محمد العزير
ليس مفاجئاً ولا غريباً أن تستنفر المؤسسات الصهيونية والقوى المؤيدة لإسرائيل كل قواها في هذا الوقت الذي تشن فيه دولة الاحتلال حرب الإبادة الموصوفة ضد الشعب الفلسطيني بدعم أميركي كامل وتواطؤ مخزٍ من كثير من حكومات أوروبا الغربية وبعض أنظمة الاستبداد الكبيرة والصغيرة التي تستلهم سياسة الفصل العنصري والقمع الدموي لفرض إرداتها على الأقليات العرقية أو الدينية، من الهند والأرجنتين إلى الباراغوي وليبيريا وغواتيمالا.
وما يزيد من توتر تلك المؤسسات والقوى، الشديدة التنظيم والتمويل، أنها للمرة الأولى تشعر أنها لم تعد قادرة على ممارسة نفوذها التقليدي على الإعلام والشارع في الولايات المتحدة التي استعادت نبض الحركات المناهضة للحرب بزخم كبير وشهدت مسيرات واحتجاجات شعبية وشبابية وطلابية ترفض بوضوح، السياسة الهمجية الإسرائيلية في غزة منذ «طوفان الأقصى» في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وتسفّه الحجج الواهية التي يروّجها الاحتلال الصهيوني وإدارة بايدن واليمين الديني الأميركي لتبرير التطهير العنصري الفظّ الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني المكوّن في معظمه من لاجئين على أرضهم منذ نكبة 1948 ونكسة 1967، وهذه المرة تبدو الرسالة واضحة وجلية في التمييز بين ضحايا النازية الألمانية الشنيعة التي مارست على يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، ما تمارسه إسرائيل بدرجات متفاوتة على الفلسطينيين في سياق «الهندسة الاجتماعية» نفسها والتي قادت إلى المحرقة.
ولأن مؤيدي الصهيونية فقدوا مؤخراً قبضتهم التاريخية المؤثرة على الرأي العام أمام هول الجرائم التي لم يحجبها الحصار ولا قتل الصحافيين ولا قطع الإنترنت، فقدوا أعصابهم، وصاروا يبحثون عن أهداف يعتقدون أنها سهلة المنال وقابلة للتنميط والتشهير، وهم محترفون في هذه اللعبة، لعبة شيطنة شخصيات معروفة ونافذة ذات حيثية عامة يمكن تعريفها للتصويب عليها وتجييش أذرعها الإعلامية والإعلانية للتضييق عليها والاستفراد بها لمعاقبتها وعزلها وجعلها عبرة لمن يعتبر. المسألة ليست جديدة ولا طارئة، ففي العام 1985، نشر السناتور الأميركي الراحل بول فندلي كتابه الشهير «من يجرؤ على الكلام» الذي فضح فيه أساليب اللوبي المؤيد لإسرائيل، الذي وظّف إمكاناته الهائلة لهزيمته في ولاية إيلينوي بسبب مواقفه المناهضة للحرب والعنف، وكشف فيما يشبه عاصفة إعلامية في حينه، كيفية استغلال مؤيدي إسرائيل للنظام الأميركي لدعم الصهيونية بلا نقاش، وجعل إسرائيل امتداداً عضوياً للإرث الاستعماري بوكالة واشنطن، ومنع أي نقاش يتناول سياساتها العدوانية.
تأتي في هذا السياق، الحملة المنظمة التي تشنها المؤسسات الصهيونية وبعض الصحف والمنصات الإعلامية المؤيدة لها ضد ناشر صحيفة «صدى الوطن» ورئيس تحريرها الزميل أسامة السبلاني، بعد لقائه مع مسؤولين في البيت الأبيض لمناقشة الموقف العربي الأميركي من سياسة الرئيس جوزيف بايدن الداعمة للحرب الإسرائيلية ضد غزة (راجع العدد السابق من صدى الوطن). وهكذا التقطت تلك المؤسسات وخصوصاً في منطقة ديترويت، الإشارة التي اطلقتها «رابطة مكافحة التشهير» المعروفة بتسلطها على كل من ينتقد إسرائيل ومحاولة تصنيف كل انتقاد في خانة معاداة السامية، وارتفعت أصوات الشخصيات والهيئات بشكل متناغم على المستويين الوطني والمحلي بدعم مكثف من إعلام اليمين الديني الأميركي ولاسيما شبكة «فوكس نيوز» للتشهير بالزميل السبلاني وتأليب الجمهور ضده وضد «صدى الوطن» مع ما يعني ذلك من مقاطعته مهنياً وعدم استضافته في برامج سياسية وحوارية طالما اطل منها للدفاع عن القضايا العربية وفي طليعتها فلسطين.
