ديربورن – طارق عبدالواحد
حتى المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه لم يُستثنَ من التوقيف في مطار ديترويت الدولي، للإجابة على أسئلة السلطات الأمنية الأميركية التي امتدت لأكثر من ساعتين والتي تضمنت الاستفسار حول موقفه من شعار «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر»، وكما هو متوقع لم يكن الجواب مخاتلاً أو متعلثماً : «بالطبع أنا أؤيد ذلك!»، ما أطلق موجة من التصفيق المدوّي –وقوفاً– في صالة «نادي بنت جبيل الثقافي» بديربورن، التي استضافت مساء الاثنين الماضي الكاتب الإسرائيلي المنشق في محاضرة بعنوان «غزة في السياق: الماضي، الحاضر، والمستقبل».
مئات الحاضرين، من عديد الخلفيات الثقافية والعرقية، لبّوا الدعوة إلى الأمسية التي نظّمتها مؤسسة «الندوة للفكر الحر»، صفّقوا أيضاً للباحث والأكاديمي الذي افتتح محاضرته بالإعراب عن أمنيته –وكذلك إيمانه العميق– بعودة فلسطين في المستقبل بكل «جمالها ومجدها اللذين كانا قبل عام 1948 عندما كان العرب واليهود يتنقلون بين المدن الفلسطينية وبين المدن العربية الأخرى بدون أية عوائق أو مشقّات».
نكبة 1948، مثّلت أهم المفاصل السياسية ليس في فلسطين وحدها، وإنما في عموم منطقة الشرق الأوسط، بحسب بابيه، الذي أوضح بأن النكبة بدأت في الأراضي المحتلة منذ عشرينيات القرن المنصرم ولا تزال مستمرة حتى الآن بطريقة أكثر عنفاً ووحشية من خلال الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة منذ تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، والتي تنبني بشكل أساسي على سياسات التطهير العرقي الممنهجة المثبتة في الأراشيف والوثائق التي رُفعت عنها السرية في كل من إسرائيل وبريطانيا.
وفي الإطار، لفت بابيه إلى أهمية التاريخ لفهم مجريات وتداعيات الأحداث السياسية في عالمنا المعاصر، وقال إن التاريخ في الحالة الفلسطينية يشكل كلمة السرّ المفتاحية لإدراك مغزى ما يحدث في الأراضي المحتلة خلال الأشهر الأخيرة، مستهجناً المحاولات المستميتة لوسائل إعلام التيار الرئيسي لاحتكار سردية الحرب بشكل حصري، من أجل تحقيق هدف نهائي يتمثل في إدانة حركات المقاومة الفلسطينية ووصمها بالإرهاب.
واستدرك بابيه (69 عاماً) بأن بعض الأكاديميين الغربيين الذين لا يستطيعون التنصل من الاستلزامات الأكاديمية يعترفون بأهمية «السياق التاريخي للقضية الفلسطينية»، ولكنهم يناورون ويلجؤون إلى ليّ أعناق الحقائق، عبر محاولة إدراج عملية «طوفان الأقصى» في سياق «الرغبة الفلسطينية بالقضاء على جميع اليهود وإغراقهم في البحر».
ولفت صاحب كتاب «التطهير العرقي في فلسطين» في سياق تحليله لجرائم الإبادة الجماعية في القطاع المنكوب إلى أن المشروع الصهيوني يعتبر «فلسطين من النهر إلى البحر فضاءً يهودياً»، ويرى أن اليهودية هي القومية الشرعية الوحيدة داخل ذلك الفضاء، منكراً إنكاراً تاماً أية إمكانية لوجود الفلسطينيين داخل الدولة العبرية. وقال: «يمكن أن نفهم بأن الحرب تنتج لاجئين، ولكن الحروب الإسرائيلية كانت دوماً الوسيلة لتهجير الفلسطينيين من خلال رؤية مسبقة وممنهجة، ومن هنا فإن جميع المذابح التي صاحبت التطهير العرقي لم تحدث صدفة، وإنما ارتكبت بنيّة مبيّتة لتسريع التهجير الفلسطيني».
وأضاف مدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بـ«جامعة إكستر» في المملكة المتحدة، والمدير المشارك لمركز الدراسات العرقية والسياسية في الجامعة نفسها، بأن القارئ الجيد للتاريخ هو وحده من يفهم كيف أمكن للمذابح التي ارتكبت قبل عام 1948 أن تستمر بشكل أكثر بشاعة في عام 2023.
