محمد العزير
منتصف شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وبعد خمسة أسابيع على «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة، ومع انكشاف حجم الفظاعات والجرائم الجماعية التي ترتكبها القوات الصهيونية ضد المدنيين، وتجاوز عدد الضحايا –حينها– عتبة العشرة آلاف فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء، وانتشار صور الدمار الهائل في الأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس، انطلقت من تل أبيب حملة إعلامية منظمة تتهم المقاتلين الفلسطينيين الذين اقتحموا غلاف غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 باغتصاب عشرات النساء الإسرائيليات واستخدام ذلك كسلاح ترهيبي ممنهج يستدعي تحقيقاً دولياً عاجلاً كونه جريمة حرب، ويستحق الإدانة العالمية على أوسع نطاق، وسرعان ما تلقف الإعلام الغربي، خصوصاً في بريطانيا وأميركا، المزاعم الإسرائيلية وحولها إلى مادة رئيسية في تغطيته لمجريات الأحداث.
ليس غريباً على إسرائيل لعب دور الضحية الأبدية، هذا الدور الذي كان المدماك الأول لنشأة الكيان الذي احترفه جيداً وحرص على تطويره وتجديده بصور وأشكال لا تحصى لأكثر من سبعة عقود تحولت فيها إسرائيل إلى المصدر الأول للعدوان والتجبر والغطرسة والاحتلال في الشرق الأوسط. لذلك لم يكن مفاجئاً لجوء تل أبيب إلى فبركة تهمة الاغتصاب بعدما فشلت رواياتها الأولى عن استهداف «طوفان الأقصى» للمدنيين وعن قطع رؤوس الأطفال وعن الإعدامات الميدانية إذ تبين تباعاً زيف هذه الادعاءات، خصوصاً بعد إطلاق سراح النساء والمسنين الذين لم تطابق شهاداتهم (التي تم طمسها إعلامياً) المزاعم الإسرائيلية، وبعد التحول الكبير في الرأي العام العالمي إزاء الوحشية الصهيونية على الأرض، والعنصرية الفاشية المفرطة على الشاشات لكبار المسؤولين في تل أبيب الذين لم يتورّعوا عن دعوات الإبادة والعقاب الجماعي والترحيل.
لم تكن دعاوى الاغتصاب المفبركة والمتأخرة أوفر حظاً من سابقاتها، على الرغم من التبني الإعلامي لها من مؤسسات نافذة مثل «نيويورك تايمز» و«سي أن أن» و«بي بي سي»، والسبب في ذلك بسيط جداً، وهو استناد الرواية الإسرائيلية ومروجيها إلى شهادات وروايات غير موثوقة من مصادر مشكوك في نزاهتها، فضلاً عن عدم وجود أية شهادة أولية لأية ضحية اغتصاب، لكن الأهم هو شهادات النساء اللواتي جلبن إلى غزة كرهائن وتم الإفراج عنهن لاحقاً واللواتي لم تذكر أي منهن أي شيء عن اعتداءات جنسية قبل احتجازهن أو أثناء وجودهن تحت السيطرة الكاملة للمقاتلين في غزة لمدة طويلة نسبياً، لذلك كان بديهياً لمن يريد معرفة الحقيقة أن يدقق في الرواية الإسرائيلية وتفاصيلها.
الملفت أن الحملة الإسرائيلية انطلقت على لسان رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي أورد الاتهامات في معرض تبريره لحرب الإبادة ضد غزة وأوعز إلى وزارة الخارجية بمتابعة الأمر، ويبدو واضحاً من الإيعاز بأن المطلوب ليس معرفة الحقيقة ولا إنصاف الضحايا، فذلك أمر منوط بوزارات مختلفة، بل كان المطلوب من الخارجية استثمار الحملة دولياً للتحامل على الفلسطينيين «الجناة» وحشد المزيد من التعاطف مع إسرائيل «الضحية». لم يختر نتنياهو التوقيت عبثاً، ففي الخامس العشرين من نوفمبر أعلنت الخارجية تخصيص يوم عالمي لإزالة العنف ضد النساء، وفي اليوم التالي نشرت مؤسسة «أطباء لحقوق الإنسان في إسرائيل» PHRI تقريراً عن حالات الاغتصاب المزعومة لم تلتزم فيه بأي من شروط التحقيق في مثل هذه الحالات، استند التقرير إلى أخبار وردت في صحف ومواقع إسرائيلية وغربية، وإلى أقوال مسؤولين إسرائيليين في جلسات استماع سرية في الكنيست! وقد اعترف مدير النزاهة في المؤسسة، هاداس زيف، في مقابلة لاحقة مع مجلة «نيويوركر»، وهو الذي كتب تقرير PHRI، أنه «لم تكن هناك أية مقابلة مع شهود حقيقيين». كذلك لم يرد في التقرير أي ذكر لأي تدقيق في مصداقية أي من الروايات التي تضمنها، بينما اعتمد أقوال مؤسسة إسرائيلية تترأسها كوتشاف ليفي وهي موظفة سابقة في مكتب المدعي العام في إسرائيل.