لم تجد الحملة الصهيونية الممنهجة ضد الزميل السبلاني، الذي يتم هذه السنة مع «صدى الوطن» أربعة عقود في العمل الإعلامي المؤسسي العربي الأميركي، أية اتهامات دامغة ضده سوى رفضه تصنيف القوى المعادية لإسرائيل والتي تواجه الاحتلال الغاشم في فلسطين ولبنان في خانة الإرهاب، وإصراره الواضح على دعم كل أشكال المقاومة والتنديد بالموقف الرسمي الأميركي مزدوج المعايير، ولم يكن في الجعبة الصهيونية سوى خطابات الزميل السبلاني في المواقف والمسيرات الإحتجاجية، ومواكبة «صدى الوطن» لأخبار فلسطين ولبنان وحرصها على فضح ممارسات الاحتلال التي تتماهى مع الممارسات الفاشية والنازية وتقوم على شكل فاقع من التمييز العنصري المدان في كل القوانين الدولية التي تنص صراحة على حق الشعوب في تقرير مصيرها ومقاومة العدوان بكافة أشكاله.
تنطوي الحملة الصهيونية المستجدة على مسعى قديم جداً يهدف إلى إسكات أي صوت معارض، وكأن العربي الأميركي أقل مواطنية من بقية الأميركيين، وبالتالي لا تشمله الحقوق المنصوص عنها في الدستور وفي مقدمتها حرية التعبير، أو كأن من حق الصهيوني الأميركي سواء كان يهودياً أو غير يهودي أن يدعم إسرائيل ويبرر الاحتلال ويجمع التبرعات للمستوطنات غير الشرعية، وكل المستوطنات غير شرعية حتى بموجب القانون الأميركي نفسه، وأن يزور فلسطين المحتلة ويتطوع في القوات المسلحة والبؤر الاستطيانية، وأن يدعو علناً لترحيل الفلسطينيين وقتلهم وسحلهم، بينما لا يحق للعربي الأميركي أن يتحدث عن الفصل العنصري أو الدفاع عن الحقوق الفلسطينية والعربية، واعتبار ذلك نوعاً من مساندة «الإرهاب».
ينسى القائمون على هذه الحملة والذين يحتمون خلف التصنيف الأميركي الرسمي للمقاومة في خانة الإرهاب، أن سياسة واشنطن، كانت على مرّ العقود، جائرة ومنحازة للإرث الاستعماري الأوروبي، إذ تطول لائحة حركات المقاومة وشخصياتها المصنفة «إرهابية» من الهند وغاندي إلى جنوب إفريقيا ومانديلا إلى فيتنام وهوشي منه، إلى إيرلندا والجيش الجمهوري، إلى كل حركات التحرر في أميركا الجنوبية، وهي لائحة عار ما لبث انكشاف سخافتها وتهافتها أمام إرادة الشعوب التي مارست حقها في الحياة، ويحاولون الآن تعميم التصنيف نفسه على فلسطين والعرب وكأنهم لا يعرفون أن عجلة التاريخ لا تتوقف أمام العناد الاستعماري مهما بلغ جبروته وإجرامه ومهما تناسخت أشكال العدوان وتناسلت ومهما علا صوت الهيمنة واجتهد في تثبيت رواياته الأحادية وشيطنة أصحاب الضمائر الحيّة والملتزمين بنصرة الحق من منطلق إنساني، ويغيب عن أذهان المتحاملين، أو يصرون على تجاهل حقيقة تزعجهم كثيراً وهي الانخراط الواسع لليهود الأميركيين أفراداً ومؤسسات في التصدي للعنصرية الصهيونية إلى جانب شرائح واسعة من الشباب والطلاب والكنائس الأميركية.
تخطئ الحملة الصهيونية إذ تعتقد أنها قادرة على ترهيب الزميل أسامة السبلاني وإسكاته، ليس لأنه إعلامي بارز ومحرك فعال في العمل المؤسسي وصوت مرتفع في وجه الهيمنة وحسب، بل لأنه رمز أساس في مجتمع عربي أميركي يعي تماماً حقوقه ودوره ويراكم تجربته المميزة ويرفض الإذعان والسكوت عن الحق. أسامة السبلاني لن يكون هدفاً سهلاً للمتحاملين، والهجوم عليه ومحاولة التشهير به وعزله ليست ولن تكون مسألة شخصية، إنها حملة لئيمة ضد العرب الأميركيين جميعاً، وسيكون جلياً عاجلاً وليس آجلاً، أن الذي أجبر البيت الأبيض على إرسال وفده رفيع المستوى للحوار مع العرب الأميركيين ومعرفة آرائهم على أمل استعادة دعمهم الانتخابي، سينجح في رد كيد الحملة إلى نحور مصادرها وفي مواصلة الحراك الفعال نصرة لحق لا لبس فيه.
Leave a Reply