما وليام هنري هاريسون وبنجامين هاريسون، موهبة استخدام الكنيسة لأهداف سياسية، لذلك عندما تخرج من كلية الحقوق في جامعة «يال» العريقة تجنبّ مهنة المحاماة وحصل على ماجستير في اللاهوت ورُسم قسّاً في الكنيسة المعمدانية عام 1959.
عندما علم روبرتسون من والدته فور ترسيمه أن محطة تلفزيون محلية في مدينة بورتسموث في ولاية فرجينيا معروضة للبيع تمكن من جمع 300 ألف دولار دون الحاجة إلى قرض مصرفي واشتراها وحولها إلى أول محطة تلفزيونية دينية متكاملة باسم «شبكة البث المسيحي» Christian Broadcasting Network، لكنه لم يحصر برامجها في الدين، بل أضاف إليها برامج عائلية وترفيهية رصينة ما لبثت أن تفرعت إلى محطة ثانية باسم «قناة العائلة» Family Channel ليتمكن من إذاعة وبيع الإعلانات التجارية وكان أول من استخدم الكايبل وخدمات البث الفضائي، ولاحقاً باع المحطة الجديدة لشركة «فوكس» بـ1.9 مليار دولار مع احتفاظه بحقّ بثّ برنامج ديني من خلالها أسبوعياً وهو ما ظل سارياً حتى بعد شراء «ديزني» للمحطة وضمها إلى باقة شبكة «أي بي سي».
استهل روبرتسون مشواره الإعلامي بتفعيل علاقات والده السناتور وناشد من على الشاشة، المشاهدين ليتبرع 700 منهم بمبلغ 10 دولارات شهرياً لدعم المحطة، وتم له ذلك بسرعة، ومن هنا جاءت تسمية «نادي الـ700» التي لازمت عمله التبشيري الذي كان واجهة مزدوجة لأيدولوجيته الدينية المتزمتة من جهة ولأعماله التجارية من جهة ثانية. وقد اعتمد في سعيه إلى توسيع إطار نفوذه عبر بثه التلفزيوني عالمياً على أعتى الأنظمة القمعية والعنصرية من الدكتاتوريات العسكرية في أميركا الجنوبية وشرق آسيا إلى نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وحتى إسرائيل التي ساهم في دعم احتلالها للبنان من خلال إنشاء محطة تلفزيون الشرق الأوسط لتكون الذراع الإعلامي لميليشيات «جيش لبنان الجنوبي» العميلة لإسرائيل وتزويدها ببرامج مشوّقة وجذّابة بحجّة التبشير المسيحي.إلا أن الحكاية الأبرز في مسيرة روبرتسون كانت في القارة السمراء حيث كان يمتلك منجماً للذهب في ليبيريا بالشراكة الصورية مع الديكتاتور تشارلز تايلور الذي أدانته المحكمة الدولية بجرائم حرب، ومنجم ألماس في زائير سابقاً، بمشاركة الديكتاتور موبوتو سيسي سيكو، وكان يستخدم طائرات يستأجرها باسم الدين لنقل المعدات وفرق العمل إلى المنجمين على حساب المتبرعين في رحلات تعود بالذهب والماس إلى أميركا دون كشف جمركي باعتبار أن القسّ محمي حكومياً من الحزب الجمهوري ولا يجرؤ أحد على مواجهته، وفي المرات القليلة التي تمت إدانته بخرق القانون كانت الأمور تسوّى ودياً من خلال صفقات تدار لمصلحته خارج المحكمة.
كانت المناجم وتجارة المجوهرات والاستثمارات الإعلامية الوجه الخفي لروبرتسون، أما الوجه المعروف على الشاشة فكان ذا حدّين؛ الحد الأول تبشيري بنكهة قيامية يدّعي فيه القسّ تواصلاً دائماً مع السيد المسيح الذي يسدد خطاه العملية وينبّئه بالتطورات السياسية المحلية والدولية (التي لم يتحقق شيء منها)، فيبتّ بأن الكوارث الطبيعية وحتى الأعمال الإرهابية هي عقاب من الله للبشر على رذيلتهم، ويقدم نفسه على أنه ممثل الله على الأرض وهو على الحق والآخرون على باطل يتراوح بين ضلال بقية الطوائف البروتستانتية وجهنمية الكنيسة الكاثوليكية وبين شيطانية البوذية والهندوسية، لكن الحصة الأكبر كانت للإسلام الذي نعته بأبشع الأوصاف وصولاً إلى اعتبار أنه ليس ديناً وإنما «حركة سياسية بلبوس ديني»، كما كان دائم التحريض على العرب الذين اتهمهم باستعباد الأفارقة وإرسالهم إلى أميركا! وكان يخصّ الفلسطينيين بحقد «صهيوني» نافر إلى درجة كان يدعو فيها المؤمنين من أتباعه للصلاة من أجل عدم قيام دولة فلسطينية.وحدها إسرائيل لم تزعج خاطره ولم يختلف معها إلا مزاودة عليها حين اعتبر أن رئيس حكومتها المتطرف آرييل شارون أصيب بالفالج لأنه تخلى للفلسطينيين عن «أرض الميعاد» في قطاع غزة، لكن إسرائيل لم ترض بذلك وهددته بوقف التعاون التجاري معه فاعتذر علناً وواصل دعمها بكل زخم على شاشته.
أما الحد الثاني فكان سياسياً متزمتاً تبنّى سياسة التحول الجنوبي (عنصرياً) للحزب الجمهوري وأنشأ –بعد خسارة معركة ترشحه لتزكية المحافظين للرئاسة عام 1988– التحالف اليميني المسيحي The Christian Coalition الذي ضم آلاف النشطاء ولعب دوراً بارزاً في إعادة الحزب الجمهوري إلى الغالبية في الكونغرس عام 1994، بعد عقود طويلة في الأقلية، كما شكل رأس حربة الهجوم في المعارك الثقافية والأخلاقية من الإجهاض إلى المثلية الجنسية إلى المساواة والحقوق الجندرية ومحاربة سياسة الفعل الإيجابي Affirmative Action التي كانت مخصصة للتخفيف من الظلم التاريخي اللاحق بالملونين والسكان الأصليين والنساء والأقليات من خلال توفير فرص تعليم واستثمار تفضيلية لهم، وقاد حملة شعواء ضد التوجهات الليبرالية في الجامعات والمعاهد، وكان من المؤثرين في تحويل الهجرة واللجوء إلى ورشة تهويل وتخويف لاستقطاب الناخبين الريفيين ذوي الأصول الأوروبية.
عاش روبرتسون حياته كملك غير متوّج، له امتيازات حصرية تحميها نخب سياسية تحتاج إليه، ووسّع الثروة التي ورثها عن عائلته إلى إمبراطورية ذات آفاق مليارية، وكان خيرَ ممثل للحقبة التي عاش فيها، حقبة التوسع الأميركي بين قطبي العنجهية والذرائعية، ومات بعد أن أورث ولديه جناحي مسيرته؛ الأعمال والمناجم والتجارة لتيموثي، والتلفزيون والتبشير لغوردن الذي يشبهه كثيراً وتتلمذ على يديه لعقود طويلة.
إنه عمر من التربح والإثراء المتخمين بالحقد والتعصب والتجبر خلف ابتسامة عريضة.
Leave a Reply