في التفاصيل أيضاً، أن أبرز مذيعي «سي أن أن» جايك تابر أعد حلقة خاصة من برنامجه عن حالات الاغتصاب المزعومة، استضاف فيها من أسماهم خبراء في هذا المجال، أولهم كوتشاف ليفي! والتي في سجلها أيضاً تأليف كتاب توجيهي لكيفية التعامل مع السجناء الفلسطينيين المضربين عن الطعام تضمّن إجازة إطعام السجناء بالقوة. كذلك وردت في الحلقة مقابلة مع جندي إسرائيلي لم يكشف عن اسمه أو وجهه ادعى انه ينتمي إلى الوحدة 669 في القوات الجوية وأنه عثر في منزل في مستوطنة بيئيري على جثتي شقيقتين (13 و16 سنة) وأن إحداهما كانت عارية وعلى جسدها بقايا سائل منوي. لكن مراجعة التقارير الصحفية الإسرائيلية التي تناولت بالتفصيل أماكن وأسماء الضحايا لم تشر إلى وجود الشقيقتين معاً حيث كانت الأولى مع والدتها والثانية في مكان آخر مع والدها، كذلك تبين أن الجندي نفسه سبق له أن أجرى مقابلة بترتيب من مكتب رئيس الحكومة مع محطة إخبارية هندية يمينية قبل ذلك بثلاثة أسابيع قال فيها إنه عثر على الجثتين في مستوطنة ناحال عوز! والملفت أن الصحف الإسرائيلية لم تأخذ هذه المعلومات على محمل الجد.
وزيادة في التلفيق تبين من التقارير الإسرائيلية أن الوحدة 669 التي ادعى الانتماء إليها لم تكن تخدم في المستوطنة الأولى التي ذكرها. كما استضافت الحلقة فتاة إسرائيلية لم تكشف اسمها قالت إنها تعمل كمتطوعة في مشرحة ليتبين لاحقاً أنها متطوعة برتبة عريف في الجيش وأنها أجرت مقابلة قبل أسبوعين مع موقع Ynet الإسرائيلي لم تذكر فيها أي شيء عن الاغتصاب.
أما «النيويورك تايمز» فنشرت تقريراً مفصلاً عن الاعتداءات الجنسية قالت فيه إنها أجرت 150 مقابلة لتخلص إلى أن «حماس» ارتكبت عمليات اغتصاب واسعة النطاق. واحتوى التقرير على إعادة صياغة لمزاعم إسرائيلية تبين عدم صحتها، إلا أن القصة الأبرز في التقرير تمحورت حول السيدة غال عبدوش التي قتلت مع زوجها ناجي عبدوش في السابع من أكتوبر. واستند التقرير إلى ما وصفه بـ«فيديو» انتشر على نطاق واسع لجثة سيدة ترتدي فستاناً أسود يظهر أنها تعرضت للاغتصاب. لكن التقرير لم يتضمن أي رابط للفيديو المزعوم، وتبين أن الحساب الذي قيل إنه نشر عليه اختفى عن الإنترنت. ولم تتأخر تفاصيل الفبركة في الظهور تباعاً. ففي مقابلة لموقع إسرائيلي مع السيدة آتي براحا –والدة عبدوش– بعد يوم على نشر التقرير قالت: «لم نكن على علم بأي اغتصاب أبداً، عرفنا بذلك بعدما اتصل بنا صحافيون من «نيويورك تايمز» وقالوا إنهم اطلعوا على أدلة تشير إلى ذلك». أما نسيم عبدوش فقال في مقابلة مع القناة 13 في التلفزيون الإسرائيلي إن زوجة شقيقه لم تتعرض للاغتصاب وإن شقيقه اتصل به في السابعة صباح السابع من أكتوبر وأخبره بمقتلها، وأنه قتل بعد ذلك بعدما بعث رسالة نصية عند الساعة السابعة و44 دقيقة يوصي عائلته بأولاده. وأكد أن شقيقه لم يذكر أي اعتداء جنسي كما لم تتبلغ العائلة من أية جهة رسمية أي شيء عن ذلك. كما نشرت شقيقة عبدوش ميرال ألتار تعليقاً قالت فيه إن شقيقتها تواصلت معها في السادسة و51 دقيقة صباحاً أي قبل مقتلها بـ9 دقائق. وأعربت ألتار عن سخطها من التقارير وأكدت أن شقيقتها لم تتعرض للاغتصاب.
هذه عينات يسيرة من الفبركات التي تتوالى على أمل أن تلقى أي منها شيئاً من المصداقية المفقودة، لكن هيمنة الصهيونية على الإعلام العالمي وإن كانت لا تزال تجد آذاناً صاغية في مؤسسات عريقة، بدأت في التلاشي التدريجي خصوصاً في أذهان الناس الذين سئموا ادعاءات الضحية المزيفة. وقد استفادت هذه المقالة كثيراً من الجهود الاستقصائية الباهرة لمواقع إخبارية أميركية لا تزال تقيم وزناً للحقائق والحق وأبرزها موقع Mondoweiss.
Leave a Reply