وفيقة إسماعيل – صدى الوطن
سرقت حادثة شاحنة الكحالة الأضواء وطغت على ما عداها من أحداث، ولا سيما أنها أتت بعد سلسلة من المحطات الأمنية التي تذكّر بتفاصيل السناريو الأسود الذي سبق اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. فمن حادثة القرنة السوداء التي قُتل فيها شابان من آل طوق، إلى اشتباكات عين الحلوة، مروراً بمقتل الياس الحصروني المسؤول «القواتي» في بلدة عين إبل، وليس انتهاءً بشاحنة الكحالة. خضّات أمنية متنقّلة تشي بأنها من صنع غرفة عمليات واحدة، تسعى إلى تفجير البلاد أمنياً بعد أن استعصى إخضاعها اقتصادياً، رغم كل الضغوط التي مُورست عليها. فماذا حدث في الكحالة بعد ظهر الأربعاء الماضي؟
انقلبت شاحنة عند «كوع الكحالة» وهو أمر اعتيادي يكاد يحدث يومياً بالنظر إلى خطورة المنعطف وشدة انحداره، وبطبيعة الحال ترجّل عدد من الأفراد الذين كانوا يستقلّون الشاحنة ويرافقونها محاولين معالجة الأمر واستدعوا رافعة لإزالتها من المكان بعد أن تسببت بزحمة سير. وفيما هم كذلك تجمّع عدد كبير من الأشخاص وبدأوا برشقهم بالحجارة مانعِين الرافعة من التقدم لسحب الشاحنة ومطالبِين بمعرفة محتواها ومصادرته! وهو ما رفضه أصحاب الشاحنة طبعاً، فوقع تلاسن واشتباك بالأيدي بينهم وبين المتجمهرين، تطوّر إلى قيام أحد هؤلاء بإطلاق النار على سائق الشاحنة فأرداه على الفور، وكتصرف بديهي، ودفاعاً عن النفس، رد رفاق الشاب القتيل على مطلق النار وأردوه أيضاً. في هذا الوقت وصلت قوة كبيرة من الجيش اللبناني وعملت على منع تفاقم التوتر، وقامت لاحقاً بإخلاء الشاحنة وسط هتافات المتجمهرين التي علت بالشتم والكلام النابي للجيش ولـ«حزب الله» وأمينه العام.
بعض وسائل الإعلام اللبنانية كعادتها استغلت الحادثة لتنفخ في نار الفتنة وتؤججها، ففتحت الهواء ونقلت بالبث المباشر التجمع في الكحالة الذي كان حافلاً بالخطاب الطائفي والتحريضي والمستهجَن، وشارك فيه عدد من «نواب الشعب» التغييريين والحزبيين وغيرهم، في صورة قاتمة من صور الحرب الأهلية البغيضة التي عاشها لبنان لمدة 15 عاماً. الغريب في الأمر أنه منذ بدء الإشكال بعد الظهر وحتى منتصف الليل تقريباً، كانت وسائل الإعلام المعادية لـ«حزب الله» تنقل احتجاج أهالي الكحالة وغضبهم إزاء مقتل ابن منطقتهم فادي بجاني ــ الذي كان أحد مرافقي إيلي حبيقة المتهم بارتكاب مجزرتي صبرا وشاتيلا ــ من دون ذكر مقتل الشاب أحمد قصاص لا من قريب ولا من بعيد، علماً بأن الفيديوهات التي امتلأت بها مواقع التواصل الاجتماعي توثّق وتثبت بما لا يقبل الشك أنه قُتل أولاً وردَّ رفاقه تالِياً على مطلق النار دفاعاً عن النفس، فمَن يدري ربما كانت النية قتلهم جميعاً! أسئلة عديدة تُطرح هنا وبقوة: هل يحدث ما حدث كلّما انقلبت شاحنة في المنطقة؟ ثم ما علاقة أهالي المنطقة بحمولة الشاحنة مهما كانت؟ وما هي المشكلة في أن الحمولة كانت سلاحاً أو ذخائر للمقاومة في بلد يتعرض للتهديد كل يوم من عدو يجثم عند حدوده ويحتل جزءاً من أرضه؟ من المستفيد من اعتراض طريق سلاح المقاومة غير إسرائيل؟ ألم تكن وجهة هذا السلاح الجنوب؟ أليست وظيفة هذا السلاح حماية الوطن وحدوده؟ ألم يحمِ هذا السلاح الوطن من الإرهاب؟ ألم يستعِد القرية المسيحية التاريخية «معلولا» في سوريا وكان الشاب أحمد قصاص واحداً من الذين أضاؤوا الشموع أمام تمثال السيدة العذراء فيها؟ والسؤال الأهم والأخطر هو: هل أن ما حدث كان تصرفاً فردياً أم بأوامر وتكليف من جهة معينة هدفها استدراج «حزب الله» إلى إطلاق النار؟ القاصي والداني يعلم أن الحزب يستخدم هذا المسلك منذ وقت طويل لنقل عديده وعتاده فما الذي تغيّر اليوم؟ ولماذا هذا الاعتداء الموصوف في وقت شديد الحساسية كالذي نحن فيه؟
بعد صمت استمر عدة ساعات، أصدر «حزب الله» بياناً اتهم فيه عدداً من المسلحين بالاعتداء على الشاحنة ومَن فيها برشق الحجارة ثم بإطلاق النار، وختم بيان الحزب بأنه يضع الأمر في عهدة الجيش اللبناني الذي أصدر بدوره بياناً قال فيه إن إشكالاً حصل بين مرافقي الشاحنة والأهالي ما أدى إلى سقوط قتيلين وتابع البيان: حضرت قوة من الجيش إلى المكان وعملت على تطويق الإشكال ونقلت حمولة الشاحنة إلى مركز عسكري وبوشر التحقيق بإشراف القضاء المختص.