وأكد بابيه بأن الدعم الأميركي والأوروبي لإسرائيل لن يتراجع برغم موجات الاحتجاج الشعبية والطلابية المتنامية في الغرب، وذلك بالاستناد إلى حقائق التاريخ التي تكشف بأن «المشروع الصهيوني» هو في أصله مشروع غربي وجد فيه بعض اليهود تبريراً منطقياً لعودتهم إلى أرض إسرائيل بعد ألفي عام، وقال بأن التوراة لا تتضمن مطلقاً أية إشارة لليهود، وأنها تتضمن مصطلح «بني إسرائيل» عوضاً عن ذلك، إلا أن المنظّرين المسيحيين الإنجيليين تلاعبوا بتلك الفكرة لإقناع العبرانيين بـ«العودة إلى أرض آبائهم وأجدادهم»، مضيفاً بالإشارة إلى أن الكثيرين يعتقدون بوجود لوبي إسرائيلي قوي في الولايات المتحدة، غير أن الحقيقة تتمثل في كون اللوبي المسيحي اليميني المؤيد لإسرائيل أكثر قوة وتأثيراً في أوساط صناعة القرار بالعاصمة الأميركية واشنطن.
بابيه الذي خدم في الجيش الإسرائيلي خلال حرب 1973، أكّد أيضاً بأن نشاط حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة أمر مفهوم في سياق السياسات الإسرائيلية التي فرضت على حوالي مليون ونصف مليون فلسطيني حصاراً خانقاً لنحو عقدين من الزمن، وقال: «إذا أخذنا بعين الاعتبار أن 70 بالمئة من سكان القطاع هم في الأساس لاجئون من الجيل الثالث من الفلسطينيين الذين تم تهجيرهم من مختلف القرى والمدن الفلسطينية قبل عام 1948، فما الذي يمكن أن نتوقعه مع استمرار إسرائيل في بناء المستوطنات وإخلاء المنازل وتجريف الأراضي وزج الشبان في السجون بدون محاكمات»، متسائلاً كم يمكن للمرء أن يتحمل من معاملته بتلك الطريقة الوحشية؟
وأضاف بأن 50 بالمئة من سكان القطاع هم من الأطفال الذين يكبرون وهم يعانون الظلم والحرمان، فهل للعالم أن يتساءل عن الآثار النفسية على هؤلاء الأطفال من جراء الاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، والتي باتت في الوقت الحاضر تبث مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت متاحة للجميع في هذه الأيام؟
وفي سياق آخر، بشّر بابيه بانهيار «المشروع الصهيوني» داعياً الفلسطينيين وبقية العرب في الشرق الأوسط للتحضر لاستيعاب تداعيات غيابه، وقال: «كمؤرخ، إنني أرى المشروع الصهيوني في طوره الأخير، وأعلم بأن بداية النهاية قد تستغرق فترة طويلة بكل أسف»، مضيفاً بأن الفترة المقبلة ستكون «بالغة الخطورة». وتابع: «عندما أتحدث عن تفكك المشروع الصهيوني، يظن الكثيرون بأنني أفكر تفكيراً وردياً، ولكن بصفتي ناشطاً وعالماً، أستطيع القول إن ذلك المشروع يتآكل ولا أحد سيتمكن من وقف انهياره».
وأكد على أن انهيار كل مشروع استعماري سيسفر عن نتائج «مؤلمة» بسبب الفوضى التي قد تنشأ عن غيابه، ولذلك يتطلب الأمر من الفلسطينيين إعادة تنظيم صفوفهم وأفكارهم، لتجديد حركة التحرير الفلسطينية بحيث تضم جميع الفصائل، بما فيها حركتا «حماس» و«الجهاد»، وبحيث تمتلك رؤية واضحة حول «فلسطين المحررة».
وفي ختام اللقاء، اصطف عشرات الحضور في طابورين طويلين لتوجيه أسئلتهم إلى الأكاديمي المنبوذ في إسرائيل، والتي تضمن الكثير منها استفسارات حول الداخل الإسرائيلي والدور الأميركي الداعم للدولة العبرية، وكان لإجابات بابيه –التي يمكن إدراجها في سياق: وشهد شاهد من أهلها– أثر ملموس في توضيح المشهد المتأزم في الأراضي المحتلة. وكانت الأجوبة في جملتها تذكر بأجوبة الشاعر الفلسطيني محمود درويش في فيلم «موسيقانا» للمخرج الفرنسي الكبير جان لوك غودار، حيث قال للفتاة اليهودية التي تجري مقابلة معه: «هل تعلمين لماذا نحن الفلسطينيين مشهورون؟ لأنكم أنتم أعداؤنا. إن الاهتمام بنا نابع من الاهتمام بالمسألة اليهودية. نعم، الاهتمام بك أنت، وليس الاهتمام بي أنا. إذن نحن قليلو الحظ في أن تكون إسرائيل عدونا لأنها تحظى بمؤيدين لا حدود لهم في العالم، ونحن أيضاً محظوظون لأن تكون إسرائيل عدونا، لأنكم ألحقتم بنا الهزيمة ومنحتمونا الشهرة». فتقاطعه الفتاة اليهودية، بالقول: «نحن إذن وزارة دعايتكم»، فيعلق درويش: «نعم أنتم وزارة دعايتنا».
Leave a Reply