على الأرض، وبعد أن أصرّ بعض المحتشدين ليلاً على قطع الطريق، خفّ منسوب التوتر صباحاً وانتشر عناصر الجيش وآلياته في نقاط مختلفة قريبة من الكحالة وجوارها بعد أن أزالوا الشاحنة من مكانها وفتحوا الطريق.
مواقع التواصل الاجتماعي ضجّت بعدد من الوسوم والمنشورات والتغريدات التي وثّقت الحادثة وتناقل معظم الناشطين منشوراً بعينه يقول باستغراب: #الشاحنة_انقلبت_في الكحالة_أم_في_تل أبيب.
كما طرح آخرون معادلة وطنية قانونية بسيطة: أما وإنّ الشاحنة تعود للمقاومة التي حررت لبنان، وما زالت تحميه في وجه الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية، فإن المطلوب هو فتح تحقيق جدي وملاحقة المعتدين على الشاحنة وطاقمها وإنزال أقصى العقوبات بحقهم بتهمة العمالة والخيانة الوطنية.
لقاء القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية اللبنانية أدان الاعتداء من قبل مسلحين لبعض الميليشيات على الشاحنة داعياً إلى توقيفهم معتبراً أنه يقدم خدمة مجانية لإسرائيل ويستهدف عامل القوة الذي يؤمن الحماية للبنان وثرواته.
البعض ربط بين سلسلة الأحداث الأمنية التي وقعت في الآونة الأخيرة وبين بيان السفارة السعودية الأسبوع الماضي، والذي تضمّن دعوة رعاياها إلى المغادرة وتفاجأ به اللبنانيون، مثيراً حالاً من البلبلة، ولاسيما أنه صدر بعد انتهاء أحداث عين الحلوة، وبالتالي هو لم يكن مبرَّراً، لكنه يعني في ما يعنيه أن ثمة شيئاً ما كان يُعَدُّ للبنان، كانت الرياض على علم مسبق به، وفق مراقبين.
إسرائيل من جهتها لم تفوّت الفرصة، فحيّا بعض قادتها الموقف «الشجاع» لعناصر حزبي «القوات» و«الكتائب» ووقوفهم في وجه «حزب الله! فيما كان وزير الدفاع يوآف غالانت يهدد قبل سويعات من الحادثة بإعادة لبنان إلى العصر الحجري مؤكداً أن بلاده مستعدة للحرب لكنها لا تريدها.
وسط كل ذلك تستمر الاستفزازات الإسرائيلية اليومية عند الحدود الجنوبية فيما يخوض لبنان معركته في مجلس الأمن لإعادة اليونيفل إلى قواعد 2006 في 31 من شهر آب (أغسطس) الحالي، على خلفية الإهمال الرسمي اللبناني الذي سمح العام الماضي للقوات الدولية بهامش أوسع على صعيد التنقل بما في ذلك القيام بدوريات مستقلة من دون مشاركة الجيش اللبناني.
في المحصّلة، وبحسب مصادر أمنية، فإن بث الشائعات لتغطية الاعتداء على طاقم الشاحنة واستخدامه للتصويب على المقاومة وسلاحها كان من فعل قوى سياسية وجدت في الحادثة فرصة للتحريض واستثارة العصبيات. كما لا يخفى على أحد أهمية توقيت إعلان رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل عن اتفاق أولي مع «حزب الله» على مسار اسم توافقي وتسهيل الاسم مقابل مطالب وطنية. وفي هذا الإطار ذكرت صحيفة «الأخبار» اللبنانية أن الحوار بين «التيار» و«الحزب» محطة يُبنى عليها لدى الجميع فيما يراها البعض كابوساً نظراً لأن اتفاق الطرفين سيشكل نقلة نوعية في الملف الرئاسي وقد يدفع أحزاباً وتيارات إلى إعادة حساباتها. كما تحدثت الأخبار عن تقدم جدي حصل على خط الحوار بين القطبين ما استدعى استنفاراً لدى فريق المعارضة فجّره رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع واصفاً التحالف بينهما بـ«الشيطاني». هو توظيف سياسي هدفه واضح، وهو استخدام سلاح الأمن في الصراع السياسي والضغط في الاستحقاقات، وتحديداً استحقاق رئاسة الجمهورية. تعكير الاستقرار الأمني وزجّ اسم المقاومة كل مرة من دون أي دليل هو للضغط عليها ولدفعها إلى التنازل عن بعض خياراتها داخل الحدود وخارجها.
Leave a Reply